الأستاذ الإمام، العالم العلامة الهمام، نخبة الأعيان، المكسو بأنوار المهابة والعرفان، الجامع بين فتنة الجمال وسطوة الجلال، الحائز قَصَبَ السَّبق في كل خلق، نوارني محمدي بمنة الكريم المفضال، الولي الصالح، والكوكب الواضح، شيخ الطريقة، وإمام الطالبين للحقيقة، محيي رسوم الطريق بعد دروسها، ومظهر معالم التصوف بعد أفول شموسها، ومربي المريدين، وعمدة السالكين، قمر الدَّياجي، المهتدى به في ظلمات المحسوسات والمعاني، وشمس الضواحي الساترة لكل مضاد ومعاني، عمدتي وملاذي، ومن على الله وعليه اعتمادي، العارف الرباني، والولي الصمداني، شيخنا ووسيلتنا إلى الله، أبو الفضل سيدنا ومولانا فتح الله، نجلُ شيخ الطريق، ومعدن السلوك والتحقيق، سيدنا أبي بكر الفقيه العلامة أبي عبد الله سيدي محمد بن الفقيه العلامة القاضي الأمثل سيدي عبد الله بن الفقيه
العلامة أبي عبد الله سيدي محمد بن الفقيه العلامة سيدي عبد السلام بناني، نفعنا الله والمسلمين ببركاته، بجاه النبيِّ العدناني صلى الله عليه وسلم.
ولد حفظه الله وحماه في شهر رجب الفرد سنة إحدى وثمانين ومئتين وألف برباط الفتح، حيث هو الآن، حرسه الله، وأصله من فاس، وكان جدهم سيدي عبد السلام المذكور آخر النسب، قدم منها بأمر مولوي أسماه الله لنشر العلم بالبلدة المذكورة، فبقي أولاده بها إلى الآن. وبيتهم بيت علم ودين وولاية وصلاح، خلفًا عن سلف رضى الله عنهم، ببركة محبتهم له عليه الصلاة والسلام ولآل بيته صلى الله عليه وسلم.
توفي والده رضى الله عنه وتركه ابن ثلاث سنين، فنشأ وتربى في حِجر ساداتنا أكابر أصحاب والده رضى الله عنه، أحسن نشأةٍ وتربية، في طاعة ربِّ البرية، وأحسنوا إليه وإلى إخوته غاية الإحسان، وفاءً بعهد والدهم رضى الله عنه، لما له عليهم من كمال الفضل والامتنان، وقرأ القرآن العظيم على الأستاذ الفاضل، الولي الكامل، سيدي الهاشمي القصري أبقى الله بركته، وقد سلب الإرادة إليه اليوم، ومدحه بأبيات مذكورة في «الفتح»، وأثناء القراءة عليه قرأ أيضًا جملة صالحة منه على الشريف الجليل مولانا علي بن مولانا أحمد النجار، نفعنا الله بهما، المتوفى سنة ست وتسعين ومئتين وألف رحمه الله، وكان يعظم سيدنا الشيخ ويحترمه ويكرمه كالشيخ قبله، ولما كَمُلتْ نجابته رضى الله عنه، وحفظ القرآن العظيم، وبعض متون الأمهات، اشتغل بقراءة العلم الشريف على مشايخ كثيرين في بلده رباط الفتح، وغيرها.
منهم: أخوه وشقيقه الشيخ الإمام الدّراكة الهمام، الجامع بين الشريعة والحقيقة، سيدنا ومولانا زين العابدين جدد الله عليه سحائب الرحمات، وأسكنه بمنه فسيح الجنات آمين.
ولد سنة سبع وسبعين ومئتين وألف، وتُوفّي يوم الثلاثاء ثامن عشر جمادى الثانية سنة عشر وثلاث مئة وألف، ودفن بلصق قبر والده بزاويته رضى الله عنه.
وكان علاّمة وقته، وفريد نعته، قرأ عليه شيئًا من النحو والتصريف والبيان والفقه والحديث وغير ذلك.
وفُتح عليه في علم الظاهر ببركته رضى الله عنه، وكان متأدبًا معه غاية الأدب، وكان يعظم سيدنا الشيخ ويحترمه، ويشهد له بالفضيلة.
ولما رجع سيدنا من حجه وزيارته أوائل سنة عشر، طلب منه أن يجلس بجنبه في الدرس، ولا يجلس أمامه لما شاهده فيه من النورانية الخاصة، فامتنع سيدنا من ذلك تأدبًا معه رضي الله عنهم ونفعنا بهم أجمعين.
ومنهم: شيخُ الجماعة، الإمام الأعظم، والهمام الأفحم، العلامة المشارك سيدي الحاج إبراهيم بن سيدي محمد التادلي، أجزل الله أجره، وخلد في الصالحين ذكره.
وكان من العلماء العاملين، قرأ عليه فنونًا عديدة كالنحو، والأصول، والفقه، والحديث، والتوحيد، وغير ذلك من الفنون.
وكان شاذلي الطريق رضى الله عنه، وكان يحب سيدنا الشيخ رضى الله عنه ويعظمه، ويطلب منه الدعاء الصالح، وأجازه بقراءة مئتين من سورة الإخلاص في كل يوم، وكذلك أجازه في العموم بجميع مروياته إجازتين، إحداهما: بواسطة أخيه المتقدم، والثانية: بواسطة شيخه سيدي الهاشمي الحجوي رحمه الله المتوفى عام خمسة عشر وثلاث مئة وألف، والإجازتان مثبتتان في «طبقات» سيدنا رضى الله عنه، المسماة بـ «المجد الشامخ فيمن اجتمع بهم من أعيان المشايخ» المشتمل عليها «الفتح الرباني في التعريف بسيدنا فتح الله بن الشيخ سيدي أبي بكر بناني» فراجعه تر ما يسرُّك ببركة النبيِّ العدناني صلى الله عليه وسلم.
توفي هذا الشيخ رضى الله عنه ليلة الجمعة الثامنة عشرة من ذي الحجة الحرام عام أحد عشر وثلاث مئة وألف.
ومنهم الشيخ الإمام الفقيه العلامة الهمام سيدي الجيلاني بن إبراهيم حفظه الله، ولا زال بقيد الحياة، وهو عالم خيِّرٌ دين فاضل شديد الشكيمة([1]) في دين الله.
قال سيدنا رضى الله عنه في «طبقاته»: وجل قراءتنا كانت على هؤلاء الأعلام الثلاثة المذكورين، وبنظرتهم ونظرة الأكابر الذين قرأنا عليهم، واجتمعنا بهم، حصَّلتُ ما حصَّلتُ، فإن السر في النظرة، وبها تنقطع التقولات الموجبة للندامة والحسرة، كما قال عالم الحضرة إمامنا مالك رضى الله عنه([2]): ليس العلم بكثرة الرواية، وإنما العلم نور يضعه الله في قلوب المحبوبين من عبيده رضي الله عنهم وجعلنا منهم آمين.
وقال رضى الله عنه: العلم نَفُورٌ، لا يأنس إلا بقلب تقيٍّ، أكرمنا الله بالتقوى، في السر والنجوى. آمين. انتهى.
وأما المشايخ الذين حضر دروسهم، أو اجتمع بهم على سبيل التبرُّكِ في المشرق والمغرب فلا يحصون كثرةً.
وأجازه الأئمة الأعلام كشيخ الجماعة سيدي إبراهيم المتقدم، والفقيه العلامة الشريف الحسني سيدي محمد بن سيدي جعفر الكتاني الفاسي حفظه الله، والعلامة المحدث سيدي محمد بن خليفة المدني رحمه الله، والفقيه العلامة شيخ الجماعة بالشام سيدي بكري العطار الدمشقي رحمه الله، والفقيه العلامة المحقق سيدي يوسف ابن إسماعيل النبهاني، والعلامة الشهير سيدي عبد المجيد بن محمود الدرغوثي المغربي الطرابلسي الشامي، والعلامة الشيخ إبراهيم السندروسي حفظهم الله، إلى غير ذلك من الأئمة الأعلام، الأجلّة العظام، الذين أخذ عنهم، وانتفع بهم رضى الله عنه، وإجازاتهم مذكورة في «طبقاته»، وقد قال فيها حفظه الله ما نصه: من مِنَنِ الله عليَّ بفضله وكرمه أنني ما علمت أبدًا أن أحدًا من الكبراء والأعيان ساداتنا المشايخ الآتين، وغيرهم بحول الملك الديَّان طلبت منه إجازة بشيء ما بإلهام رباني، ووارد نوراني، وامتنع؛ بل منهم من يجيزني بفضل الله بدون طلب لساني، فأتلقى ذلك بالقبول، متمثلًا بقول بعض الفحول:
ما كنتُ أهلًا فهم رأوني |
* | لذاك أهلًا فصرتُ أَهلا |
انتهى.
وأخذ عنه جماعة من العلماء، كالفقيه العلامة سيدي أحمد بناني حفظه الله قاضي رباط الفتح سابقًا، والفقيه العلامة الشريف سيدي الحاج المكي البطاوري قاضي البلدة المذكورة حالًا حفظه الله، والشريف العلامة سيدي أحمد بن محمد العلمي الفاسي.
وأخذ عنه أيضًا جمعٌ من تلامذته، وأهل زاويته منهم: أخوه وشقيقه العالم الفاضل سيدي الماحي حفظه الله، والشريف الأجلُّ العلامة الصوفي الأكمل مولاي المأمون العلوي، والفقيه الأجل سيدي الغازي سباطة، والفقيه سيدي عمر ملين، وابن عمه العربي ابن أحمد النسب، والفقيه العالم سيدي الحاج محمد عاشور، والفقيه سيدي أحمد التادلي بن سيدنا إبراهيم المتقدم، وولد أخته الفقيه النبيه سيدي العباس دنية، والفقيه الخير سيدي محمد سباطة صاحب «الفتح الرباني» وغيرهم من الأكابر؛ أشراف، وعلماء، وصلحاء حفظهم الله تعالى جميعًا بمنه وكرمه.
وأخذ حفظه الله طريقة والده العلية التي هي الطريقة الشاذلية الدرقوية الدباغية عن مشايخ من أصحابه. أعني أصحاب والده القطب الرباني الولي الصمداني سيدنا أبي بكر البناني رضي الله عنه ونفعنا به.
وقد ترك رضي الله عنه ورحمه بعد وفاته جماعة وافرة في الرباط، وغيرهم من المشايخ الواصلين إلى حضرة رب العالمين.
وكان له قدم كبير في معرفة الله تعالى، ومعرفة الطريق الموصلة إليه، وإن أردتُ بسط ترجمته، وتراجم أصحابه؛ لتعرف ما كانوا عليه من الجدِّ والاجتهاد في طاعة الله عزَّ وجلَّ فعليك بـ «طبقات سيدنا الشيخ رضى الله عنه».
وقد كبر سيدنا حفظه الله في حجرهم على حالة مرضية من كمال الأدب معهم، والتوقير لكبيرهم وصغيرهم، بحيث كان بين أيديهم تلميذًا خادمًا، لا يعرف من بين الفقراء إلا بعد التنبيه والتعريف بفضل الكريم اللطيف، ولا يتظاهر عليهم بأُبَّهة ولا أنانية، حسبما هو شأن غالب أولاد المشايخ مع مريدي والدهم، إلا من أخذ الله بيدهم.
وكان يرى أصغر تلاميذ والده بالعين التي يرى بها والده رضى الله عنه.
يحكى أن بعض المشايخ العارفين قال له بعض أصحابه: متى أدرك مقامك يا سيدي؟ فقال له: إذا نظرت أصغر أصحابي بالعين التي تراني بها. أي من كمال التعظيم والاحترام والتوقير، أكرمنا الله بالحظ الأوفر من هذا المشهد العزيز.
وأول من أخذ عنه منهم: صهره وتلميذ والده العارف الرباني، الولي الصمداني، الصوفي الأمجد، الزاهد الأرشد، ذو الأحوال الربانية، والأخلاق المحمدية، أبو عبد الله سيدي الحاج محمد الخلطي الرباطي نفعنا الله به، كان إمامًا جليلًا، دينًا فاضلًا، جامعًا بين علمي الظاهر والباطن، وله باعٌ طويل فيهما، أما علم الظاهر فكان متقنًا للواجب عينًا منه، وأما علم الباطن فكان فيه بحرًا لا ساحل له، وكان يعجز الفحول عند المذاكرة، حتى كانوا يقولون له: يكفينا في مناقب شيخك سيدي أبي بكر البناني، كونك تلميذًا له.
وكان على قدم التجريد، ولبس المرقعةَ، حتى لقي الله تعالى زاهدًا في الدنيا، قانعًا باليسير منها، حسن الأخلاق التي عليها مدار طريق الصوفية رضي الله عنهم وجعلنا منهم، متواضعًا، لا يأنف من مجالسة الدراويش([3])، ويرضى بالدُّون من المجلس، ولا يتظاهر بأبَّهةٍ ولا أنانية.
وهو أول مُجيزٍ لسيدنا الشيخ رضى الله عنه بلبس الخرقة، وغيرها من وظائف الطريق.
وكان إذا أجازه بشيء من ذلك يقول له: إنما كان عندنا من سيدنا والدك على سبيل الأمانة لك رضى الله عنه.
وكان يلازم سيدنا جدًّا خلوة وجلوة، ليلًا ونهارًا، إبان تربيته، ويسيره تسييرًا عجيبًا، بلطافة وسياسة عجيبة، وبسببه فتح على سيدنا في طريق أهل الله رضي الله عنهم وجعلنا منهم في الدنيا والآخرة، بمنه وكرمه؛ إنه جوادٌ كريم، وإليه ينتسب إذا سئل عن شيخه.
ولهذا الشيخ رسائل عجيبة، مذكور بعضها في «طبقات سيدنا الشيخ رضى الله عنه».
توفي في صفر الخير عام اثنين وثلاث مئة وألف، رحمه الله رحمة واسعة.
ومنهم: تلميذ والده أيضًا الشيخ الإمام، القدوة الهمام، الصوفيُّ الأرشد، صاحب الأحوال الربانية، سيدي عبد السلام بن محمد فتحا بناني رضى الله عنه، كان إمامًا جليلًا، دائم الذكر والفكر، كامل الاستغراق في شهود عظمة الله تعالى، ناصحًا لعباد الله، مُحرِّضًا كل من اجتمع به على الانتساب إلى جانب الله، غائبًا عن شهود المزية لنفسه، فارًّا من الدعوى، مقتصرًا من الدنيا على ما تدعو إليه الضرورة، معتزلًا عن الخلق، لا يخالط أحدًا إلا لضرورة فبقدرها.
وقد أجاز سيدنا رضى الله عنه بإعطاء الطريق الشاذلية الدرقوية قديمًا بلفظه.
وعند إرادته القدوم إلى حج بيت الله الحرام، وزيارة حضرة نبينا عليه الصلاة والسلام، وذلك سنة تسع، أمر رحمه الله ولده بكتابة ذلك خطًّا لذهاب بصره إذ ذاك، وإجازته مثبتة في «طبقات سيدنا حفظه الله».
توفي رحمه الله بعد ظهر يوم الجمعة الثالث عشر من ذي الحجة الحرام عام سبعة عشر وثلاث مئة وألف، ودفن بزاوية شيخه سيدي أبي بكر بناني رضى الله عنه، كالشيخ قبله.
ومنهم: تلميذ والده أيضًا الشيخ الإمام، الصوفيُّ الهمام، سيد الحاج عليٌّ الدكالي رحمه الله ونفعنا به. آمين، أصله من دكالة([4])، وكان إمامًا جليلًا، مشتغلًا بما يعنيه، تاركًا لما لا يعنيه، صحيح القصد في حركاته وسكناته، كامل الاستغراق في محبة شيخه، متخليًا عن الدنيا على بساط التجريد منها.
ولما حانت وفاته رضى الله عنه صار يؤكد على ساداتنا الفقراء بشدِّ اليد على طاعة الله، واعتقاد سيدنا الشيخ، ومحبته وتعظيمه وتوقيره لله في الله.
وتوفي بسلا عام ثمانية عشر وثلاث مئة وألف، جدد الله عليه سحائب الرحمات، وأسكنه بمنه فسيح الجنات. آمين.
وهؤلاء المشايخ الثلاثة، أخذوا الطريقة عن شيخهم العارف الكبير، القطب الشهير، سيدنا ومولانا أبي بكر البناني المتقدم الذكر، وهو عن شيخه الشريف الحسني مولانا عبد الواحد الدباغ الفاسي، وهو عن سيدنا ومولانا العربي الدرقوي، إلى آخر السلسلة المنظومة في «التوسلات العلية برجال الطائفة الشاذلية الدرقوية» إلى غير ذلك من المشايخ الذين أَخذَ عنهم، وأجازوه، وانتفع بصحبتهم رضي الله عنهم ونفعنا بهم.
واجتمع أيضًا بعدد كثير منهم على سبيل الترقية والتبرك.
وله رضى الله عنه إجازات بطرق عديدة، كالناصرية، والقادرية، والتجانية، والأحمدية الإدريسية، والرفاعية، والباعلوية اليمنية، والعيسوية، وغيرها بفضل الله، وعطفة مولانا رسول الله عليه وآله سلام الله.
وصفته رضى الله عنه مربوع القامة، معتدل الجسم، أبيض اللون بياضًا مُشربًا بحمرة، أسود العشر، كثُّ اللحية، أقنى الأنف، أسيل الخدين، أَدعجُ العينين([5])، يمشي الهوينا([6]).
وأما سيرته وأحواله وأقواله وأفعاله رضى الله عنه فقد حاز -نفعنا الله به- من جميل الأخلاق، وجليل الأذواق، ودقائق المعارف، ورقائق العوارف ما عز نظيره في غيره، وقلَّ مثيله في أبناء عصره، متحققًا بالحقيقة في جميع الأحوال، متوسمًا بالشريعة في الأقوال والأفعال، بحيث لو عرضت جميع أقواله وأفعاله على الكتاب والسنة المحمدية، لوجدت لكل جليلة ودقيقة من شمائله شواهد مرضية.
قد علاه نور الجمال، وهيبة الجلال، تلحظه الأعين بالتعظيم والإجلال، من رآه بديهةً هابه؛ إرثًا محمديًّا رضى الله عنه، دائم العكوف على حضرة الحق، لا معول له إلا عليه، ولا استناد منه إلا إليه، لا يزيد فيه إقبال الخلق وتعظيمهم، ولا ينقص منه إدبارهم وتقصيرهم؛ لشدة فنائه في حضرة الله، لا يتكلم في غير حاجة، وإذا تكلم تكلم بكلام بين فصل يفهمه كل من سمعه، يأخذ بمجامع قلوب الأحباب، وتنقاد له الألباب، ويتكلم مع الفقراء على قدر أحوالهم ومقاماتهم، ولا يحب التخليط في المقام المؤدي إلى المراء والجدال في الكلام، ويكرر قول الشيخ مولاي العربي الدرقوي قدس سره: من التقوى مناسبة الكلام للكلام.
ولا يتكلف قدس سره في كلامه تحسين عبارة، ولا تنميق مذاكرة، بل يتكلم بحسب ما سمح له الوقت والزمان، وكذا إذا كان يؤلف كتابًا أو غيره، إنما يصير كأن ذلك محفوظ عنده، وينهى عن التكلف في جميع الأشياء، كالتكلف في الملبوس والطعام، وغير ذلك، ويقول: قال عليه الصلاة والسلام: «أنا وأتقياءُ أُمتي بُرآءُ من التكلّف»([7]). والتصوف ترك التكلف.
ولا يتقيد بزيٍّ مخصوص، ولا بهيئة مخصوصة، يأكلُ ما وجد، ويلبس ما وجد، ويقول: الفقير قوته ما حضر، ولباسه ما ستر. ولا يتكلف في الملبوس إلا بقدر ما يحفظ به بشريته بحسب التيسير، وربما يؤثر الثياب الرفيعة في بعض الأحيان، وغير خفي أن حال المعرفة ليس كحال الورع، ولكل في لبسه وهيئته نية صالحة، وقصد صحيح.
كثير الصمت، دائم الفكر، كثير الجولان والاعتبار، طليق الوجه، دائم البشر، حسن الخلق مع عباد الله، حسن المداراة، سهل الملاقاة، لين الجانب، ذا سكينة ووقار، ومهابة وفخار، حسن السياسة، رفيقًا بالضعيف، معظمًا للشريف، رحيمًا بالمبتدئ، حليمًا عفيفًا، صبورًا رءوفًا. وغير خفي أن هذه الأخلاق الكريمة ناشئة عن سعة علم صاحبها، وبسط معرفته، وكمال ولايته.
كثير المواساة والإنفاق في سبيل الله، لا يدخر شيئًا، بحرًا واسعًا في السخاء والجود، يسمح في حقه ويعطيه لغيره، كثير الصدقة، لا يرد سائلًا وقاصدًا بفضل الله. سريع الرضا لا يغضب لنفسه ولا ينتصر لها.
ويكفي في مناقبه رضى الله عنه ذكره حساده وأعداءه الذين يكرهونه ويؤذونه في جملة المشايخ الذين اجتمع بهم وتبرك، وتعظيمهم وتوقيرهم، وغيبته عما يصدر منهم، وعدم التفاته إلى ذلك.
كثير الصبر على النوائب الوقتية، والنوازل القهرية، مع كمال الرضا، يحذر من الطمع كثيرًا، ومن تأميل غير الله آخذًا بالحظ الأوفر من الفهم عن الله في جميع التجليات جلالًا وجمالًا، بسطًا وقبضًا، شدة ورخاءً.
ويحض رضى الله عنه على القناعة بما يسر الله، والشكر على ذلك، وعلى ترك التدبير والاختيار، وسلب الإرادة للفاعل المختار، والاكتفاء بالله.
ومن عظيم أخلاقه نفعنا الله به تواضعه للكبير والصغير، للجليل والحقير، يبدأ من لقيه بالسلام بطلاقة وجه، وبشر، وابتسام، ويختار مجالسة الفقراء، ومرافقة الضعفاء، ويحب المساكين، ويكره صحبة الأغنياء، ومخالطة الفراعنة.
وكان في بدايته على قدم كبير من الزهد والتخلي، مُكتفيًا باليسير من الدنيا الدنية، مُعرضًا عما يتشوف إليه أقرانه وأبناء وقته من نيل المراتب الحسية، كثير المجاهدة في سائر القربات، تاركًا للوقوف مع العوائد والشهوات.
وكان يجلس على الحصير، وينام بظهر الإهاب([8])، زاهدًا في حلاوة رطوبته، وتقويًّا على طاعة الله وعبادته، لا تأخذه في الله لومة لائم، ولا يبالي بمن مدحه، ولا بمن ذمه، متجلببًا جلباب الفاقة والافتقار، مؤثرًا في جميع أحواله الذلة والاحتقار، معتكفًا في الزاوية، ملازمًا لها آناء الليل وأطراف النهار، بتوفيق الكريم الغفار، كامل الاحتياط في تنظيم شعائرها وأمورها من تشطيب وتنظيف وغير ذلك، حسبما هو مشهور، مَنْ لطريق الجد سالك، حتى ربح بذلك الربح الخاص، ونال ما ناله أهل الخصوصية والاختصاص، متعرضًا لما ورد في ذلك من الفضل العظيم، والثواب الجسيم، مبالغًا جهده في التحافظ والاعتناء بنفائس الأوقات، ولا يرضى بها أن تمرَّ فارغةً مشوبةً بالغفلات، وإذا رأى فقيرًا متسامحًا في ذلك يزجره ويقويه، ويقول: إن ذلك من علامات الشتات، وعدم الذوق في جميع الحالات.
ويحضُّ رضى الله عنه إخوانه وتلاميذه على الصدق والإخلاص في سائر الأعمال، ويقول: قليل الأعمال يكفي مع الصدق مع الله تعالى، وصفاء الباطن.
ويحضُّ على المحافظة على الطهارة والمواظبة عليها، ويقول: الوضوء سلاح المؤمن.
ويحضُّ على مراعاة الآداب في ذلك، وخصوصًا آداب دخول الخلاء.
ويحضُّ على التحافظ على ركعتي الوضوء، والاستعداد للصلاة، وإيقاعها في وقتها، وينهى عن إخراجها عن وقتها، ويدل على الحضور والخشوع فيها، والمحافظة على آدابها الظاهرة والباطنة. شديد الاعتناء بالقيام بورد الليل الذي هو أعظم مطالب الأخيار المقربين الأحرار. دائم الرغبة في التلاوة والاستغفار، وذكر الله تعالى في السر والجهار، مواظبًا على ذلك.
ويحضُّ الفقراء على الاعتناء بإحياء ما تيسر من الليل؛ ابتغاء رضا الكريم الغفار، ويحرضهم على إيقاع صلاة الصبح في وقتها، موزعًا نهاره على أنواع الطاعات، معمرًا أوقاته بما شرعه الله ورسوله في الآيات البينات.
وله أحسن الله إليه تآليف جيدة مفيدة نافعة، منها: «تحفته السنية». ومنها: مولده العجيب المسمى باسمه «فتح الله في مولد خير خلق الله صلى الله عليه وسلم ما دام ملك الله». ومنها: طبقاته الجامعة المشتمل عليها «الفتح الرباني» المسماة بـ «المجد الشامخ فيمن اجتمع بهم من أعيان المشايخ». ومنها: «تحفة الأصفياء في بيان معنى القول بعصمة الأنبياء». ومنها: «إتحاف أهل العناية الربانية في إتحاد طرق أهل الله وإن تعددت مظاهرها الحقانية». و«بعض فضائل الشاذلية الدباغية البنانية، ذوي الهمم العالية والأحوال النورانية». ومنها: «خلاصة الوفا في مقدمة فتح الشفا» و«تحفة الأحباب فيمن تكلم في المهد بالأمر العجاب» ويسمى أيضًا: «طالع السعد فيمن تكلم في المهد». و«فتح الله في بعض ما يتعلق بأسماء الله» و«النصيحة الوافية الكافية لأهل الطريقة الشاذلية الدرقوية الدباغية البَنَّانية وسائر طوائف أهل الله في الملة الإسلامية». ومنها: تعليق على «جامع الشيخ خليل»، وشرحه للشيخ التاودي رضي الله عنهما، وتعليقٌ آخر على اختصار «المواهب». ومنها: رسائله العظيمة الشأن، التي يكتبها لحضرات الإخوان بحسب وقائع الأزمان إلى غير ذلك من التقاييد والتصانيف، نفعنا الله وإياه بها، وجزاه عنا أفضل الجزاء وأكمل مرادنا ومراده؛ إنه كريم منان.
ويكفينا في فضيلته رضى الله عنه انتفاع الوجود به، وبأسراره، ومعارفه، ومجالسه العلمية، وفتوحاته الربانية، وإملاءاته الحديثية، فتجد مجالسه رضى الله عنه مشحونة بالمعارف والفوائد والإشارات، والغوص في بحور المعاني مع الإتيان بواضح العبارات.
ذكر مشايخه، وحكمهم، ومعارفهم، وأسرارهم رضى الله عنهم بدون كلفة، ولا معاناة مشقة، وكثرة مطالعة، بل كثيرًا ما يستغرق الوقت في مقابلة الإخوان ومجالستهم، وإعطائهم ما يليق بذلك من آداب الوقت وغير ذلك، فإذا وصل وقت الدرس خرج إليه بدون مطالعة أصلًا، ويظهر منه حينئذ في مجلسه ما يبهر العقول بفضل الله، وعطفة النبيِّ الرسول صلى الله عليه وسلم، وبركة مشايخه الفحول، وقد حضر درسه أناسٌ من أكابر ساداتنا أهل فاس وغيرهم، وحكموا وشهدوا بأنَّ هذا شيءٌ عزيز في الوقت جدًّا، والمنة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم.
ومدحه أكابر وعلماء بقصائد وأشعار تنبئ بسر ما ذكرناه بفضل الله، ومدد النبيِّ المختار. وإن أردت الوقوف على شيء من ذلك مع زيادة البيان فعليك بـ «الفتح الرباني»، فقد أتى فيه بنبذة شافية من أحواله، وأقواله، وأفعاله المرضية، وأخلاقه، ومناقبه، ومآثره السنية، ممزوجة بما يناسبها من المذكرات، ويعضدها من الاستشهادات الواضحات، فراجعه تنل ما يقربك إلى الله في جميع الحالات، ببركة سيد السادات صلى الله عليه وسلم في الماضي والآت، جزى الله مؤلفه خيرًا، وجعله من الآمنين دنيا وأخرى، وأيضًا كتاب: «معارج المنى والأماني» لسيدي محمد بن الموقت المراكشي رضي الله عنه وأرضاه. وسيجرى طبعه قريبًا بحول الله، وعطف مولانا رسول الله عليه وآله سلام الله.
وقد تحركت القريحة([9]) لإنشاء هذه الأبيات، تقربًا إلى جانبه رضى الله عنه، وتعرضًا لنفحاته الأقدسية، وفيوضاته الربانية:
خذ الكاسات يا ظمآن واشربْ |
* | ففي الكاسات خمرٌ ذو معاني |
وحدّث لا تُبالي إن شيخي |
* | إمامُ العصر بل قطبُ الزَّمانِ |
كثيرُ الفيض برَّاقُ الثنايا |
* | كريمُ الأصل للضعفاءِ حانِ |
هو الشيخُ الهُمامُ كما أبوه |
* | هو المُروي القلوبَ من المعاني |
أفتحَ الله أوصلني فإنّي |
* | على الأعتابِ مُنطرحٌ أُعاني |
واجذبني إليك لعلِّي أحظى |
* | فقد طال اشتياق المقلتين |
على أنَّ الإله حباني سرَّا |
* | وأَشهدني أمورًا عن عيانِ |
ولكن ما سقاني منه شيخي |
* | كفاني إذْ سقاني ما كفاني |
فانزعْ من حضيضِ الطبع روحي |
* | وخذْ وصفي لأنَّك ذو ائتمانِ |
فأنتَ وسيلتي ولأنتَ ذُخرى |
* | فأَيِّدني بتأييدٍ يماني |
وقلت هذا التوشيح متوسلًا بأسيادي أنجال شيخنا رضي الله عنهم وأرضاهم، وهم: مولاي سيدي محمد العربي، ومولاي سيدي محمد عبد الرحمن، ومولاي سيدي لطف الله، ومولاي سيدي محمد الحبيب أمدَّنا الله بمدده، ومتعنا بمشاهدة أنوارهم، وجعلهم أقمارًا يُستضاء بهم، ونفعنا بأسرارهم. آمين.
دهشت من ذاتي لذاتي |
* | شيء عجيب |
حباني بأنوار علية |
* | شيخي (العقاد) |
وضمَّ ذاتي لذاته |
* | غاب الفؤاد |
شهدتُ سرًّا عجيبًا |
* | منه نشوان |
حبيبي شيخي وذخري |
* | سي (فتح الله) |
أفدي حياتو بروحي |
* | أيم والله |
إمامُ وقت وقطب |
* | لأهل الحضرة |
وشيخ أهل التصريف |
* | سرُّه عظيم |
يا سادتي يا أهل التصريف |
* | أرجو والله |
تمدُّوا هذا المتيم |
* | شيء لله |
أنتم رجال الآخرة |
* | وأنا محجوب |
وسرُّكم بعلو دومًا |
* | فاقبلوني |
يا سي (محمد) يالحبيب |
* | يا ابن الأستاذ |
محبكم واسمه (الحسن) |
* | يا باب الله |
له نصيب في حبكم |
* | عطفًا لله |
يا سي (محمد) يالمشهور |
* | بسي (لطف الله) |
ها (الحسن) صار في حكم حماكم |
* | يا رجال الله |
يا عابد الرحمن هيا |
* | نظرة لله |
تراني صرت خادمكم |
* | يا أهل الله |
يسي (العربي) داويني |
* | بمتاع الله |
يا أسيادي نظرة إلينا |
* | نظرة لله |
الله أعلا شأنكم |
* | برسول الله |
وبيتكم ديمًا معمور |
* |
ذا فضل الله |
([2]) مالك بن أنس بن مالك الأصبحي الحميري، أبو عبد الله: إمام دار الهجرة، وأحد الأئمة الأربعة عند أهل السنة، وإليه تنسب المالكية مولده سنة 93 هـ بالمدينة ووفاته فيها سنة 179 هـ. كان صلبًا في دينه بعيدًا عن الأمراء والملوك، من كتبه: «الموطأ»، وله رسالة في «الرد على القدرية» وغير ذلك. [«الأعلام» (5/257، 258)، «تهذيب التهذيب» (10/5)، «صفة الصفوة» (2/99)].