باب (في الإخلاص وإحضار النية في جميع الأعمال الظاهرة والباطنة)
قال الله تعالى: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ([1]) وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ القَيِّمَةِ﴾ [البيِّنة:5]. معناه الملة المستقيمة وقيل القائمة بالحق والله أعلم.
وقال تعالى: ﴿وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ المَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ﴾ [النساء:100].
وقال تعالى: ﴿رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ﴾ [الإسراء:25].
وقال تعالى: ﴿لَنْ يَنَالَ اللهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ﴾ [الحج: 37].
قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما معناه: ولكن يناله النيات منكم، وقال إبراهيم: التقوى ما يراد به وجهه، وقال الإمام أبو الحسن الواحدي: قال الزجاج: المعنى لن يتقبل الله الدماء واللحوم وإذا كانت من غير تقوى الله تعالى وإنما يتقبل منكم ما ستتقونه به وهذا دليل على أن شيئًا من العبادات لا يصح إلا بالنية وهو أن ينوي به التقرب إلى الله تعالى وأداء ما أمر به.
أخبرنا شيخنا الإمام الحافظ أبو البقاء خالد بن يوسف بن سعيد بن الحسن بن المفرج بن بكار المقدسي النابلسي الشافعي رضى الله عنه قال أخبرنا أبو اليمن الكندي أخبرنا محمد بن عبد الباقي الأنصاري أخبرنا أبو محمد الحسن بن علي الجوهري أخبرنا أبو الحسين محمد بن المظفر الحافظ أخبرنا أبو بكر محمد بن سليمان الواسطي حدثنا أبو نعيم عبد بن هشام الحلبي عن ابن المبارك عن يحيي بن سعيد عن محمد بن إبراهيم التيمي عن علقمة بن وقاص الليثي عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى الله وَرَسُولِهِ، فَهِجْرَتُهُ إِلَى الله وَرَسُولِهِ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا، أَوِ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا، فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ». هذا حديث متفق على صحته مجمع على عظم موقعه وجلالته وهو أحد قواعد الإيمان وأول دعائمه وأشد الأركان وهو حديث فرد غريب باعتبار مشهور باعتبار آخر ومداره على يحيي بن سعيد الأنصاري: قال الحافظ: لا يصح هذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا من جهة عمر بن الخطاب رضى الله عنه ولا عن عمر إلا من جهة علقمة ولا عن علقمة إلا من جهة إبراهيم بن محمد التيمي ولا عن محمد إلا من جهة يحيي بن سعيد وعن يحيي انتشرت روايته عن أكثر من مئتي إنسان أكثرهم أئمة ورواه الإمام أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري رحمه الله في صحيحه في سبعة مواضع فرواه في أول كتابه ثم في «الإيمان» ثم في «النكاح» ثم في «العتق» ثم في «الهجرة» ثم في «ترك الحيل» ثم في «النذر»، ثم أن هذا الحديث روي في الصحيح بألفاظ: إنما الأعمال بالنيات، إنما الأعمال بالنية، وأما الذي وقع في أول كتاب «الشهاب»، الأعمال بالنيات وحذف إنما، فقال الحافظ أبو موسى الأصبهاني: لا يصح إسناد هذا، وأما معنى النية فهو القصد وهو عزم([2]) القلب، وإنما: لفظة موضوعة للحصر تثبت المذكور وتنفي ما عداه، فمعنى الحديث لا تصح الأعمال الشرعية إلا بالنية، ومن قصد بهجرته([3]) رضاء الله تعالى، ومن قصد بها الدنيا فهي حظه ليس له غيرها, وفي هذا الحديث اشتراط النية في الوضوء وغيره والغسل والتيمم والصلاة والزكاة والصوم والاعتكاف والحج وغيرها، قال إمامنا أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي رضي الله تعالى عنه: يدخل هذا الحديث في سبعين بابًا من الفقه. وقال أيضا: يدخل في هذا الحديث ثلثي العلم. وقال أبو عبد الله أحمد بن حنبل رضي الله تعالى عنه: يدخل فيه ثلث العلم. وكذا ذكره أيضًا غيرهما.
قال الإمام الحافظ أبو بكر البيهقي في أول كتابه «مختصر السنن»: معنى قول الشافعي رضي الله تعالى عنه: يدخل فيه ثلث العلم أن كسب العبد إنما يكون بقلبه ولسانه ونياته. والنية أحد أقسام كسبه وهي أرجحها لأنها تكون عبادة بانفرادها بخلاف القسمين الآخرين لأن القول والعمل يدخلهما الفساد بالرياء ولا يدخل النية، واستحب العلماء رضي الله تعالى عنهم أن تستفتح المصنفات بهذا الحديث وممن ابتدأ به في أول كتابه الإمام أبو عبد الله البخاري رحمه الله في أول حديثه في صحيحه الذي هو أصح الكتب بعد كتاب الله تعالى، وروينا عن الإمام أبي سعيد عبد الرحمن بن مهدي رحمه الله قال لو صنفت كتابا بدأت في أول كل باب منه بهذا الحديث، وروينا عنه أيضًا قال: من أراد أن يصنف كتابا فليبدأ بهذا الحديث، وروينا عن الإمام أبي سليمان أحمد بن محمد بن إبراهيم الخطابي رحمه الله فيما قرأته في أول كتابه «الأعلام» في شرح صحيح البخاري قال: كان المتقدمون من شيوخنا يستحبون تقديم حديث الأعمال بالنية أمام كل شيء ينشأ ويبتدئ من أمور الدين لعموم الحاجة إليه في جميع أنواعها، وبلغنا عن جماعات من السلف رضي الله تعالى عنهم أشياء كثيرة من نحو هذا من الاهتمام بهذا الحديث والله أعلم. وهي أن إسناده شيء يستحسن ويستغرب عند المحدثين وهي أن رواته اجتمع فيهم ثلاثة تابعيون يروي بعضهم عن بعض وهم يحيي بن سعيد الأنصاري ومحمد بن إبراهيم التيمي وعلقمة بن وقاص، وهذا وإن كان مستظرفًا فهو كثير في الأحاديث المستظرفة الصحيحة يجتمع ثلاثة تابعيون بعضهم عن بعض وأربعة تابعيون بعضهم عن بعض، وقد جمعها الحافظ عبد القادر الرهاوي رحمه الله في جزء صنفه فيها وأنا أرويها وقد اختصرتها في أول شرح «صحيح البخاري»([4]) رحمه الله. وضممت إليها ما وجدته مثلها فبلغ مجموعها زيادة على ثلاثين حديثًا والله أعلم. ومما ينبغي الاعتناء به بيان الأحاديث التي قيل إنها أصول الإسلام وأصول الدين أو عليها مدار الإسلام أو مدار الفقه والعلم فنذكرها في هذا الموضع لأن أحدها حديث الأعمال بالنية ولأنها مهمة فينبغي أن تقدم وقد اختلف العلماء في عددها اختلافًا كثيرًا وقد اجتهد في جمعها وتبيينها الشيخ الإمام الحافظ أبو عمر وعثمان بن عبد الرحمن المعروف بابن الصلاح رحمه الله تعالى ولا مزيد على تحقيقه وإتقانه فأنا أنقل ما ذكره رحمه الله مختصرًا. وأضم إليه ما تيسر مما لم يذكره فإن الدين النصيحة([5]): ومن النصيحة أن تضاف الفائدة التي تستغرب إلى قائلها فمن فعل ذلك بورك له في علمه وحاله ومن أوهم ذلك وأوهم فيما يأخذه من كلام غيره أنه له فهو جدير ألَّا ينتفع بعلمه([6]) ولا يبارك له في حال. ولم يزل أهل العلم والفضل على إضافة الفوائد إلى قائلها نسأل الله تعالى التوفيق لذلك دائمًا.
قال الشيخ أبو عمرو([7]) رحمه الله بعد أن حكم أقوال الأئمة في تعيين الأحاديث التي عليها مدار الإسلام واختلافهم في أعيانهم وعددها فبلغت ستة وعشرين حديثًا.
(أحدها) حديث، إنما الأعمال بالنيات.
(الثاني) عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ أَحْدَثَ في أَمْرِنا هذا ما لَيْسَ منهُ([8]) فَهُو ردٌّ». هذا حديث متفق على صحته، رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما، وفي رواية لمسلم: «مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا». ومعنى رد مردود كالخلق بمعنى المخلوق.
(الثالث) عن النعمان بن بشير رضي الله تعالى عنهما: قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إِنَّ الْحَلَالَ بَيِّنٌ وَالْحَرَامَ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا مُشْتَبِهَاتٌ لَا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ([9]) وَمَنْ وَقَعَ فِى الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِى الْحَرَامِ كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَرْتَعَ فِيهِ أَلَا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، أَلَا وَإِنَّ حِمَى الله مَحَارِمُهُ، أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ».
هذا حديث متفق على صحته، رويناه في صحيحيهما يوشك بضم الياء وكسر الشين المعجمة؛ أي يسرع.
(الرابع) عن عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه: قال حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق الصدوق: «إِنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ خَلْقُهُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا نُطفةً ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَكُونُ مِنْ ذاكَ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يُرْسَلُ الْمَلَكُ فَيَنْفُخُ فِيهِ الرُّوحَ وَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ بِكَتْبِ رِزْقِهِ وَأَجَلِهِ وَعَمَلِهِ، وَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ، فَوَالَّذِى لَا إِلَهَ غَيْرُهُ إِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلَا ذِرَاعٌ فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ([10]) أَهْلِ النَّارِ فَيَدْخُلُهَا وَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلَا ذِرَاعٌ فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَيَدْخُلُهَا». رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما قوله بكتب بالباء الموحدة الجارة.
(الخامس) عن الحسن بن علي رضي الله تعالى عنهما قال: حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم: «دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يَرِيبُكَ»([11]). حديث صحيح رواه أبو عيسى الترمذي وأبو عبد الرحمن النسائي، قال أبو عيسى الترمذي: حديث صحيح. وقوله: «يريبك» بفتح أوله وضمه لغتان، الفتح أشهر.
(السادس) عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول لله صلى الله عليه وسلم: «ومنْ حسنِ إسلامِ المرءِ تركهُ ما لا يعنيهِ». حديث حسن رواه الترمذي وابن ماجه.
(السابع) عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: «لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ([12]) حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ». متفق على صحته.
(الثامن) عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أيُّها النَّاسُ إنَّ اللّهَ طيِّبٌ لا يقبَلُ إلا طيِّبًا، وإنَّ اللّه تعالى أمرَ المؤمنينَ بما أمرَ به المرْسلين». فقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ﴾ [المؤمنون:51]. ثم ذَكرَ الرجلُ يطيل السفر أشعث أغبر يمد يده إلى السماء يا رب يا رب ومطعمُه حرام ومشرَبهُ حرام وملبسُه حرام وغُذِّيَ بالحرَام، فَأنَّى يُستجابُ لذلك([13]). رواه مسلم في صحيحه.
(التاسع) حديث «لا ضَرَرَ([14]) ولا ضِرَار» رواه مالك مرسلًا ورواه الدارقطني وجماعة من وجوه متصلًا وهو حديث حسن. (العاشر) عن تميم الدارمي رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الدِّينُ النَّصِيحَةُ»([15]) قُلْنَا: لِمَنْ؟ قَالَ: «لله وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ وَلأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ». رواه مسلم. (الحادي عشر) عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «مَا نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ فَاجْتَنِبُوهُ وَمَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ فَافْعَلُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ فَإِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِكَثْرَة([16]) مَسَائِلِهِمْ وَاخْتِلَافُهُمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ». متفق على صحته.
(الثاني عشر) عن سهل بن سعد رضي الله تعالى عنه قال: جَاءَ رَجُلٌ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ إِذَا أَنَا عَمِلْتُهُ أَحَبَّنِيَ الله وَأَحَبَّنِيَ النَّاسُ. فَقَالَ: «ازْهَدْ([17]) فِي الدُّنْيَا يُحِبَّكَ الله وَازْهَدْ فِيمَا فِي أَيْدِي النَّاسِ يُحِبك النَّاس». حديث حسن رواه ابن ماجه.
(الثالث عشر) عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لَا يَحِلُّ دَمُ رَجُلٍ مُسْلِمٍ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَا الله، وَأَنِّي رَسُولُ الله إِلَا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ: الثَّيِّبُ الزَّانِي، وَالنَّفْسُ بِالنَّفْسِ، وَالتَّارِكُ لِدِينِهِ الْمُفَارِقُ لِلْجَمَاعَةِ». متفق على صحته.
(الرابع عشر) عن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَا الله، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ الله، وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ، وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلَا بِحَقِّ الإِسْلَامِ([18])، وَحِسَابُهُمْ عَلَى الله تعالى». متفق على صحته. (الخامس عشر) عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بُنِيَ الإِسْلَامُ([19]) عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَا الله، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ الله، وَإِقَامِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَالْحَجِّ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ». متفق على صحته. (السادس عشر) عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لَوْ يُعْطَى النَّاسُ بِدَعْوَاهُمْ لَادَّعَى رِجَالٌ أَمْوَالَ قَوْمٍ وَدِمَاءَهُمْ، وَلَكِنَّ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينَ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ». حديث بهذا اللفظ وبعضه في الصحيحين.
(السابع عشر) عن وَابِصَة بن مَعْبَد رضي الله تعالى عنه أنه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: «جِئْتَ تَسْأَلُ عَنِ الْبِرِّ وَالإِثْمِ؟». قَالَ قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: «اسْتَفْتِ قَلْبَكَ، الْبِرُّ مَا اطْمَأَنَّتْ إِلَيْهِ النَّفْسُ وَاطْمَأَنَّ إِلَيْهِ الْقَلْبُ، وَالإِثْمُ مَا حَاكَ([20]) فِي النَّفْسِ وَتَرَدَّدَ فِى الصَّدْرِ وَإِنْ أَفْتَاكَ النَّاسُ وَأَفْتَوْكَ». وفي رواية: «وإن أفتاك المفتون». حديث حسن رواه أحمد بن حنبل والدارمي وغيرهما.
وفي صحيح مسلم من رواية النواس بن سمعان رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الْبِرُّ حُسْنُ الْخُلُقِ، وَالإِثْمُ مَا حَاكَ فِي صَدْرِكَ وَكَرِهْتَ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ النَّاسُ».
(الثامن عشر) عن شداد بن أوس رضي الله تعالى عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إِنَّ الله كَتَبَ الإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَىيءٍ فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذَّبْحَ وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ فَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ». رواه مسلم. والقتلة والذبحة بكسر أولهما.
(التاسع عشر) عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِالله وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ([21]) خَيْرًا، أَوْ لِيَصْمُتْ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِالله وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلَا يُؤْذِ جَارَهُ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِالله وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ». متفق على صحته. (العشرون) عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: أن رجلًا قال للنبي صلى الله عليه وسلم أوصني. قال: «لَا تَغْضَب([22])». فردد مرارًا قال: «لَا تَغْضَب». رواه البخاري في صحيحه. (الحادي والعشرون) عَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ رضي الله تعالى عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إِنَّ الله تَعَالى فَرَضَ فَرَائِضَ فَلَا تُضَيِّعُوهَا، وَحَدَّ حُدُودًا فَلَا تَعْتَدُوهَا، وَحَرَّمَ أَشْيَاءَ فَلَا تَنْتَهِكُوهَا، وَسَكَتَ عَنْ أَشْيَاءَ رَحْمَةً لَكُمْ فَلَا تَبْحَثُوا عَنْهَا». رواه الدارقطني بإسناد حسن.
(الثاني والعشرون) عن أبي ذر ومعاذ رضي الله تعالى عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «اتَّقِ الله([23]) حَيْثُمَا كُنْتَ وَأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ». رواه الترمذي وقال: حَدِيثٌ حَسَنٌ، وفي بعض نسخه المعتمدة حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
(الثالث والعشرون) عن معاذ رضي الله تعالى عنه قال: قلت: يَا رَسُولَ الله أَخْبِرْنِي بِعَمَلٍ يُدْخِلُنِي الْجَنَّةَ وَيُبَاعِدُنِي مِنَ النَّارِ. قَالَ: «لَقَدْ سَأَلْتَ عَنْ عَظِيمٍ وَإِنَّهُ لَيَسِيرٌ عَلَى مَنْ يَسَّرَهُ الله عَلَيْهِ، تَعْبُدُ الله وَلَا تُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا، وَتُقِيمُ الصَّلَاةَ، وَتُؤْتِي الزَّكَاةَ، وَتَصُومُ رَمَضَانَ، وَتَحُجُّ الْبَيْتَ -ثُمَّ قَالَ- أَلَا أَدُلُّكَ عَلَى أَبْوَابِ الْخَيْرِ. الصَّوْمُ جُنَّةٌ، وَالصَّدَقَةُ تُطْفِئُ الْخَطِيئَةَ، وَصَلَاةُ الرَّجُلِ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ». ثُمَّ قَرَأَ قَوْلَهُ تَعَالَى: ﴿تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ﴾ حَتَّى بَلَغَ ﴿يَعْمَلُونَ﴾ ثُمَّ قَالَ: «أَلَا أُخْبِرُكَ بِرَأْسِ([24]) الأَمْرِ وَعَمُودِهِ وَذِرْوَةِ سَنَامِهِ الْجِهَاد». ثُمَّ قَالَ: «أَلَا أُخْبِرُكَ بِمِلَاكِ ذَلِكَ كُلِّهِ». قُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ الله. فَأَخَذَ بِلِسَانِهِ قَالَ: «كُفَّ عَلَيْكَ هَذَا». فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ الله وَإِنَّا لَمُؤَاخَذُونَ بِمَا نَتَكَلَّمُ بِهِ؟ فَقَالَ: «ثَكِلَتْكَ أُمُّك وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ عَلَى وُجُوهِهِمْ فِي النَّارِ -أَوْ قَالَ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ- إِلَا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ». رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح. ذروة السنام: أعلاه وهي بضم الذال وكسرها.
(الرابع والعشرون) عَنِ الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ قَالَ: وَعَظَنَا رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم مَوْعِظَةً وَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ وَذَرَفَتْ مِنْهَا الْعُيُونُ، فَقُلْنَا يَا رَسُولَ الله كَأَنَّهَا مَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ فَأَوْصِنَا. قَالَ: «أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى الله وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ وَإِنْ تَأَمَّرَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ، وَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ فَسَيَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا، فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ مِنْ بَعْدِي الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ، عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الأُمُورِ فَإِنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ». رواه أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن صحيح. (الخامس والعشرون) عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: كُنْتُ خَلْفَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم يَوْمًا، فَقَالَ: «يَا غُلَامُ إِنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ. احْفَظِ الله يَحْفَظْكَ، احْفَظِ الله تَجِدْهُ تُجَاهَكَ، إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ([25]) الله وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ([26]) بِالله وَاعْلَمْ أَنَّ الأُمَّةَ لَوِ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَىْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ الله لَكَ، وَلَوِ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ الله عَلَيْكَ، رُفِعَتِ الأَقْلَامُ وَجَفَّتِ الصُّحُفُ». رواه الترمذي وقال: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وفي رواية غير الترمذي: «احْفَظِ الله تَجِدْهُ أَمَامَكَ، تَعَرَّفْ إِلَى اللهِ فِي الرَّخَاءِ يَعْرِفْكَ فِي الشِّدَّةِ، وَاعْلَمْ أَنَّ مَا أَخْطَأَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَكَ، وَمَا أَصَابَكَ لَمْ rيَكْن لِيُخْطِئَكَ». وفي آخره: «وَاعْلَم أَنَّ النَّصْرَ مَعَ([27]) الصَّبْر، وَالْفَرَج مَعَ الْكَرْب وَأَنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا».
(السادس والعشرون) حديث ابن عمر عن أبيه عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما في الإيمان بالقدر وبيان الإيمان والإسلام والإحسان وبيان علامات القيامة فهذه الأحاديث التي ذكرها الشيخ أبو عمرو بن الصلاح رحمه الله تعالى ومما في معناها أحدها وهو (السابع والعشرون) عن سفيان بن عبد الله رضي الله تعالى عنه قال: قُلْتُ يَا رَسُولَ الله قُلْ لِي فِي الإِسْلَامِ قَوْلًا لًا أَسْأَلُ عَنْهُ أَحَدًا غَيْرَكَ. قَالَ: «قُلْ آمَنْتُ بِالله ثُمَّ اسْتَقِمْ». رواه مسلم. (الثامن والعشرون) عن أبي مسعود البدري عقبة بن عمر رضى الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا لم([28]) تستح فاصنع ما شئت». رواه البخاري في صحيحه. (التاسع والعشرون) عن جابر رضي الله تعالى عنه أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النبي صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: أَرَأَيْتَ إِذَا صَلَّيْتُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْس الْمَكْتُوبَاتِ، وَصُمْتُ رَمَضَانَ، وَحَلَّلْتُ الْحَلَالَ وَحَرَّمْتُ الْحَرَامَ وَلَمْ أَزِدْ عَلَى ذَلِكَ شَيْئًا أَدْخُلُ الْجَنَّةَ؟ قَالَ: «نَعَمْ». رواه مسلم.
([1]) حنفاء: جمع حنيف وهو المسلم الذي يتحنف عن الأديان، ويميل إلى الحق ولم يلتو في سلوكه لأن الحنيف المستقيم: وقد قيل:
تعلم أن سيهديكم إلينا
|
* | طريق لا يجوز بكم حنيف |
فقيدت العبادة بالإخلاص المنوط فعله بالقلب والباطن والحنيف الذي هو الاستقامة الظاهرة إشارة إلى أن المسلم يجب أن تكون أعماله الظاهرة عنوانًا لما هو منوط عليه، بل يحكم عليه بموجبها لأن شق القلب والاطلاع على ما فيه ليس من مقدورات البشر ولا من وسعهم لا يكلف الله نفسا إلا وسعها، وأن احتمال حسن حال السيئ الأعمال والتارك لأوامر الله ليس من الدين الإسلامي في شيء، وأن احتمال أن يكون عند الله مقبولًا دعاية نشرها الدساسون ليبعدوا الشبه عن أنفسهم فشريعتنا قيدت صلاح الحال ومظنة الولاية بمن اتقى الله وعمل بما أمر وانتهى عن كل ما نهاه؛ ولهذا أتى بعد ذلك قوله تعالى: ﴿وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ﴾ [البيِّنة:5]. فمجرد دعوى الإسلام بدون أن يعمل وفق أحكامه استهزاء بالدين وعبث بالشريعة وتحقير للمسلمين، ولا يعقل أن عصيان الإله مقبول عنده ولربما يكون من أوليائه كيف وقد أوعد العصاة بعذاب جهنم: ﴿وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا﴾ [الجنّ:23]. فالكرامة والولاية والقبول هي لمن اتقى الله باتباع أوامره واجتناب نواهيه: ﴿وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الهَوَى (40) فَإِنَّ الجَنَّةَ هِيَ المَأْوَى﴾ [النَّازعات:40-41].
([2]) قوله عزم القلب: أي النية شيء يعود إلى القصد في القلب لا إلى اللسان والتكلم وقد جعل بعض الفقهاء من كمال العبادة النطق بها وأنه سنة في الصلاة مع أن أصل مذهب الشافعي هو مقارنة النية لأول الفعل إلا ما لا تمكن فيه المقارنة كالصوم وأول الصلاة تكبيرة الإحرام فكيف يمكن أن يلفظ بالنية مع أنه متكلم بالتكبير، وأما النطق قبل التكبير فإن الصلاة لم تنعقد وقتئذ ولو قلنا بالمساعدة للقلب فقد أخرجوها عن أصلها المطلوب، فتجد للمصلين ضجة في نيتهم حتى إنه قد يصادف الإنسان في الجماعة الكبرى أن يركع الإمام ولا يعلم به المصلون لانشغالهم عن الإمام بضوضاء النية والتكبير بشكل لا يتناسب مع السكينة التي طلبتها الشريعة من المصلي لوصوله إلى حالة هو أقرب ما يكون فيها إلى ربه ولم تنقل لنا السنة ولا كتب السير أن الصحابة أو السلف الصالح كانت عندهم هذه الضجة الموجودة اليوم في الجوامع عند الصلوات فهي ليست واردة في الشرع ولا تليق باستكانة العبد وخضوعه في الصلاة كما أنها تنافي الآداب لوقوفه بين يدي ربه وليت شعري لو وقف أمام ملك أو أمير هل يستطيع أن يحدث مثل هذه الضوضاء؟ أظنه يخلد إلى الخنوع والسكوت عن كل ما زاد عن الحاجة، أما كان أحرى به أن يفعل مثل هذا في صلاته؟ وقد يبلغ الشك من بعضهم أن يعيد الصلاة مرارًا ظنًا منه أن قد فسدت؛ لأنه شك في النية وما درى الفقير أن مراد الشارع من نيته هو قصده وتوجه عزمه إلى فعلها.
([3]) قوله: بهجرته وهل تصدق الهجرة من بلاد الكفر إلى بلاد الإسلام فلا يحل للمسلم
الإقامة بدار الكفر؟ بعد أن استولى الكفار على معظم بلاد المسلمين وحكموها فعلًا وبقية البلاد احتلوها بنفوذهم لأن المكابرة بإنكار ذلك لا تجدي المسلمين نفعًا؟ نقل المصنف رحمه الله في شرحه لهذا الحديث في «الأربعين النووية» عن الماوردي أن من صار له بدار الكفر أهل وعشيرة وأمكنه إظهار دينه لم يجز له أن يهاجر لأن المكان الذي هو فيه صار دار إسلام. اهــــــ. وهذا الحكم أحسن خطة لتغلغل الإسلام في بلاد الكفر إذا كان الدعاة غير مهددين بخطر فإن حالتنا التي وصلنا إليها من استيلاء الكفار على بلادنا ما كانت إلا بواسطة الأشخاص الذين كانوا يقطنون بيننا كمهاجرين يطلعون أهل ملتهم على عوراتنا ودخائلنا حتى صاروا أعرف منا بأنفسنا وتاريخنا، اترك الأشخاص الذين استمالوهم لطرفهم وحببوهم بملتهم فعشقوها وتمنوا أن تحكم البلاد وتغدق عليهم النعم التي كانت الدعاة تغشهم بها ولربما تجد من الكفار كثيرًا من شغل منصبًا دينيًا كبيرًا بقي مداومًا عليه حتى كشفته الحرب العامة وليتنا فعلنا مثلهم وعملنا بما قاله الماوردي إذن لعرفنا دخائلهم وما ينطوون عليه من الحقد على الإسلام لندري السبل التي ينهجونها في إفساد المسلمين والاستيلاء على عقولهم ولا ينبغي أن نيأس الآن من إعادة عز الإسلام الماضي بل إن الإسلام لا يجوز الاستسلام والجبن فهو في كل الحالات يدعو إلى الجرأة والشجاعة والقوة المعنوية في الإقبال والإدبار وحيث قد عرفنا أن هذا الطريق كان سببًا قويًا في إضاعة قوتنا واستيلاء العدو علينا فالواجب يقضي أن توجد في أوروبا وأميركا جماعات من دعاة الإسلام يقطنونها ويتبعون الخطة التي سلكوها هم قبلنا ما دامت حرية الدين محفوظة وحياة الساكن ليست في خطر.
([4]) كتب المؤلف رحمه الله تعالى على صحيح البخاري إلى كتاب «العلم» فقط ولم يكمل وقد وفقنا الله تعالى إلى طبعه فنحمد المولى تعالى ذكره على ذلك.
([5]) وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل من جاء مسلمًا موقوفة الصحة على النصح للمسلمين علاوة على أمره بذلك المرات العديدة في الأحاديث المختلفة وممن بايع النبي صلى الله عليه وسلم على النصح جرير بن عبد الله البجلي فإنه خطب بالكوفة يوم وفاة المغيرة بن شعبة سنة خمسين من الهجرة فقال: أما بعد فإني أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وقلت أبايعك على الإسلام فشرط علي النصح لكل مسلم فبايعته على ذلك. اهــ.
ورواه البخاري أيضًا في آخر كتاب «الإيمان»؛ وذلك لأن نصحك لشخص دليل على حبك له فتريد أن يقدم على ما فيه له النفع ويحجم عما فيه المضرة فمتى انتشر حب المسلمين بعضهم بعضًا وعم إخلاص النصح فإن القوة والنصر والتأييد تحف بهم وهذا هو السر الذي جعل المسلمين بعد وفاة نبيهم صلى الله عليه وسلم يغلبون الرومان والفرس ويستولون على معظم بلاد العالم لأن شدة النصح جعلتهم يضعون نصب أعينهم آية: ﴿إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾ [الحجرات:10].
ثم فنوا في هذه المرتبة إلى أن تحققوا بحديث: «المؤمنون كالجسد الواحد إذا اشتكى عضو منه تداعى إليه سائر الجسد بالحمى والسهر». وهذا هو منتهى القوة التي لا يمكن أن تعارض =
= أو تجادل؛ إذ أن صلابة المعادن تابعة لشدة تماسكها والتصالقها وما قوة الحديد على غيره من المعادن وتأثيره فيها إلا لصفائه وخلوه عن المعادن التي لا تناسبه ولشدة ارتباط أجزائه ببعضها وإن الطين إذا امتزج يكون قوة لا يستهان بها فقوة المسلمين لا تحصل إلا بالحب ونصحهم لبعضهم.
([6]) وأن من ينسب كلام الغير لنفسه جدير ألَّا ينتفع به لأنه خان الأمانة وهي تأدية العلم إلى مستحقه وإسناد القول لقائله ومن المعلوم أن الخيانة ما دخلت عملا إلا وأفسدته ونزعت منه الخير والبركة ولا يبعد أن يسلط الله على ذلك الناسب من يأخذ الفوائد التي يجوز أن يكون أدركها هو أن يتخذ لها وينسبها لنفسه لأن الجزاء من جنس العمل ولا جدال بأن سلوك هذه الخطة من أهم أسباب تأخر العلم بقطع سلسلته وإضاعة حق المؤسسين ومجد السلف فتبقى قيمة الفائدة منوطة بمن زعمها وقد يكون السبب في عدم رواجها خصوصًا وأن النفس مولعة بالركون إلى القديم للاستناد والوثوق وأما الجديد فالتعلق به من حيث الاستعمال الذي لا يلبث أن يزول ولا يصلح لأن يكون حجة أو ممسكًا. وأن مجازاة من منحك فائدة أن تدعيها لنفسك نكران للجميل وبالأولى امتناع عن الحمد والشكر الواجب الأداء للمنعم.
([8]) قوله: ما ليس منه أي الذي لا ينطبق على روح الدين فهو باطل لا يقبل وليس معناه البقاء على الحال السابقة فإن هذا خلاف سنة الله في خلقه من التطور وأن الثبات لا يكون إلا على ما يتعلق بالعبادة وأما الحوائج والشئون فيقبل منها كل ما لا يضر بالدين أو لا يمس المسلمين بسوء ولا يأتيهم من جهته أذى ولو بعد زمن طويل ألا ترى إلى النبي صلى الله عليه وسلم لما أشار عليه سلمان الفارسي بالخندق قبل رأيه وكان صلى الله عليه وسلم يحفر فيه بنفسه مع أن هذا لم يوجد عند العرب ولم يعرفوه ولكن لما كانت الغاية شريفة وهي محافظة المسلمين من شر الأعداء فعله صلى الله عليه وسلم وسيدنا عمر لما رأى أن الدسائس بدأت تدخل على المسلمين منع السفر إلى الجهات إلا بإذن منه لمدة معينة بوثيقة عليها توقيعه وهذا ما يسمونه الآن بجواز السفر ولما رأى أن المسلمين لا تاريخ يحفظ لهم وقائعهم وحقوقهم اتفقوا على اتخاذ التاريخ الهجري وكذلك دواوين المسلمين وأرزاقهم دونها سيدنا عمر وهذه كلها لم تكن في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم إلا أنها كانت لمصلحة المسلمين فقبلها الصحابة الكرام بكل بسط وانشراح. فالغاية الحقيقية من أمره صلى الله عليه وسلم اتباع كتاب الله وسنة الرسول والنظر لمصلحة المسلمين والباطل المردود هو كل ما خالف المشروع والمأثور أو ينجم عنه أذى يعود على المسلمين.
([9]) قوله: وعرضه لأنه إذا فعل الشبه جعل للسفهاء طريقًا للتطاول عليه بالافتراء والغيبة ونسبوه إلى فعل الحرام فجعل عرضه هدفًا للتناول والقدح والطعن والقذف وصار سببًا لوقوعهم في الإثم وقد ورد عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يقفن مواقف التهم». وقال علي كرم الله وجهه: إياك وما يسبق إلى القلوب إنكاره وإن كان عندك اعتذاره فرب سامع نكرًا لا تستطيع أن تسمعه عذرًا. وقد يتدرج إلى أن يصل إلى الحرام كالمثال الوارد في الحديث الشريف لأنه يصل إلى حالة لا يستطيع أن يحول دون وقوع نفسه في هاوية الحرام مهما كان قوي الإرادة متين العزيمة وإليه أشار الحديث:«لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده ويسرق الجمل فتقطع يده». أي يتدرج من البيضة إلى الجمل إلى نصاب السرقة فلا يصدر فعل إلا وقد سبقته مقدماته أو تكرر مرات عديدة قال تعالى: ﴿وَيَقْتُلُونَ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ﴾ [آل عمران:112]. يريد أنهم تدرجوا بالمعاصي إلى قتل الأنبياء. اهــــ. مصنف على الأربعين بتصرف.
([10]) قوله فيعمل بعمل أهل النار أي ظاهرًا أو صرفًا بعد أن كان مشوبًا. قال المصنف في «شرح الأربعين» على هذا الحديث إن من آمن وأخلص العمل لا يختم له دائمًا إلا بخير وأن خاتمة السوء إنما تكون في حق من أساء العمل أو خلطه بالعمل الصالح المشوب بنوع من الرياء والسمعة ويدل عليه الحديث الآخر: «إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس». أي فيما يظهر لهم من صلاح ظاهره مع فساد سريرته وخبثها والله تعالى أعلم. اهــــــ. وأما من يعمل بعمل أهل النار فيجوز أن يكون عنده من الإخلاص للإسلام والمسلمين ما يزيد على العبادة وأنتجت أعماله شيئًا كثيرًا من المنافع العامة التي هي مقصودة للشارع ولكن من غير العبادة الشخصية التي تظن أنها الكل في الكل فنعمة من الله عليه ومكافأة لما أجراه من الأفعال الحسنة والخير وكف الأذى وفقه الله إلى العمل الذي هو عنوان النجاح فيما يبدو للناس فيدخل الجنة بفضل الله وكرمه.
([11]) قوله ما لا يريبك مما تركن إليه النفس ويطمئن إليه الفؤاد ويستريح له القلب لأن الحس ناصح للمرء؛ ولذا جاء في حديث وَابِصَة: «اسْتَفْتِ قَلْبَكَ وَإِنْ أَفْتَاكَ الْمُفْتُون». لأن المرء أدرى بدخائل نفسه والروح تفر من المؤذي إذا لم تتدنس بالآثام وإذا صقلت بالتقوى لا تميل إلا إلى النافع المرضي لله ولرسوله.
وذلك لينصرف كل إلى عمله الذي خصص له أو وافق ذوقه وقابليته فإن انصراف المرء إلى البحث عن كل ما لا علاقة له به يمنعه من إنتاج أي عمل كان فيختل النظام وتسود الفوضى بالأعمال لأن إباحة هذا الفعل المذموم لشخص تجويزه للجميع فالشريعة الإسلامية جاءت عامة لا تستثني في أحكامها أحدًا ولا فضل لواحد على الثاني إلا بالتقوى والامتثال لأمر الله تعالى فمتى اشتغل كل بما لا يعنيه فسدت الأمور وفقد التوازن وهذا هو أحد الأسباب التي أقعدتنا الآن وجعلتنا آلة مسخرة للغير ولكن لا يرد على خاطرك أن هذا الحديث فيه أمر بعدم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فمعاذ الله أن يكون ذلك لأنه أمر يعني المسلمين قطعًا حيث إن الضرر الذي يحصل من انتشار المنكر لا يخص شخصًا دون آخر فهو أشبه بالمرض الساري وأظن أن الذين يعترضون على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يوافقون على بناء المحاجر الصحية ووضع البلدان تحت المراقبة إذا اشتبهوا بوجود أوبئة فيها. ومن المسلم أن الأمراض النفسية أشد فتكًا في جسم الأمة من الأمراض الظاهرية؛ إذ هذه محسوسة فيفر منها الإنسان أو يتخذ لها الاحتياطات وأما تلك فلا ترى وتسير مواكبها بانتظام ولا علم لأحد بجيوشها الجرارة المهلكة فما لا يعني مراد به التداخل في أمور لا نفع يعود عليه وعلى أمته منها ولا ضرر. وأما ما فيه منفعة أو مضرة فإنه يعني قطعًا فلو رأيت جارك يحرق داره لا تقول ما يعنيني إذا كانت دارك معروضة لانتهاب لهب الحريق إياها.
([12]) قوله: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه... إلخ» لأن الدين لم يدع إليه شخص واحد أو أنه حق فرد معين فالمسلمون أمام الدين كلهم بنظر واحد فإذا لم يحب رفيقه فإما لدنياه فيكون قد رجح الدنيا على الدين وإما لدينه فيكون حسودًا طالبًا لإزالة ما عليه أخوه غير راض بما قسم الله له وإن المسلمين بمثابة جسد واحد فعدم المحبة علامة الافتراق والافتراق مقدمة المحو والهلاك فكأنه أراد محو الدين بعدم محبته لأخيه وهذا ينافي الإيمان قطعًا وذكر المصنف في «شرح الأربعين» إن الحب يشمل الكافر والمسلم فيحب لأخيه الكافر ما يحب لنفسه من دخوله في الإسلام كما يحب لأخيه المسلم دوامه على الإسلام؛ ولهذا كان الدعاء للكافر بالهداية مستحبًا والمراد من المحبة إرادة الخير والمنفعة والمحبة المرادة هي الدينية لا البشرية فإن الطباع البشرية قد تكره حصول الخير وتمييز غيرها عنها والإنسان يجب عليه أن يخالف الطباع البشرية ويدعو لأخيه ويتمنى له ما يحب لنفسه.
([13]) قوله: «فأنى يستجاب لذلك» وقد امتلأ جسمه من الحرام وهذا نص صريح في أن التقوى ليست باللباس فليس كل من تراه قذرًا أو متقشفًا هو رجل صالح، وإنما يجب أن يزنه بميزان الشرع فإن ظهر كاملًا فهذا هو الصالح حقًا لبس جيدًا وجديدًا وليس عاطلًا خلقًا وإن كان ناقصًا فهو الشقي وإن كان زيه زي أتقى الناس وأورعهم فمنهم من يتخذ الشعث زهدًا في الدنيا ومنهم من يتخذه مصيدة للاستيلاء على قلوب الناس وأموالهم ومنهم من يتخذ اللباس تحدثًا بنعمة الله وإظهارا لها ومنهم من يستعمله كبرًا وغرورًا فكلها تدور حول الحديث الأول «إنما الأعمال بالنيات» ولكن المقياس الحقيقي لنا عدم اتباع المشروع أو اتباعه.
([14]) قوله: «لا ضرر» أي يضر الإنسان أخاه لأجل نفع نفسه «ولا ضرار» أي يضر غيره بدون انتفاع فكلاهما مذموم لأن الشريعة لم تجوز لك منفعة تضر فيها غيرك. وقال في «النهاية» لا ضرر؛ أي لا يضر الرجل أخاه فينقصه شيئًا من حقه ولا ضرار؛ أي لا يجازيه على إضراره بإدخال الضرر عليه. اهــــ. باختصار وإلى الأخير الإشارة بقوله تعالى: ﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ﴾ [فصِّلت:34].
([15]) فأما النصحية لله فالإخلاص في العبادة ونفي الشرك وترك الإلحاد وتنزيهه تعالى عن كل نقص وعيب مع القيام بالطاعة والحث عليها واجتناب المعاصي وزجر الغير عنها والحب في الله والبغض لله وأما النصحية لرسوله فهي تصديقه والإيمان بما جاء به وبث دعوته وإحياء سنته وقمع بدعه والتخلق بأخلاق النبي صلى الله عليه وسلم والتأدب بآدابه والحب لآله وأصحابه. وأما النصيحة لأئمة المسلمين فمعاونتهم على الحق وطاعتهم فيه وأمرهم به ونهيهم عنه وتذكيرهم به وإعلامهم بما غفلوا عنه وألَّا يغرهم بالثناء عليهم كذبًا وزورًا. اهــــ. نووي على الأربعين بتصرف.
([16]) قوله: «بكثرة مسائلهم» لأنها تسبب الخلاف وتورث النزاع وقد وقع ما حذر منه الرسول صلى الله عليه وسلم فقد بلغ من كثرة المسائل أن صارت الخيالات البعيدة عن العقل تدون بالكتب وتمضي الأوقات الكثيرة لدرسها والتحقيق عنها وهي مستحيلة الوقوع عادة كقولهم لو نزا ثور على بقرة فولدت إنسانًا وأقرأناه القرآن وصار خطيبًا لنا يوم العيد جازت تضحيته وقد بلغ من الاختلاف أن المسلمين يكفر بعضهم بعضًا ويتعصبون على بعضهم وليتهم فَعَّلُوا هذا التعصب ووجهوا قوتهم نحو الكفار الذين استغلوا هذا الاختلاف فامتلكوا البلاد واستعبدوا الأشخاص فإنا لله وإنا إليه راجعون.
([17]) قوله: «ازهد في الدنيا» ليس المراد منه أن يترك كل عمل ويعتزل العالم مقتنعًا بعيش أشبه بحالة الحيوانات الوحشية حتى يحتاج إلى الصدقة والمعونة فإنه عند ذلك يكون مكروهًا لا محبوبًا بل المقصد أن يخرج حب الدنيا من قلبه مؤديًا ما عليه من الحقوق لا يبخل ولا يسرف فإن الاقتصاد والاعتدال هو الذي أثنى الله في كتابه على من عمل به قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا﴾ [الفرقان:67].
([18]) قوله: «إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله» يعني أن من ترك حقًا من حقوق الإسلام ليس له حق في استحصال العصمة وقد يؤول الأمر إلى سفك دمه إذا كان فيه ضرر على المسلمين ولا عبرة بما تكنه الضمائر وتخفيه الأفئدة فإن حساب ذلك على الله.
وأما مسألة المنافقين وأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقتل أحدًا منهم فلأن حالتهم لم تصل إلى أنهم أظهروا شيئًا وإنما الذي يقولونه لإخوانهم يحتاج لتأويلات دقيقة كي يظهر طعنهم ونفاقهم؛ ولذا قال تعالى: ﴿وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ القَوْلِ﴾ [محمد:30]. فإن اللحن هو الرمز الذي يستعمله الرفقاء كي لا يفهم كلامهم غريب عنهم. قال الشاعر:
ولقد لحنت لكم لكيما تفهموا
|
* | واللحن يفهمه ذوو الألباب |
أما لما أرادوا أن يشكلوا جماعتهم ويجمعوا شملهم حيث بنوا مسجد الضرار فقد آخذهم الله تعالى وأمر رسوله بهدم مسجدهم ولم تنفعهم صورة الغش وأن المسجد محبب في الظاهر للمسلمين فإذن حق الإسلام وهو محافظة كيانه يجب أن يصان ولا ينتهك ومجرد الإدعاء وزعم حب الخير لا يجدي نفعًا ولو أن أهل مسجد الضرار كانوا داخله لهدم عليهم ولكنهم فروا ولم تنفعهم دعوى الإخلاص في محافظة مسجدهم الذي لم يريدوا به وجه الله فالهدف الحقيقي منفعة الإسلام والمسلمين في كل أمر وشكل وحالة ووضع.
([19]) قوله: «بني الإسلام على خمس» لا أدري ماذا نقول عن شخص يدعي الإسلام ولم يعلم من هذا البناء شيئًا؟ وهل هو إلا مستهزئ بالإسلام يريد استغلال الإسلام والاستفادة منه بدعوى لا بينة له عليها وما أحسن مناسبة هذا الحديث بما وراءه وهو قوله صلى الله عليه وسلم: «لَوْ يُعْطَى النَّاسُ بِدَعْوَاهُمْ لَادَّعَى... إلخ» فإن هذا يوافق عصرنا حيث أن كثيرين ممن يدعون الإسلام وأن لهم فيه قدما راسخًا لم يصدر عنهم شيء من الأركان غير دعوى الشهادة وقد يجوز أن تكون من الشهادة التي ذكرها الله بقوله: ﴿إِذَا جَاءَكَ المُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ المُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ﴾ [المنافقون:1]. فلا بد من البينة على دعوى الإسلام وهي العمل بأركانه والسعي خلف مصلحة المسلمين.
([21]) قوله: «فليقل خيرًا أو ليصمت» قال الشافعي رحمه الله: معنى الحديث إذا أراد أن يتكلم فليفكر فإن ظهر أنه لا ضرر عليه تكلم وإن ظهر أن فيه ضررًا أو شك فيه أمسك؛ ولذا قال القُشَيْرِي: السكوت في وقته صفة الرجال كما أن النطق في موضعه من أشرف الخصال وقال الدقاق: من سكت عن الحق فهو شيطان أخرس. اهـــــ. نووي. وقوله: «فليكرم جاره» وذلك لأن أول التعارف يبتدئ من الجار الذي وصى الله به في كتابه ﴿وَالجَارِ الجُنُبِ﴾ [النساء:36]. فإن إهمال الجار وإكرام غيره دليل على أن الإكرام لدسيسة أو نية غير حسنة؛ إذ العدول عن القريب إلى البعيد يدعو إلى الريبة، بل هو دليلها وإن إكرام الجار مقدمة لإكرام الغير فمتى تمرن الشخص على إكرام القريب لا يحجم عن إكرام البعيد. «لكل امرئ من دهره ما تعودا» والجار يكرم جاره فيعم الإكرام وقوله: «فليكرم ضيفه». ترقى الشارع بالشخص إلى المرتبة الثالثة فإنه بدأ به في قول الحق باللسان ثم صعد به إلى إعطاء المال، ولكن للجار ثم نهض به إلى أرفع بأن يكرم ضيفه وهو الغريب الذي لا يعرفه ليعلم المسلمون أنهم كلهم عائلة واحدة لا فرق بين الجار والرجل الغريب.
([22]) قوله: «لا تغضب» لأن الغضب نوع من الجنون فيصدر عن الإنسان في حالة تهيجه ما لا يرضاه في حال السكينة فقد يخرب في تلك اللحظة ما عمره في السنين الطوال؛ لأن التخريب أسهل من التعمير ولما كان مقصود الشارع محافظة الأعمال الصالحة كالحث عليها كرر الوصاية بقوله صلى الله عليه وسلم لا تغضب لتستطيع حفظ ما بنيته من الأعمال وإلا فإنك تبقى محفوظًا لا تستطيع أن تحتفظ بشيء وتكون كمن يجمع أموالًا طائلة ثم يلقيها بعد مدة في البحر ويكتفي بأنه كان وكان، فالشارع يريد منك أن تكون في كل أحوالك مالكًا لعقلك ومشاعرك محافظًا على ما حصل لك في هذه الحياة من الأعمال الصالحة.
([23]) قوله: «حيثما كنت»؛ أي لا فرق بين سرك وعلنك ليدل على إخلاصك لأن الله مطلع عليك ولا تخفى عليه خافية ولتكن عبادتك في دارك لا تقل عن عبادتك في المسجد الحرام وذلك ليدل على قوة إيمانك الثابت بعدم الفرق بين عملك في جميع الأمكنة مبتعدًا عن الرياء والسمعة حيث لا نفرق بين وجود الناس وبين عدمهم وأتبع السيئة الحسنة تمحها لقوله تعالى: ﴿إِنَّ الحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ﴾ [هود:114]. وخالق الناس بخلق حسن لأنه منبع الفضائل وكان ثناء الله على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم بهذه الخصلة الجميلة ﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ [القلم:4]. فإن سنة الله في الكون أن جعل الناس في احتياج لبعضهم لا يمكن أن يستغنوا عن المساعدة فالخلق السيئ يدعو إلى الوحدة والعيش بمعزل عن الناس خلاف تعاليم الدين الإسلامي التي جعلت الاجتماع في كل يوم خمس مرات فكيف يتمكن من مخالطة من لا يتوافق طبعه مع مزاجهم؟ ولما كان حدوث النزاع والشقاق قريب الوقوع أمر صلى الله عليه وسلم بأن يخالق الناس بخلق حسن لتجتمع كلمتهم ولا يحصل مجال لأن تعبث الأيدي اللئيمة بين المسلمين فتفرق كلمتهم وإن فوائد الخلق الحسن مما لا يتسع هذا البحث لذكر جزء منها فما بالك بها كلها ويكفي منها ما ذكره الله في كتابه العزيز ثناء على الخلق الحسن.
([24]) قوله: «برأس الأمر وعموده الجهاد»؛ وذلك لأنه يدل على القوة والعظمة وهذه تحفظ الأمن وبظل الأمن تقام الأحكام ويعبد الله علنًا بلا معارضة ولا نزاع أما ترك الجهاد فهو دليل العجز والاستسلام للعدو فيبقى الإسلام بيتًا لا عمود له؛ أي إنه لا يصلح للاستعمال ولا تحصل الفائدة المطلوبة منه ومهما منحت حرية العبادة من غير المسلمين فإنها مقيدة باستحصال أمر عدو تلك العبادة فأي خير يرجى منها يا ترى؟ فما ألذ هذه الجملة التي هي من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم.وقوله كف عليك هذا لأن اللسان ترجمان القلب فيجوز أن تتكلم بما لا تعتقده فتعامل بموجب ما تكلمت ولا يفيدك سرد المعاذير وإن أفادتك في عدم إقامة الحد فلا تفيدك من الشبهة التي أصبحت لا تفارقك ولا تدري كيف التخلص منها. وقوله حصائد ألسنتهم لأن الله منح الإنسان نعمة عظيمة وهي أن التصور القلبي ومجرد الهم لا يؤاخذ عليه فمتى تكلم فقد كتب به عليه وعرض نفسه للمسئولية التي لولا لسانه لكان منها ناجيًا وبريئًا.
([25]) قوله: «فاسأل الله» لأن عزة الإسلام تأبى الذلة والخضوع لغير الخالق الذي له المنة فإن سؤال شخص مثلك يسوقك إلى الخمول واعتبار المسؤول إما أعلى من البشرية وهذا يخالف التوحيد وإما أنه في مرتبة الإنسانية فيكون السائل أحط قدرًا من الإنسان مع أنه تعالى خلقه بشرًا سويًا.
([26]) قوله: فاستعن بالله أي من حيث اعتقاد النفع والضر لا المساعدة في الأعمال فقد حث عليها تعالى بقوله: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ وَالتَّقْوَى﴾ [المائدة:2].
([27]) قوله: «النصر مع الصبر... إلخ» قاعدة من قواعد الدين أغفلها معظم الناس وهي عدم إعطاء فرصة لوصول اليأس إلى القلوب، فالمسلمون يجب أن يكون لهم عزم شديد في حال الكرب لا يقل عن وقت الفرج وفي حال الهزيمة لا يقل عن زمن النصر، وأن تكون نصب أعينهم آية ﴿إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا﴾ [غافر:51]، ﴿فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الغَالِبُونَ﴾ [المائدة:56].
([28]) قوله: إذا لم تستح أي من الله ولا رسوله فلا تبال بارتكاب أي عمل شئته وهذا أمر للتهديد فإن مصيرك إلينا وسوف ترى ما قدمته من العمل ﴿إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللهُ﴾ [لقمان:16].
فصل في حقيقة الإخلاص والصدق