فصل
اعلم أنه ينبغي لمن أراد شيئًا من الطاعات وإن قل أن يحضر النية وهو أن يقصد بعمله رضا الله عز وجل وتكون نيته حال العمل ويدخل في هذا جميع العبادات من الصلاة والصوم والوضوء والتيمم والاعتكاف والحج والزكاة والصدقة وقضاء الحوائج وعيادة المريض واتباع الجنائز وابتداء السلام ورده وتشميت العاطس وإنكار المنكر والأمر بالمعروف وإجابة الدعوة وحضور مجالس العلم والأذكار وزيارة الأخيار والنفقة على الأهل والضيف وإكرام أهل الود وذوي الأرحام ومذاكرة العلم والمناظرة فيه وتكراره وتدريسه وتعليمه ومطالعته وكتابته وتصنيفه والفتاوي وكذلك ما أشبه هذه الأعمال حتى لا ينبغي له إذا أكل أو شرب أو نام يقصد بذلك التقوى على طاعة الله أو راحة البدن للتنشط للطاعة. وكذلك إذا أراد جماع زوجته يقصد إيصالها حقها وتحصيل ولد صالح يعبد الله تعالى وإعفاف نفسه وصيانتها من التطلع إلى حرام والفكر فيه. فمن حرم النية في هذه الأعمال فقد حرم خيرًا عظيمًا كثيرًا ومن وفق لها فقد أعطي فضلًا جسيمًا، فنسأل الله الكريم التوفيق لذلك وسائر وجوه الخير ودلائل هذه القاعدة ما قدمناه من قوله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى». قال العلماء من أهل اللغة والأصول والفقه: إنما: للحصر تفيد تحصيل المذكور ونفي ما سواه. وقد قدمنا هذا في أول الباب. وقد قالوا: أنه قيل لأبي يحيي حبيب بن أبي ثابت التابعي مفتي أهل الكوفة والمعول عليه عندهم رحمه الله حدثنا عن أشق شيء. قال: مجيء النية. وعن سفيان الثوري رحمه الله قال: ما عالجت([1]) أشد علي من نيتي. وعن يزيد بن هارون رحمه الله: ما عزت النية في الحديث إلا لشرفها. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: إنما يحفظ الرجل على قدر نيته. وعن غيره: إنما يعطي الناس قدر نياتهم. وعن الإمام أبي عبد الله محمد بن إدريس الشافعي بالإسناد الصحيح أنه قال: وددت أن الخلق تعلموا هذا على ألَّا ينسب إلي حرف منه. وقال الشافعي أيضًا: ما ناظرت أحدًا قط على الغلبة، ووددت إذا ناظرت أحدًا أن يظهر الحقُ على يديه. وقال أيضًا: ما كلمت أحدًا قط إلا أحببت أن يوفق ويسدد ويعاون ويكون عليه رعاية من الله تعالى وحفظ. وقال الإمام أبو يوسف صاحب أبي حنيفة رحمهما الله تعالى: أريدوا بعلمكم الله تعالى فإني لم أجلس في مجلس قط أنوي فيه أن أتواضع إلا لم أقم حتى أعلوهم ولم أجلس مجلسًا قط أنوي فيه أن أعلوهم إلا لم أقم حتى أفتضح.
([1]) إنه يريد الإخلاص وتصفية الأعمال من الشوائب التي تلوث العمل أو تؤخره فهو يسعى ليكون عمله خالصًا لوجه الله الكريم وإلا لو كان المراد من النية مجرد القصد لكان من أيسر ما يكون وإنك لو دققت ما بحثه السلف الصالح من أنهم يعانون مشقات لتصحيح النية لا تجد سببه إلا أنهم يريدون أن تكون أعمالهم غير مقرونة بشيء من النقائص فيطبقون الباطن على الظاهر ليستوي السر والعلانية فيحوزوا القبول عند الله تعالى.
فصل