فصل في حقيقة الإخلاص والصدق
أما الإخلاص فقال الله تعالى: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾ [البيِّنة:5]. الآية. وروينا عن حذيفة بن اليمان رضي الله تعالى عنه قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الإخلاص ما هو فقال: «سألت جبريل عن الإخلاص ما هو فقال: سألت رب العزة عن الإخلاص ما هو فقال: سر من أسراري أودعته قلب من أحب من عبادي». وروينا عن الأستاذ الإمام أبي القاسم القُشَيْرِي رحمه الله تعالى قال: الإخلاص إفراد الحق في الطاعة بالقصد وهو يريد بطاعته التقرب إلى الله تعالى دون شيء آخر من التصنع لمخلوق واكتساب محمدة عند الناس أو منحة مدح من الخلق أو معنى من المعاني سوى التقرب إلى الله تعالى. قال: ويصح أن يقال الإخلاص التوقي عن ملاحظة الأشخاص.
وروينا عن الأستاذ أبي علي الدقاق رحمه الله تعالى قال: الإخلاص التوقي عن ملاحظة الخلق والصدق والتبقي عن مطالعة النفس فالمخلص لا رياء له والصادق لا إعجاب له. وروينا عن أبي يعقوب السوسي رضي الله تعالى عنه قال: متى شهدوا في إخلاصهم الإخلاص احتاج إخلاصهم إلى إخلاص. وروينا عن السيد الجليل ذي النون رضي الله تعالى عنه قال: ثلاث من علامات الإخلاص استواء المدح والذم من العامة ونسيان رؤية الأعمال في الأعمال واقتضاء ثواب العمل في الآخرة. وعن أبي عثمان المغربي رحمه الله تعالى قال: الإخلاص نسيان رؤية الخلق بدوام النظر إلى الخالق. وعن حذيفة المرعشي رحمه الله تعالى قال: الإخلاص أن تستوي أفعال العبد في الظاهر والباطن.
وعن السيد الجليل فضيل بن عياض رحمه الله تعالى قال: ترك العمل لأجل الناس رياء والعمل لأجل الناس شرك والإخلاص أن يعافيك الله منهما. وعن السيد الجليل أبي محمد سهل بن عبد الله التستري رحمه الله تعالى أنه سئل أي شيء أشد على النفس؟ قال: إخلاص لأنه شيء ليس لها فيه نصيب. وعن يوسف بن الحسين رحمه الله تعالى قال: أعز شيء في الدنيا الإخلاص.
وعن أبي عثمان المغربي رحمه الله تعالى قال: إخلاص العوام ما لا يكون للنفس فيه حظ، وإخلاص الخواص ما يجري عليهم لا بهم فتبدو منهم الطاعات وهم عنها بمعزل ولا تقع لهم عليها رؤية ولا لهم عليها اعتداد.
وروينا عن السيد الجليل الإمام التابعي مكحول رضي الله تعالى عنه قال: ما أخلص عبد قط أربعين يوما إلا ظهرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه.
وروينا عن سهل التستري قال: من زهد في الدنيا أربعين يومًا صادقًا من قلبه مخلصًا في ذلك ظهرت له الكرامات، ومن لم يظهر له فإنه عدم الصدق في زهده. فقيل لسهل: كيف تظهر له الكرامات؟ قال: يأخذ ما يشاء كما //يشاء من حيث([1]) يشاء. قال سهل التستري رحمه الله: نظر الأكياس في تفسير الإخلاص فلم يجدوا غير هذا أن تكون حركته وسكونه في سره وعلانيته لله تعالى وحده لا يمازجه شيء، لا نفس ولا هوى ولا دنيا. وقال السري رحمه الله: لا تعمل للناس شيئًا ولا تترك لهم شيئًا ولا تعط لهم شيئًا ولا تكشف لهم شيئًا. وأما الصدق فقال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا([2]) مَعَ الصَّادِقِينَ﴾ [التوبة:119]. وروينا عن الأستاذ القُشَيْرِي رحمه الله قال: الصدق عماد الأمر وبه تمامه وفيه نظامه. قال: وأقل الصدق استواء السر والعلانية، وروينا عن سهل رحمه الله تعالى قال: لا يشم رائحة الصدق عبد داهن نفسه أو غيره، وروينا عن ذي النون قال: الصدق سيف الله ما وضع على شيء إلا قطعه، وروينا عن السيد الجليل الإمام العارف الحارث المحاسبي رحمه الله تعالى قال: الصادق هو الذي لا يبالي لو خرج كل قدر له في قلوب الخلق من أجل صلاح قلبه ولا يحب إطلاع الناس على مثاقيل من حسن عمله ولا يكره أن يطلع الناس على السيئ من عمله فإن كراهته دليل على أنه يحب الزيادة عندهم وليس هذا من إخلاص الصديقين، وقيل: إذا طلبت من الله تعالى الصدق أعطاك مرآة تبصر فيها كل شيء من عجائب الدنيا والآخرة، وروينا عن السيد الجليل أبي القاسم الجنيد رضي الله تعالى عنه قال: الصادق يتقلب في اليوم أربعين مرة والمرائي يثبت على حالة واحدة أربعين سنة. قلت: معناه أن الصادق يدور مع الحق كيف كان فإذا رأى الفضل الشرعي في أمر عمل به وإن خالف ما كان عليه عادته وإذا عرض أهم منه في الشرع ولا يمكن الجمع بينهما انتقل إلى الأفضل ولا يزال هكذا وربما كان في اليوم الواحد على مئة حال أو ألف وأكثر على حسب تمكنه في المعارف وظهور الدقائق له واللطائف، وأما المرائي فيلزم حالة واحدة بحيث لو عرض له مهم يرجحه الشرع عليه في بعض الأحوال لم يأت بهذا المهم بل يحافظ على حالته لأنه يرائي بعبادته وحاله المخلوقين فيخاف من التغير ذهاب محبتهم إياه فيحافظ على بقائها، والصادق يريد بعبادته وجه الله تعالى فحيث رجح الشرع حالا صار إليه ولا يعرج على المخلوقين. وقد بسطت القول في هذه الحكاية في أول «شرح المهذب» وذكرت دلائلها وأوضحتها بالأمثلة ومقصودها ما ذكرته هنا فاقتصرت عليه؛ والله أعلم.
([1]) قوله: كما يشاء من حيث يشاء لا أدري هل بلغ من العصمة ألَّا يشاء إلا ما يباح له مع أن العصمة خاصة بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام أم أنه أبيح له كل شيء حتى الحرام؟ وهذا لا يتفق مع الكرامة بل يتنافى مع الديانة الإسلامية؛ وعلى كل فهذه الدعوى تحتاج في إثباتها إلى برهان وتأمل بإنصاف مع مراجعة نقد مالك الصوفية صفحة 341 من كتاب «تلبيس إبليس» للعلامة الحافظ ابن الجوزي المطبوع للمرة الثانية من قبل إدارة الطباعة المنيرية.
([2]) قوله: ﴿وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ﴾ لأن الجليس له تأثير في الخير والشر والطبع سراق وشأن المرء تقليد من يخالطه كثيرًا ولو من حيث لا يشعر قال طرفة:
عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه |
* | فكل قرين بالمقارن يقتدي |
فالحسن شيء يسلكه من يريد تهذيب النفس هو مخالطة الكامل لتسري طباعه وعوايده الحسنة فيه فإن تأثير الأفعال أشد من تأثير الأقوال قطعًا.
فصل