التداوي بالقرآن شريعة إسلامية مقررة
1) خالف تعرف:
مما أمامي الآن من الأسئلة: سؤالٌ من أخ داعية فاضل، يستصرخ فيه الإنصاف العلمي وقولة الحق في حكم التداوي بالقرآن، وذلك كأثر لما أحدثته كلمة إذاعية لعالم مسلم مشهور، نفى فيها نفيًا باتًا أن في كتاب الله ما يتوسل به إلى الله في شفاء الأجسام والأرواح، وقال: إن القرآن كتاب هداية، لا كتاب علاج!! أو كما قال!!.
وهل كونه كتاب هداية وإرشاد، يتعارض عقلًا أو شرعًا مع كونه كتاب بركة، وسبيل دعاء وابتهال وتوسل وأسرار؟!.
والذي نعرفه: أنَّها شنشنة مألوفة من كُلِّ من يدعي التجديد والتوحيد في هذه الأمَّة، وشذوذ يتعمده كُلُّ راغب في التسلق إلى القمة من السلم الخلفي!! باسم السُّنَّة والتوحيد والتجديد.
وقد جَرَّب هؤلاء وأمثالهم قاعدة «خالف تعرف»، وتأكدوا بالتجربة أنَّها أقرب الوسائل إلى الشهرة وبلوغ المآرب، مع شيء من التملق والنفاق ومسايرة الركب وإن ضَلَّ؛ فلم لا يبتغون هذه الوسيلة اليسيرة، وقد ضربت لهم الأمثال؟! .
فليست المسألة هنا مسألة دين، أو أمانة علمية، أو إنصاف للحقيقة، ولكنها مسألة غل ذاتي، ومرض نفسي، وتعصب مذهبي، وشهوة فوارة، مطلوب تحقيقها من أيسر الأبواب، ومن الغريب أنَّك قَلَّمَا وجدت من هؤلاء إنسانًا سويًا، إنما هو الغرور والاستعلاء والتجهم والتكشير والفظاظة.
ونحن للدِّين وللعلم وللإنصاف، نجمل هذا الموضوع هنا إجمالًا فيما يأتي على اعتقادنا، وعلى ما ثبت لدينا عقلًا وشرعًا وتجربًة واقعيًة مكررًة، كانت وسوف تظل باقية، والمسلم ملزم باتباع ما صَحَّ عنده بدليله، ومن الله التوفيق.
2) العلاج البدني والروحي:
الطبُّ طبَّان: بدني وروحي، اتفقت الدُّنيا عليهما، علمًا ودينًا، سلفًا وخلفًا، فما من سبيل إلى إنكارهما أو إنكار أحدهما، إلاّ مكابرة أو مغالطة أو عصبية مجردة، إن لم تكن جهالة أو حماقة أو هوى غير بريء، باسم التوحيد والسُّنَّة وطلب المنفعة.
ولطالما كان -ولا يزال، وسوف يبقى- الطب البدني عاجزًا كل العجز أمام أمراض لا شفاء منها إلا بالطريق الرُّوحي قولًا واحدًا، وكثير أولئك الأطباء الذين مرضوا -فضلًا عن الكافة- فعجزوا وعجز كبار زملائهم عن علاجهم، بكل ما في الطِّبِّ من كفاية، ثُمَّ وجدوا -وهم الأطباء العصريون المثقفون- الدواء والشِّفَاء في العلاج الروُّحي وحده، ومنهم كثرة تعيش بيننا تعترف بهذا، وتدلُّ عليه، وتوجِّه إليه، كمادة أصلية مع العلاج بأدوية الطب البدني للجمع بين دواء الظاهر والباطن.
وقد آمن العلم الحديث بالطب النفسي والعصبي، وقرره واعتمده، وإنما الطب النفسي والعصبي والمغناطيسي العلمي وجه من وجوه العلاج الروُّحي، ما لم ينحرف.
3) الإنسان بدن وروح:
والمسألة بسيطة للغاية، فالإنسان بدن وروح، فإذا حَدَثَ المرض تعيَّن أن يتلقى الجسد علاجه المادِّي، وأن تتلقى الرُّوح علاجها الرباني، وَلَمَّا كانت الرُّوح أغلب كان العلاج الروُّحي كثيرا ما يغني عن العلاج البدني، لكن الفطرة تقتضي أن يتلازم هذا وذاك، وتلك هي السُّنَّة النبوية ؛ فقد روى ابن ماجه، والحاكم وصَحَّحَه على شرط الشيخين، وسلّمه الذهبي ، وجوَّده ابن كثير، عن ابن مسعود رضى الله عنه، قال صلى الله عليه وسلم: «عَلَيْكُمْ بِالشِّفَاءَيْنِ: الْعَسَلِ، وَالْقُرْآنِ» ([1])، فكان ذكر العسل إشارة إلى ممارسة الدواء البدني، وذكر القرآن إشارة إلى أن يجمع معه الدواء الرُّوحي، وفيما ورد من الطب النبوي أنماط شَتَّى من التداوي بالعلاجين البدني والرُّوحي، رجع إليها في كتب الحديث المعتمدة، ومؤلفات علماء السلف.
4) العلاج الروحي فطرة:
وطلب الدواء الرُّوحي أصل من أصول الفطرة، ألا ترى إلى الإنسان -أي إنسان- عندما يتناول جرعة الدواء البدني، ينطلق لسانه بالدعاء قبلها وبعدها عفوًا، كما ينطلق لسان مَنْ حوله كذلك بالدعاء له بالشِّفَاء ؟! هذا الدعاء هو العلاج الرُّوحي مع العلاج البدني، فإنَّ الشَّافي على الحقيقة هو الله، لا الدواء، وما الدواء إلاّ سبب مجرد تقع عنده إرادة الله بالشِّفَاء، وكذلك الدعاء أو الرُّقى أو القرآن، سبب مبارك تقع عنده إرادة الله بالشفاء، ما دام قد سبق هذا في العلم القديم.
5) التداوي بالقرآن توسُّل:
ثُمَّ إنَّ الاستشفاء أو التداوي بالقرآن لا يعدو أن يكون دعاء يبتهل به المريض، أو يبتهل به لأجله غيره، توسُّلًا إلى الشَّافي الأعظم سبحانه، رجاء أن يبرئه الله من مرضه الذي يعانيه، ولا خلاف بين المسلمين على جواز التوسُّل إلى الله بكتاب الله، وهذه أدعية الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا المقام دليل قاطع وبرهان ساطع.
وسواء كان الدعاء منطوقًا أم مكتوبًا أو غير ذلك؛ فإنما العبرة أولًا وأخيرًا بالتوجه القلبي والنية والهمَّة، فمتى ما صَحَّ هذا التوجه، ورقاه، وصدقت النية، وتكاملت بالشروط في الدُّعاء وفي الدَّاعي، كان أمر الحروف منطوقة أو مفهومة أو مرقومة أمرًا ثانويًا غير ذي بال، فالذي نتوجَّه إليه بالقول هو العليم، الذي نتوجه إليه بالكتابة، وهو في الحالين إنما ينظر إلى قلوب الناس، لا إلى مقولهم، ولا إلى مكتوبهم، وإن كان من الثابت تأثير الجهر بالقراءة والدعاء على نفسية المريض، كما أنَّ لرجيع الصوت أثر بالغ مجرب في نفس المريض من أهل الصَّلاح والتقوى، وبخاصة في الأمراض العصبية والنفسية.
6) التداوي بالقرآن سنة نبوية:
وقد روى الثعلبي بسنده، عن رجاء الغنوي، يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ لم يستشف بالقرآن فلا شفاه الله» ([2]).
وروى السجزي في «الإبانة»، والقضاعي في «مسند الشهاب»، بإسناد حسن عنه ص قال: «القرآن هو الدواء» .
وروى ابن ماجه -بإسناد حسن- في باب الاستشفاء بالقرآن ، عنه صلى الله عليه وسلم قال : «خير الدواء القرآن» ، أي : مع الطب الحسي، ومع الطب النفسي جميعًا.
ولا موجب أبدًا إلى التكلف التعسفي، لصرف معنى الدواء هنا إلى الدواء المعنوي بمعنى: الهداية والإرشاد، أو قصر المعنى على هذا الوجه وحده، فلا دليل عليه قط، وهو إن تمشى مع منطوق حديث، فلن يتمشى مع بقية الأسباب والمناسبات والوقائع والحقائق في بقية الأحاديث؛ بل إنَّ المتعين أن يكون الدواء هنا بمعنى الاستشفاء من الأمراض الحسية البدنية بالذات، أمَّا غيرها فبالإضافة إليها.
ودليله ما جاء نصًّا في رواية البخاري، ومسلم، وغيرهما، منقصة«رقيةاللديغ بالفاتحة» حتى بريء، وقوله صلى الله عليه وسلم للراقي إذاستأذنهفيتناول ماعرضوه عليه أجرًا للرقية بالقرآن: «إِنَّ أحقَّ ماأخذتمعليهأجرًاكتاب الله». ثُمَّ إنَّه صلى الله عليه وسلم طلب لنفسه سهمًا من أجر هذا العلاج القرآني، مبالغًة في تأكيد شرعية هذا العلاج، وتحقيق نفعه، وتسجيل سنيته، والتنصيص الحاسم عليه.
7) بعض آيات التدوي:
وهكذا روى الدَّارمي، والبيهقي، بسند رجاله ثقات، قال صلى الله عليه وسلم: «فاتحة الكتاب شفاء من كل داء»، أي: بعد اتخاذ الطب البدني المناسب.
وقد ورد غير ذلك في فضل الاستشفاء بآيات شتَّى من القرآن، كما جاء في خبر ابن مسعود رضى الله عنه حين قرأ في أذن رجل مبتلى أواخر سورة «المؤمنون» فشُفِي، فقال صلى الله عليه وسلم: «لو قرأ بها رجلٌ موقنٌ على جبل لزال»، ولعل هذا الابتلاء كان أثرًا لحادث نفساني روحي، فزال المرض بزوال سببه.
وكذلك وردت أحاديث صحاح ثوابت مسلَّمة عند المُحَدِّثين في فضل التداوي بالإخلاص، والمعوِّذَتين، والكافرون، والآيات الأربع من أول سورة البقرة، وآية الكرسي، والآيات الثلاث من خواتيم البقرة، وآية آل عمران: ﴿شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾ [آل عمران: 18]، وآية الأعراف: ﴿إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ﴾ [الأعراف: 54]، وآية الجن: ﴿وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا﴾ [الجن: 3]، والآيات العشر من أول الصَّافات، والآيات الثلاث من أواخر الحشر ... إلخ، وقد بيَّن العلماء أنواع الأمراض الصالحة لها، وكيفية ممارسة علاجها، فيطلب ذلك من مظانه وأبوابه من كتب الحديث والسيرة المشرفة، وخصوصًا ما كتبه الشيخ ابن القيم، وما جمعه الشيخ أبو الفضل الغماري عليهما رحمة الله.
8) تخريج أحاديث التداوي بالقرآن:
ثُمَّ إِنَّ أحاديث التداوي بالقرآن على المعنى الذي بيَّناه قد وردت مخرَّجة في جمهرة كتب السنة، فأنت واجدٌ ذلك مثلًا في (موطأ) مالك، ومسند أحمد، وصحيحي البخاري ومسلم، وسنن أبي داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، وصحيح ابن حبان، ومستدرك الحاكم، وسنن الدَّارَقُطْني، والبيهقي، ومعاجم الطبراني، ومسانيد: البزَّار: وأبي يعلى، وزوائد الهيثمي، وعبد الله بن أحمد، وما أفرده العلماء من كتب الطب النبوي، ككتاب ابن الجوزي، وغير ذلك مما لا موجب لتعداده، وبعضه مما يعز وجوده، أو الوصول إليه من غير أهله، فلا يحكم عليه جاهل به.
9) الصحابة الذين رووا أحاديث التداوي:
وقد روى أحاديث التداوي بالقرآن أكثر من أربعة عشر صحابيًا، منهم «الراشدون» كعثمان وعليٍّ، ومنهم «الفقهاء» كابن مسعود وابن عباس وأبيّ، ومنهم «الحفاظ» كجابر وأبي سعيد، فلم يبق أدنى شَك في جواز هذا التداوي من الوجهة الفنية في الحديث النبوي، ولا في أنَّه سنة قولية وعملية وإقرارية، كما لم يبق أدني شَكٍّ في حصول الفائدة به من التجربة الأكيدة المكررة، حسيا ونفسيا، جمعا بين العلاجين والدواءين، للنَّفْس والبدن.
10) من كيفيات العلاج القرآني:
وقد ورد في السنة كيفيات وصور متعددة لهذا التداوي.
فمنها: القراءة والنفث في اليد، والمرور بها على مكان المرض، وهو في أكثر الصحاح.
ومنها: القراءة بلا نفث، مع وضع اليد على موضع المرض أيضًا.
ومنها: القراءة على ماء يشربه المريض، كما نقله الحافظ ابن الجوزي وغيره، عن أحمد وغير أحمد، مرفوعًا وموقوفًا.
ومنها: كتابة الآيات ومحوها بماء يشربه المريض، كما أورده الحافظ ابن كثير، عن عليٍّ بن أبي طالب، ونقله في «زاد المعاد» عن جماعة من ثقات السلف منهم مجاهد، وأبو قلابة وابن عَبَّاس، وابن المسيِّب، رضي الله عنهم أجمعين.
ومنها: الاغتسال أو الادهان بالماء المبارك بقراءة القرآن عليه، كما في مناقب الإمام أحمد، عن ولده صالح، تأسيسًا على ما ورد من أنَّ عائشة ل كانت تقرأ بالمعوِّذَتين على إناء الماء، ثُمَّ تأمر به فيصب على المريض، وقد ورد أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ على الماء، وسَقَاهُ عليًّا وفاطمة ليلة زفافهما، وفي هذا عدة معان حسية ونفسية واضحة.
ومنها: الاغتسال أو الادهان بالماء المبارك، بأن محيت فيه آيات كانت مكتوبة، كما جاء عن سعيد بن المسيب، وعن مجاهد في إحدى روايتيه.
قال القرطبي في التذكرة، في «باب الآداب»: «ومنها: إذا اغتسل بكتابته (أي: كتابة القرآن) مستشفيا من سقم، ألا يصبه (يعني: الماء الذي يغتسل به) على كناسة، أو في موضع نجاسة، ولا على موضع يوطأ» اهـ.
ومنها: حمل ما يكتب للمريض من آيات القرآن، كما ورد عن ابن عباس أنه كان يكتب لذات الطلق بعض الآيِّ والأدعية.
وقد روى أحمد، والترمذي وحسنه، والنسائي، والحاكم وصَحَّحَه، عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضى الله عنه، أنَّه كان يُعَلِّم الكبير من أبنائه دعاءً للفزع سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أمَّا الصغير منهم فكان يكتب له هذا الدعاء، ويعلقه عليه (تأمل!!).
11) كتب أخرى، ورجال آخرون:
وكُلُّ هذه الأخبار مسندة، كذلك بالإضافة إلى ما ذكرنا في كتب أحمد، وابن أبي شيبة، ومصنف عبد الرزاق، وكتب ابن جرير، والخلال، وغيرهم؛ فلا يحاول التعليق على صحة إسنادها أو صرفها عن منطوقها إلا متعصب أو مغالط أو مكابر، أو ذو هوى مغتمز، أو جاهل متمكن !!، أو صاحب (غلٍّ) مذهبي على بقية المسلمين.
وحسبك أن يؤكد سنيتها ومشروعية ممارستها، الأئمة الأربعة، وداود، وإسحاق، وأبو ثور، ومجاهد، وابن جرير، والخطابي، والمازري، والقاضي عياض، والقرطبي، والآبي، وابن حزم، والشعبي، والثعلبي، وابن أبي الدنيا، وابن كثير، والشوكاني، وأبو نعيم، وابن الجوزي، وابن القيم، وابن حجر، والنووي، والقسطلاني، والعسقلاني، وغيرهم من كبار الفقهاء والمحدِّثين والمفسرين، والأئمة الذين لا يحصيهم عدد.
12) تنبيه مهم:
هذا وقد ظهرت جماعات احترفت ما سموه (العلاج بالقرآن)، وكتبوا فيه الكثير، وموهوا على النَّاس والمضطرين واليائسين، وخلطوا بين مس الشيطان وأمراض النفوس والأبدان، بل افتتحوا لهم مؤسسات، وأذاعوا الأشرطة والمسجلات، ولكل منهم أسلوبه الخاص والعام.
ونحن لا ننظر إلى هؤلاء فيما نكتب من هذا الباب؛ فيكفي أنَّهم اتخذوها حرفة للمعاش، وبابًا ليخرجوا من مجالنا الشَّرعي المحدد، وإنَّما نسجل الأحكام، والله يميز الخبيث من الطيب.
13) النُّشرة الممنوعة والمشروعة:
وهنا يبرز ما يستشكل به بعضهم من أنَّ بعض السَّلَف كره أن يكتب القرآن فيمحى بماء فيشرب، أو يغتسل به، أو يدهن، لأنَّه يشبه النُّشرة «بضم النون»، وهي كلمات تكتب (للمربوط) عن نسائه وغيره، فتُمحى بماء يُشرب، أو يُدَّهن به، أو يُغْتَسل، وحديث أبي داود، يقول: سُئِل ص عن النُّشرة، فقال: «من عمل الشيطان».
وقد رَدَّ على ذلك الحافظ ابن عبد البر، وغيره، بما ملخصه:
أولًا: أنَّ في هذا الحديث لينًا (يعني ضعفًا) غير مجبور.
ثانيًا: أنَّ الحديث محمول على ما خرج من المكتوبات عن الكتاب والسُّنَّة، إذ يستحيل أن يكون التداوي ببركة القرآن من عمل الشيطان.
ثالثًا: النُّشرة بالآيات والآدعية من جنس الطب، فهي ماءٌ فيه فضل بركة، كما في وضوء الرسُول صلى الله عليه وسلم الذي صبه على جابر وهو مريض فشفي.
رابعًا: أنها من جنس الرُّقْية المرخص بها شرعًا.
خامسًا: أنَّها نفع للنَّاس، وقد ثبت عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قوله في هذا الباب: «من استطاع منكم أن ينفع أخاه فليفعل» أي: من الدعاء بالقرآن والسنة.
وعلى هذا الأساس ينسحب ما ورد عن عائشة، وابن عَبَّاس، وابن المسيِّب، وأحمد، وغيرهم، من جواز كتابة القرآن ومحوه وشرب مائه، أو الادهان به، أو الاغتسال بشروطه، استشفاءً ببركته، وإليه ذهب الجمهور، وهو مذهب الطبري، والحافظ، والمستغفري، وعبد الرزاق، وابن بطال، والمزني، وغيرهم (كُلُّ ذلك مع الأخذ بوسائل الطب البدني جمعًا بين الدواءين) كما قررنا وكررنا.
14) تعاويذ الإسلام وتعاويذ الجاهلية:
ثُمَّ يبرز استشكال آخر، وهو ثبوت النَّهي عن حمل أو تعليق التمائم والخرزات والقلائد والرُّقى الشركية، وكذلك الودع والخروز، وغيرها.
نقول: وهذا صحيح كُلُّ الصحة، وهو من بقايا الشِّرك، ومن الحرام ما دام من عمل الجاهلية، اللَّهُمَّ إلا إذا كان المعلَّق أو المحمول شيئًا من كتاب الله، فإنَّه لا يمكن التسوية بين القرآن وبين تمائم الجاهلية، وعليه ورد حديث عبد الله بن عمرو كما قَدَّمْنَا؛ فقد كان يعلِّق على أولاده أدعية رسول الله صلى الله عليه وسلم دون أيِّ نكير، لأنَّه أدرك الفرق بين تمائم الشرك والتبرك بالقرآن، كما أدركه مَنْ ذكرنا من السَّلف ممَّن سجلنا أسماءهم، ومَنْ لم نسجل.
وروى أبو نُعَيْم في الطب، عن عائشة رضى الله عنها، قالت: لا بأس بتعليق التعويذ من القرآن قبل نزول البلاء وبعده، وثبت عن الضحاك أنه لم يكن يرى بأسًا أن يعلِّق الرجل الشيء من كتاب الله، وثبت مثله عن ابن سيرين، وابن المسيب، وأبو جعفر محمد الباقر، فيما رواه ابن جرير، ونقله القرطبي عن مالك، وهو مذهب جمهور أهل العلم؛ فلا ينسحب الحكم على معلقات القرآن والرُّقى النبوية، لا شرعًا ولا عقلًا.
وهذا ابن مسعود الذي قطع التميمة الجاهلية من عنق المرأة، ثبت أنَّه أمرها بأن تنضح رأسها ووجهها بالماء، وتقرأ بسورة الإخلاص، أي أنَّه أرشدها إلى الاستشفاء بالقرآن، فلو كانت قد عَلَّقت شيئًا من كتاب الله ما قطعه ابن مسعود ؛ لكنها علقت حروز الجاهلية فنزعها، وقال ما قال بحق.
والخلاصة: أنَّ تعليق التمائم الجاهلية بأنواعها حرام، وإليها يتوجه النهي، أمَّا شيء من كتاب الله يحمل تبركًا واستشفاء فحلالٌ مشروع، وهو من عمل الصحابة والتَّابعين ومن بعدهم السَّلف الصَّالح التقي العالم بدينه، المبلغ لرسالته بكُلِّ الحدود والشروط.
15) رقية الحق، ورقية الباطل:
وقد أخرج أحمد، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، والدارقطني، بإسناد صحيح، في قصة عم خارجة بن الصلت، حين رقى المجنون بسورة الفاتحة فبرأ، فأعطوه مائتي شاة، فأخبر النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم فقال: «خذها، فلعمري مَنْ أكل برُقْية باطل، لقد أكلتَ برقية حق».
قال الشَّوكاني: «وعلى رقية الباطل تحمل الأحاديث الواردة في النهي عن الرقى الجاهلية، وعلى رقية الحق تحمل الأحاديث الواردة بالإذن فيها». اهـ.
وصَحَّ عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا بأس بالرَّقْي، ما لم يكن فيه شرك، ومَنْ استطاع أن ينفع أخاه فليفعل».
وروى أبو بكر بن الأثرم في السنن، عن سعيد بن المسيِّب، موصولًا من طريقين، عن قتادة، قال: «إِنَّما نهى الله عما يضر، ولم ينه الله عما ينفع».
وأخرج القرطبي هذا الأثر في التهذيب، ورفعه أبو داود في المراسيل إلى الحسن، ومراسيل الحسن الثابتة كلها مقبولة عند أهل العلم.
وقد سئل أحمد عمَّن يطلق السحر عن المسحور -أي يعالجه- ؟، فقال: «لا بأس به»، وفيه حلّ (المربوط) من أهل بيته.
وقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنَّه كان يرقي نفسه بالمعوذات، وأنه أمر عائشة أن تفعل به ذلك في مرضه صلى الله عليه وسلم. كما ثبت أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم رقى الحسن والحسين، ورقى المرضى ومَنْ بهم المس وغيرهم، فيؤخذ من مجموع هذه الآثار وأمثالها أنَّ الاستشفاء والرَّقْي بما جاء في القرآن والحديث مرخص به، ومحثوث عليه، وهو سنة، لما يترتب عليه من منافع للنَّاس «وحيث كانت المنفعة فثَمَّ شرع الله».
وأمَّا النَّهْي الذي جاء عن الرُّقَى والتمائم؛ فإنَّما هو خاص بمواريث الشِّرْك والجاهلية، وفرق بين رقية الحق من قول الله ورسوله، وبين رقية الباطل من قول الشيطان ووحي الوثنية، على ما فَصَّلْنَاه آنفًا.
فالحلال هنا حلال، سواء كان مقروءًا أو مكتوبًا، محمولًا أو مشروبًا أو غيره، والحرام حرام هناك، سواء كان مقروءًا أو مكتوبًا، محمولًا أو مشروبًا أو غيره، فلم يبق باب بعد للتغليط أو التخليط، بحمد الله.
16) القرآن شفاء ورحمة وهداية وتشريع:
وبعد الذي قَدَّمْنَا: لم يبق شَكٌّ في فضل مشروعية التداوي بالقرآن، حسًا ونَفْسًا، وعليه تحمل آيات الشِّفَاء في القرآن، وآثارها العلاجية الواقعية المشهودة، وتلك خصيصة من خصائص القرآن، فهو شفاء للحسيات والمعنويات، ورحمة كذلك في الحس والمعنى، وقد أجمع السَّلف والخلف من المفسرين على أنَّ في القرآن الشِّفَاءين، والدواءين، والبركتين، والقول بغير ذلك تكلف سخيف، وتحكم مردود مهما كان قائله من الشهرة والجاه.
وليس معنى هذا أنَّنَا جعلنا من القرآن كتاب تمائم «وأقربا دين» أو «فرما كوبيا»؛ فإنَّمَا هو دستور البشرية الخالد، ومرشدها الأقدس، وهاديها الخاتم إلى كل خير: «ثقافي، أو اجتماعي، أو سياسي، أو عسكري، أو اقتصادي، أو علمي، أو عملي، أو رباني، أو روحي، حسي أو معنوي، عرف أم لم يعرف»، فكونه هداية وتشريعًا بلفظه، لا يتعارض قط مع كونه علاجًا ببركته وقداسة أسراره.
فإنَّ مما اجتمع للقرآن من خصائص الخير والبركة هذا اللون من الاستشفاء والتداوي، والخصيصة في جانب لا تتعارض مع الخصيصة في جانب آخر.
ألا وإنَّ في كتاب الله لأسرارًا أيّ أسرار، حسبنا أن نشير إليها هنا، وما يعقلها إلا العالمون: ﴿كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ﴾ [ص: 29]، و ﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ القُرْآَنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ [الإسراء: 82]، ولا يعرف في الإسلام نصا ولا اجتهادا أبدا يجرد القرآن من السر والبركة، والإعجاز الخالد المتجدد إلى يوم الدين، ﴿ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ﴾ [القيامة: 19] تأمل !!.
17) من شروط الانتفاع بالقرآن:
وإنَّ من شروط الانتفاع بالتداوي بالقرآن والرقى النبوية، أن يكون المداوي كما قَدَّمْنَا غير محترف، أهلًا للعلاج بالتقوى والورع وصدق الهمة وقوة اليقين وحسن العلاقة وإرادة وجهه، وأن يكون المريض صادق الإيمان بفائدة هذا العلاج، كامل العقيدة في الله، مستكمل الأمل والثقة في طبيبه، وفي الحديث: «ادْعُوا اللَّهَ وَأَنْتُمْ مُوقِنُونَ بِالإِجَابَةِ»، و«أِنَّ اللَّهَ لاَ يقبل دُعَاءً مِنْ قَلْبٍ غَافِلٍ لاَهٍ».
ثُمَّ إنَّ الثقة الكاملة من المريض بالمداوي، وتمام الأمل فيه وحسن الظن به أصل العلاج الروحي، فإذا لم تتحقق الثقة والأمل وحسن الظن من المريض؛ فإنَّه قَلَّمَا نجح هذا العلاج.
18) التداوي بالعزائم والطلسمات والخصائص:
ويجب أن يلاحظ: الفرق الهائل بين التداوي بالقرآن، والتداوي بالعزائم وخواص الأعداد والحروف والخواتم، والرياضات الشيطانية والأوفاق والطلسمات، وكذلك أسماء الجن والكلمات الأعجمية، ونحو خاتم سليمان من الرموز والمعميات والألفاظ الموهمة، وما يأتيه السحرة والممخرقون والمشعوذون والمخرفون ونحوهم، فهذا عَالَمٌ سافل رديء فاسق، وهذا عَالَمٌ آخر رفيع مضيء باهر، وشَتَّان ما هما، ونحن هنا نتكلم عن القرآن، لا عن سواه من الزُّور والبهتان.
ولقد جرَّبنا واختبرنا، وبحثنا وتعبنا، فلم نجد في شيء من تلك العلوم ما وجدناه من الخير التام العام، الكامل الشامل، النافع الواسع، في أسرار القرآن وعجائب بركاته، فمن لم يستغن بالقرآن فلا أغناه الله، ومن لم يكتف به فلا كفاه الله، ومَنْ لم يستشف به حسًّا ونَفْسًا فلا شفاه الله، جعلنا الله من أهل القرآن وخدمه، والمؤمنين بأسراره وبركاته وخصائصه.
19) معلومات أساسية عن بعض الأعشاب والعقاقير:
دراسة علمية هامة نقلها الأستاذ الصحفي الكبير السيد «جلال عيسى» عن الأستاذ «محمد عبد الرحمن الملحم» أخصائي التداوي بالأعشاب.
ولأهمية هذه الدراسة في الجمع بين نوعي التداوي بالقرآن «وهو فرع من الدعاء والابتهال والتوسُّل إلى الله»، ومما لابد من تعاطيه مع هذا الدعاء من الأدوية المعروفة للناس، جمعًا بين علاج الروح والبدن ننقلها هنا:
* يعتقد كثير من النَّاس أن تناول العسل يضُرُّ بالأسنان كالمواد السُّكرية، وهذا اعتقاد خاطئ، لأن العسل يحتوي على مادة «الفلور» التي تقي الأسنان «النخرة» وتقويها.
* يسود الاعتقاد لدى بعض البُدَناء بأنَّ تناول عصير الليمون على الريق، وقبل الغداء والعشاء بساعة، يساعد على إنقاص الوزن، والصحيح أنه يسبب التهابات في المعدة وتقرحات وحموضة!.
* يعتقد البعض أنَّ تناول زيت الزيتون يسبب زيادة في معدل «الكوليسترول» في الدم، والصحيح عكس ذلك، فزيت الزيتون ينقص من معدل «الكولسترول» الضار، ويزيد من معدل «الكولسترول» المفيد ... فهو يحافظ على معدله؛ لذا فزيت الزيتون مفيد لأمراض القلب والشرايين.
* يسود اعتقاد لدى البعض بأنَّ الزيوت المستخلصة من الأعشاب والمعصورة عصرًا طبيعيًا تعطي مفعول «العشبة الطبي»، والصحيح عكس ذلك، فالزيتون يتم استخلاصها من النباتات عن طريق الحمام المائي، أو عن طريق البخار، أو بواسطة المذيبات الطيارة، أو عن طريق الزيوت أو الدهون، وأغلب الزيوت الموجودة في الأسواق مستخلصة بواسطة الزيوت، فمثلًا «الحبة السوداء» يستخلص منها الزيت الثابت لا الزيت الطيار، لأنَّه صعب التجميع، والمادة الفعالة تكمن في الزيت الطيار، لذا فأغلب زيوت «الحبة السوداء» الموجودة في الأسواق غير فعالة ... والأفضل تناول الحبة نفسها، كما أكَّد علماء العقاقير والأدوية.
* يعتقد البعض أنَّ استعمال العسل في علاج أمراض العيون فيه ضرر وخطورة، والعكس صحيح، فقد كان معروفًا منذ القدم أنَّه علاج لأمراض العيون، حتَّى أنَّ الصحابي «عوف بن مالك» كان يكتحل بالعسل، وطبقه عدد من الأطباء في العصر الحديث في المستشفيات، ونجحوا في علاج حالات التهابات القرنية وتقرحاتها، والتراخوما، وحروق العين، وقصر البصر، والتهاب الملتحمة وجفافها، وأشار إلى أنَّ من الأطباء العرب الذي نجحوا في ذلك الدكتور محمد عمارة، والدكتور عبد الكريم الخطيب في مستشفى المنصورة، بجمهورية مصر العربية ... وقال: إنه ليس كل عسل يفيد فبعضها يضر، والناجح في ذلك عسل موسم البرسيم.
* يتصور كثير من النَّاس أنَّ تناول «الحبة السوداء» بأي جرعة لا يضر، وهذا الاعتقاد غير صحيح، لأنه قد يؤدِّي إلى أضرار في الجهاز الهضمي والمسالك البولية، فلابد من تحديد الجرعة.
* يسود اعتقاد لدى بعض المقرئين والمؤذِّنين والمطربين، بأنَّ تناول شاي الزيزفون «التليو» ينعم ويصفي الصوت، والصحيح أنَّ الزيزفون مفيد للسعال والنزلات الشعبية والحميات، ولكن لم يثبت أنَّه يصفي وينعم الصوت.
* يستعمل بعض النساء الثوم والبصل لإزالة البقع السَّوْداء والشَّامة، وهذا يسبب حساسية وآثارًا غير محمودة، مع أنَّ استعمال زيت الخروع مع عسل موسم البرسيم كفيل بإزالة ذلك، وفي وقت قصير.
* يتحاشى البعض أكل الخس لأنَّه يضعف الجنس، والصحيح عكس ذلك، فالخس منشط للجنس، إذ أنَّه يحتوي على فيتامين الإخصاب «E» .
* يسود اعتقاد عند البعض، وبالذات «العرسان» الجدد، بأنَّ أكل الحلويات، كالهريسة والبسبوسة والحلاوة الطحينية والكنافة يزيد النشاط الجنسي وهذا اعتقاد خاطئ.
* يعتقد البعض أنَّ تناول نبتة «الهندباء» أو كما يسميها المصريون «السريس» ضمن السلطة والأكل ليس لها فائدة، والصحيح عكس ذلك، فقد أكَّد الأطباء في أمريكا ودول الغرب أنَّها تعيق نمو الخلايا السرطانية، وتزيد المناعة في الجسم، كما أنَّها علاج ناجح لأمراض الكبد والمرارة، وبالذات لمدمني الخمور والمخدرات والدخان، حيث تنقي الجسم من السموم، مما جعل العديد من مراكز علاج الإدمان الغربية تستعملها للمدمنين.
* يتصور البعض أن شَيَّ اللحوم والأسماك والدجاج على الفحم لا ضرر منه، والصحيح عكس ذلك، فالدخان يخرج ويمتص بعضه اللحم وهو يحمل مواد ذات تأثير منشط للسرطان.
* يعتقد بعض النَّاس بأنَّ استعمال «السونا» بشكل دائم يؤدِّي إلى إنقاص الوزن، والصحيح عكس ذلك، فهو يؤدِّي إلى نقص في السوائل وإلى الأمراض الجلدية.
* يتصور البعض أنَّ وضع مبشور جوزة الطِّيب على الطعام بكثرة يفتح الشهية ويساعد على الهضم، والصحيح غير ذلك، فالإكثار منه يؤدِّي إلى اضطرابات في الناحية الجنسية، واضطرابات عصبية مختلفة.
([1]) رواه ابن ماجه (2/1142) ، والحاكم في المستدرك (4/222 ، 223 ، 447) ،وصححه على شرط الشيخين ، ووافقه الذهبي ، ورواه البيهقي في السنن الكبرى (9/344) ، وغيرهم.
([2]) رواه الخلال في فضائل سورة الإخلاص (1/77)، وأبو نعيم في معرفة الصحابة (249/ أ/1)، والديلمي في الفردوس، وإسناده ضعيف.