الفصل العاشر
الفصل العاشر
اشْتَمَلَ مجلسُ المَوْلَوِيَّةِ على حضورِ جماعَةٍ من المسلمين وطائفة من الناس مختلفين بنِيَّاتٍ مختَلِفَةٍ ومقاصِدَ مفترقة، والله أعلم بالنيات وبمقاصد البَرِيَّات، وإنما الواجِبُ على كُلِّ مُسْلِمٍ أن يحمل أخاه المسلم على القصد الحسن في كل حال كما نقل النجم الغزي رحمه الله تعالى في كتابه «منبر التوحيد» قال: روى ابن أبي الدنيا في «المداراة» عن أبي قلابَةَ } قال: التمِسْ لأخيك عذرًا بجهدك؛ فإن لم تجد له عذرًا فقل: لعل لأخي عذرًا لا أعلمه.
وأخرج عن عمر } أنه قال: أعقلُ الناس أعذرهم لهم. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلـم: «حسن الظن من حسن العبادة» [رواه أبو داود والحاكم عن أبي هريرة }]، وقال المُنَاوي في شرح هذا الحديث يعني اعتقاد الخير والصلاح في حق المسلمين عبادة، وقالوا: حسن الظن عطية وسوء الظن حرمان. وقيل: أسوأ الناس حالًا من لا يَثِقُ بأحَدٍ لسُوءِ ظَنِّهِ ولا يَثِقُ بِهِ أَحَدٌ لسُوءِ فِعْلِهِ، وقد بَلَغَ حسنُ الظن عند بعضهم إلى أنه يجد الجلاد الذي يضرب الرقاب ويعذب أخفَّ حسابًا منه يوم القيامة وأقرب إلى رضا الله تعالى منه، قال العارف بالله تعالى الشيخ عبد الوهاب الشعراوي: وممن رأيته على هذا القدم أخي أفضل الدين كان يسأل الجلاد الدعاء. انتهى.
والمقصود حسنُ الظَّنِّ بجماعة المسلمين الحاضِرِينَ في مجلسٍ أو مجالسَ أو متفرقين، من غير أن يظهر له منهم مخالفة شرعية على وجهِ اليقينِ؛ بحيث لا يجد لها تأويلًا أصلًا، فإن وجد تأويلًا أوَّلَهَا فمَنْ طَعَنَ في جماعَةٍ حَاضِرِينَ في مجلِسِ ذكرٍ بلا مطعن شرعِيٍّ وحكم بأن طاعتهم التي هم فيها معصية فقد كفر بالله تعالى، وقد علمت أحوال مجلس المولوية المشتمل على الصلاة وقراءة القرآن والحديث الشريف وتلاوة المثنوي المنيف، ثم السماع الطيب الطاهر النظيف، ثم التواجد والدوران بالأسلوب اللطيف، والانحناء بقصد البر والطاعة والانقياد والإذعان من بعضهم للبعض على وجه الاحترام والتشريف، ثم الأدعية العامة والخاصة لجميع المسلمين والمؤمنين، ثم ذكر الأنبياء والأولياء والصالحين والثناء عليهم والتَّرَضِّي عنهم والتَّرَحُّم بمحضر من الناس من طلبة العلم وغيرهم، ولقد كان في الزمان الماضي يحضُرُ عندهم في يوم السماع كثير من علماء دمشق الشام والمفتين في المذاهب الحنفية والشافعية وغيرهم كشيخ الإسلام الشيخ عبد الرحمن العمادي رحمه الله تعالى مفتي الحنفية بدمشق وفتواه في ذلك مشهورة ذكرتها في كتابي «إيضاح الدلالات في سماع الآلات»، والشيخ القدوة العامل الكامل نجم الدين ابن الغزي مفتي الشافعية بدمشق سابقًا، وغيرهم أيضًا من أهل العلم المشهورين، كما أخبرني بذلك غيرُ واحد من الناسِ وأنا رأيت والِدَنَا المرحوم الشيخ إسماعيل النابلسي الحنفي صاحب «الشرح الكبير» على «شرح الدرر والغرر» والتصانيف العديدة والتحارير المفيدة.
كان رحمه الله تعالى حاضِرًا عندَهُم في وقتِ السماع بالمولوية وكنت أنا صغيرًا حاضِرًا معه منذ سبع أو ثمانٍ وثلاثين سنة رحمهم الله تعالى وقدس أرواحهم؛ فكل من سَمِعْنَاهُ الآنَ ينسب الفسق ويطعن في كل من حَضَرَ في مجلسِ المولوية؛ فهو كافر بالله تعالى لطَعْنِهِ في أَئِمَّةِ المسلمينَ وعامَّتِهِم بلا سَبَبٍ شَرْعِيٍّ ولا محظور يكون في ذلك المجلس، والتفسيق بلا وَجْهٍ شَرْعِيٍّ تغيير للحاكم بظاهر العدالة المأخوذ بها في الشرع وتسمية للطاعة -ولو بحسب الظاهر- معصية، وذلك كفرٌ لا مَحَالَةَ؛ فالواجب على كل مسلم حِفْظُ ظَاهِرِ الشَّرِيعَةِ المحمَّدِيَّةِ، وهو الخير في كل أحد لم يعرف حاله وحمل الناس على المحامل الحسنة، فلا يطعن إلَّا بعد التحقَّقِ والتَّيَقُّنِ؛ لأنَّهَا حقوق العباد وهي مَبْنِيَّةٌ على المُشَاحَحَةِ في الدُّنْيَا ويوم التناد.
وقد صنفت هَذِهِ الرِّسَالَةَ بمَعُونَةِ اللهِ تعالى لنُصْرَةِ فقراءِ الطريق القائمين بالمحبة والاعتقاد للأولياء والصالحين، من غير أن يكونَ مقصِدُنَا الرَّدُّ على أحَدٍ من النَّاسِ أجمعينَ، وإن ذكرنا المتفقِّه ونعتناه بالجَاهِلِ ونحوِ ذَلِكَ فليسَ مرادُنا أحدًا بعَيْنِهِ نرد عليه من أهلِ الدِّين، واللهُ تعالى ولي التوفيق والهداية ومنه الإحسانُ والعِنَايَةُ، وهو حسبنا ونعم الوكيل وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابِهِ أجمَعِينَ، قال مصنفها رحمه الله تعالى: حررنا ذلك في ثلاثة أيام بمعونة الله تعالى وحسن توفيقِه آخرها يوم الأربعاءِ تمام الثَّلَاثِينَ من شهرِ شعبان المبارَكِ سَنَةَ 1096 ست وتسعين وألف والحمد لله رب العالمين.