الفصل الثاني
الفصل الثاني
اشتمل مجلس المولوية على قراءة القرآن العظيم ورواية شيء من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلـم، ولا شك أنَّ ذلك من أفضل الطاعات وأشرف العبادات، فمن حَرَّمَ الدخول إلى مكان فيه ذلك فقد كَفَرَ باللهِ تَعَالَى، فإنْ قالَ نحن ما حرَّمْنَا الدخولَ لِمَا في ذلك المكان من قراءَةِ القرآن والحديث، إنَّما حرمنا الدخول لأمر آخر. نقول له: تأمل ما ذكرنا لك في الفصل الأول من وجود المناكر المحرمة كالتكبُّر والعُجْب والرياء، ونحوِه ممَّا سبق بيانُه في مجلسِ المدرِّسِينِ والوُعَّاظِ في الجوامِعِ والمدارِسِ ويقرءُونَ على ذلك القرآن العظيم، ويروُونَ أحادِيثَ النَّبِيِّ الكريم، ولا يتحاشَوْنَ مع ذَلِكَ من شَيءٍ؛ فلأي شيء لا تقولُ بحرمة الحضور في مجالسهم، فإن قال: هاتيك القبائح التي ذكرتُها من التكبُّر والعُجْبِ ونحوِ ذَلِكَ أمورٌ باطِنَةٌ ليسَتْ بظاهِرَةٍ وهم ينكرون وجودها فيهم، نقول له: يحلِفُونَ باللهِ تَعَالَى أنَّهَا ما هي فيهم ولا هم موصوفون بها، ولا يرون أنفسهم في تلك الحالَةِ أكبر من تلامذتهم ولا مِمَّن يقرأ عليهم أو يستمع لهم ونحو ذلك، ولا يعجبهم ما هم فيه لرؤْيَتِهِم التقصيرَ في نفوسِهِم في حَقِّ الله تعالى دائمًا، ومتى خطر لهم كبر أو عُجْب أو حسد أو بغض أو نحو ذلك مِمَّا ذكرنا يستغفرون الله تعالى منه ويثوبون ولا يصرُّونَ عليه، فإن قال كيفَ تقول بتحليفهم في ذلك وهم لا يلزمهم اليمين عليه؛ لأنهم محمولونَ على المحامل الحسنة؟! قلنا له: نعم هم محمولون على المحامل الحسنة إذا كانوا مشغولين بأحوال نفوسهم كافِّين ألسنتهم عن الطعن في الغير، وأما إذا كانوا في المسجد جالسِين يذكرون الله تعالى بعلومهم الشرعية ويوبِّخون الناس بها ويقرعون الخلق ويعظونهم ويزجرونهم؛ فإنهم يستحلفون بالله تعالى على عدم وجود تلك القبائح فيهم، كما ورد في الحديث فيما رواه مسلم والترمذي والنَّسائي بإسنادهم إلى أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه قال: خرج معاوية على حلقة في المسجد فقال: ما أجلسكم؟ قالوا: جلسنا نذكر الله. قال: آلله ما أجلسكم إلا ذلك؟ قالوا: آلله ما أجلسنا غيره. قال: أما إني لم أستحلفكم تهمة لكم، وما كان أحد بمنزلتي من رسول الله صلى الله عليه وسلـم أقل عنه حديثًا مني، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلـم خرج على حلقة من أصحابه في المسجد فقال: «ما أجلسكم؟» قالوا: جلسنا نذكر الله ونحمده على ما هدانا للإسلام ومَنَّ به علينا. قال: «آلله ما أجلسكم إلا ذلك؟» قالوا: آلله ما أجلسنا إلا ذلك. قال: «أما أني لم أستحلفكم تهمة لكم، ولكن أتاني جبريل فأخبرني أن الله عز وجل يباهي بكم الملائكة» [هذه رواية مسلم والترمذي].
وكذلك نقولُ في هؤلاء: إنَّا لا نستحلفهم إلا لنحقق صدقهم في إخلاصهم، فإذا حلفوا صدَّقناهم في حقِّ بواطنهم، والأمورُ التي لا تعلم إلا من قرائن أحوالهم دون الصريح مِمَّا نَجِدُه عندهم من غوغاء الطلبة والمجادلات في الدين المنهِيِّ عنها شرعًا المشار إليها بقول النبي صلى الله عليه وسلـم: «ما تَجَالَسَ قوم مجلسًا فلم ينصت بعضهم لبعض إلا نزع من ذلك المجلس البركة» [رواه ابن عساكر عن محمد بن كعب القرظي مرسلًا، وأورده الأسيوطي في «الجامع الصغير»]، وقال شارحه المُنَاوي: قال الغزالي: فيندب للجليس أن يصمت عند كلام صاحبه ويترك المداخلة في كلامه وفي هذا الحديث ذَمُّ ما يفعله غوغاء الطلبة في الدروس الآن. انتهى.
وهذا كله إذا خلا جدالُهم ذلك من مراءاة أو سمعة أو تكبُّرٍ أو عُجْب بنفسه حيث هو من العلماء، أو احتقار غيره أو الرد على الغير وتجهيله بالباطل ونحو ذلك، وإلا فهو حرام، على أنَّ تلك القبائح لا تخفى على من له أدنى إنصاف إذا تأمل أحوالهم ونقدها بالحق أو خالطهم من غير مداهَنَة لهم ومراءاة، وسيكشفهم الله في الآخرة ويفضحهم على رءوس الأشهاد، كما روى مسلم بإسناده عن أبي هريرة } قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلـم يقول: «إن أول الناس يقضى يوم القيامة عليه رجل استشهد فأتي به فعرَّفه نعمته فعرفها، فقال: فما عملت فيها؟ قال: قاتلت فيك حتى استشهدت. قال: كذبت، ولكنك قاتلت لأن يقال جريء فقد قيل. ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار، ورجل تَعَلَّمَ العلم وعلَّمه وقرأ القرآن، فأتي به فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: تعلمت العلم وعلمته وقرأت فيك القرآن. قال: كذبت؛ بل تعلمت ليقال عالم وقرأت القرآن ليقال قارئ فقد قيل. ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار، ورجل وسع الله عليه وأعطاه من أصناف المال فأتي به فعرَّفه نعمه فعرفها، قال: فماذا عملت فيها؟ قال: ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيها إلا أنفقت فيها لك. قال: كذبت، فعلت ليقال هو جواد مقبل. ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار» انتهى.
وعلى فرض عدم وجود ذلك في مجالسهم -والله عليم بذات الصدور- فليس بداية السماع المولوي بقراءة القرآن والحديث إلا على وجه التبرك بذلك، أما قراءة القرآن فقد ذكر الشيخ الإمام العالم الكامل العارف بالله تعالى ابن غانم المقدسي رحمه الله تعالى في كتابه «حل الرموز» أنه حُكِيَ عن ممشاد الدينوري } -وهو من كبار الطائفة الصوفية- أنه قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلـم في النوم فقلت له: يا حبيبي يا رسول الله، هل تنكر من هذا السماع شيئًا؟ فقال: «ما أنكر منه شيئًا، ولكن قل لهم يفتتحون قبله بالقرآن ويختمون بعده بالقرآن» قلت: يا رسول الله، إنهم يؤذونني. فقال —: «احتملهم يا أبا علي»، وكان ممشاد } يفتخر بهذه الكلمة ويقول: كناني رسول الله صلى الله عليه وسلـم بهذه الكلمة.
وقد روى أبو طالب المكي رحمه الله تعالى في كتابه بإسناده أن رجلًا دخل على النبي صلى الله عليه وسلـم وعنده قوم يقرءون القرآن وقوم ينشدون الشعر، فقال: يا رسول الله قرآن وشعر! فقال —: «في هذا مرة وفي هذا مرة» [والحديث أخرجه الأسيوطي في «الجامع الصغير» عن ابن الأنباري عن أبي بكرة } قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلـم: «في هذا مرة وفي هذا مرة» يعني القرآن والشعر]. انتهى.
ويكفي وجود نظير ذلك في هذه الأخبار المنقولة ونظائرها في أن ذلك أمر مقبول عند العلماء الفحول، وأما رواية الحديث النبوي الشريف قبل السماع المذكور؛ فهو من قبيل ذلك الوارد في حق القرآن العظيم، وقد ذكرنا فيما مَرَّ قبل الفصل الأول ما صدر من الإمام المحدِّث الثِّقَة العدل الكامل إبراهيم الزهري الذي حدَّث عنه البخاري وغيره من ضَربِ العود قبل حديث رسول الله صلى الله عليه وسلـم الذي كان يحدِّث به في مجلس هارون الرشيد كما ذكر ذلك عنه الخطيب البغدادي في «تاريخ بغداد»، فلو كان هذا الصنيع إهانة للحديث الشريف؛ لَمَا فعله هذا الإمام الجليل بمحضر الجماعة في مجلس هارون الرشيد، فدَلَّ على وجود الخير فيه والبركة، فإن قال المتفقه القاصر: إنَّا نجد في كتب الفقه قول الفقهاء: «من قرأ القرآن على ضرب الدف والقضيب يكفر» كذا في «الحقائق»، ويقرب منه ضرب الدف والقضيب مع ذكر الله تعالى ونعت المصطفى صلى الله عليه وسلـم، وكذا التصفيق على الذكر. ذكره علي القارئ المكي.
نقول له في الجواب: هذا محمول على قصد اللعب واللهو من إيراد كلمات القرآن والذكر والنعت النبوي على إيقاع النغمات للإطراب بذلك لا للذكر نفسه، ولا لقصد الخشوع وإلَّا فهو أمر مطلوب شرعًا كما ذكر الإمام القسطَلَّانِي في كتابه «المواهب اللدنية» بعد كلام طويل ذكره في السماع، ثم قال: ومن ثَمَّ وضع العارف الكبير سيدي علي الوفوي حزبه المشهور على الألحان والأوزان اللطيفة؛ تنشيطًا لقلوب المريدين وترويحًا لأسرار السالكين؛ فإن النفوس لها حَظُّ من الألحانِ فإذا قبلت هذه الواردات السنية الفائضة من الموارد النبوية المحمدية بهذه النغمات الفائقة والأوزان الرائقة؛ تَشَرَّبَتْهَا العروق، وأخذ كل عضوٍ نصيبه من ذلك الوارد الوفي المحمدي، فأثمرت شجرة خطاب الأزل بما سقيته من موارد هذه اللطائف عوارف المعارف. انتهى كلام القسطلاني رحمه الله تعالى.
على أنَّ ما هو في مجلس المولوية ليس كذلك؛ فإنهم يقرءون القرآن أولًا، ويذكرون الحديث ثم يفعلون السماع، ثم يختمون بالقرآن أيضًا على طبق ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلـم في رؤيا ممشاد الدينوري } كما ذكرنا، ولم يفرق صلى الله عليه وسلـم سماعًا من سماع؛ فإن قال الجاهلُ: ذلك السماع لم يكن كهذا السماع قلنا له: عليك إثبات ذلك بالحُجَّة الصحيحة، والإطلاق من أحد وجوه الأدِلَّة حتى يأتِيَ التخصيص في ذلك؛ فإن الإشارة إلى سماعِ زمانهم عام في كل سماع كان في ذلك الزمان، والأصل بقاء ما كان على ما كان، أرأيت أنَّ الصلوات وأنواع الطاعات والمعاصي التي كانت في ذلك الزمان هي بعينِهَا الكائنة في هذا الزمان! ما لم يَرِدِ النَّصُّ على التغييرِ والزيادة والنقصان في ذلك؛ خصوصًا وليس ضربُ الدُّفِّ والقضيبِ ونحو ذَلِكَ من الآلاتِ المطرِبة حَرَامًا لذَاتِهِ عندَ الفقهاء، وإلا لَمَا استثنَوْا من ذَلِكَ ضربَ الدُّفِّ في العرس كما ورد في الحديث، قال رسول الله صلى الله عليه وسلـم: «أعلنوا هَذَا النِّكَاحَ واجعلُوه في المَسَاجِدِ واضرِبُوا عليه بالدفوف» [رواه الترمذي عن عائشة رضي الله عنها وذكره الأسيوطي في «جامعه الصغير»]، وهو بإطلاق يفيد ما ذكرنا، وقال المُنَاوِي في شرحِه: وقد أفاد الخبر حِلَّ ضربِ الدُّفِّ في العرس، ومثله كل حادث سرور، ومذهب الشافعية أنَّ الضرب فيه مباح مطلقًا ولو بجلاجل، وقد وقع الضربُ به بحضرة شارِعِ الملة ومبيِّن الحِلِّ والحُرْمَة وأقرَّهُ، ولا فرقَ بين ضربِهِ من امرأةٍ أو رجلٍ على الأصَحِّ الذي اقتضاهُ قول الحديث. انتهى كلام الشارح رحمه الله تعالى.
فليست حرمة الضرب بالدف والقضيب لذات ذلك كما ذكرنا، وإنَّما ذلك لأمر آخر يعرض له وهو استعمال ذلك على الفسقِ والمعاصي كما قدمناه، أو بقصد اللعب واللهو ومجرد التطرُّب والتنغيمِ بقراءة القرآنِ والذِّكْرِ، وليسَ هَذَا المقصِدُ واقعًا من فقراءِ الطريقِ أصلًا؛ لظهورِ قصدِهِم العبادَةَ في ذلك، كما لا يخفى على الجاهل والعالم والمنقطع والسالك؛ لأن الأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى.