الفصل الأول
الفصل الأول
اشتمل مجلس المولوية على الصلاة بالجماعة، وهي سُنَّةٌ مؤكَّدة وقيل فرض عين؛ لقوله تعالى: ﴿وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ﴾ [البقرة: 43]، وقيل فرض كفاية وقيل واجب دون الفرض، والصحيح هو القول الأول؛ فكل من نسب إلى مجلس تقامُ فيه الصلاة بالجماعة أنَّ من دخل إليه فسق أو أثم أو استخفَّ بحرمته بقول أو فعل؛ فقد كفر بالله تعالى.
فإن قال: نحن لا نستخفُّ به من جهة قيام الصلاة فيه، وإنما استخفافنا به من جهة أخرى. قلنا له: المسجد الجامع كذلك؛ فإن في زماننا هذا نجد المساجد لا تخلو من المناكر ليلًا ونهارًا، حتى إن هذا الذي ينكر ذلك بنفسه ربما يجلس في المسجد في درس أو وعظ وهو معتقِد في نفسه أنَّه أكبر قدرًا من طَلَبَتِهِ أو المستمعين له وهو أمر محقَّق منه ومن أمثاله، فيكون هذا هو المتكبِّر في نفسه، والتكبر من جملة الكبائر؛ فهذه كبيرة صَدَرَت من هذا المنكِر وهو جالس في المسجد في درسه أو وعظه، ولم يحكم هو بفسقه وفسق الحاضرين عنده ولا بحرمة الدخول إلى مسجده ذلك والحضور في مجلسه ذلك المشتمل على فعل هذه الكبيرة في نفسه، وأيضًا رُبَّمَا أعجبَتْهُ نفسُه وأعجبه عملُه ذلك؛ حيث وَجَدَ نفسه في درس علمٍ شرعي أو وعظٍ، والعجب من الكبائر، وهذه كبيرة أخرى أَصَرَّ عليهَا في نفسه، بل لم يشعر بها ولا بما قبلها أصْلًا من كثرة جهله بالعلم النافع الذي ينقذ صاحبه من الفسق باطنًا؛ لغرورِه بلقلقة لسانه في علم ليس هو عاملًا بِهِ ولا متقنًا لشيء من مسائله؛ بل هي دعاوى باطلة وزخارف عبارات عاطلة من قلة وجود من يفتش على العلم والعلماء؛ ولهذا قال الشيخ أبو الحسن الشاذلي قدس الله سره: «من ماتَ ولم يتوغل في علمنا هذا مات مصرًّا على الكبائر»، وقال الشيخ ابن علان الصديقي البكري رحمه الله تعالى في شرحه على «حكم» الشيخ أبي مدين، بعد نقله كلام الشاذلي: «ولقد صدق فيما قال فأي شخص -يا أخي- يصوم ولا يعجب بصومِه، وأي شخص يصلِّي ولا يعجب بصلاته، وهكذا سائر الطاعات إلا أن تحل عليه عنايَةُ مولاه بمعرِفَةِ آدابِ الخدمة، من مجالسة أطباء القلوب وحلول عنايتهم عليه؛ حتى تمحَق العُجب الذي حَلَّ به من تِلْكَ الطاعات، ولا يعجب بعد ذلك إلا بفضل الله تعالى، ﴿قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾ [يونس:58]» انتهى.
على أنك يا أخي في زماننا هذا لا تدخل المسجد إلا وتجد الصلوات الخمس فيها مقامة على غير وجه السنة أيضًا من تقديم الأئمة الجاهلين على العلماء الكاملين، إمَّا لكثرة أموالهم وإما لانتمائهم إلى الظَّلَمَةِ، وإما لحسن نغماتهم كما ورد في حديث ابن عنبس الغفاري الذي ذكره في الطريقة المحمدية، وفيه قال } أنا سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلـم يقول: «بادروا بالموت ستًّا: إمارة السفهاء، وكثرة الشرط، وبيع الحكم، واستخفافًا بالدم، وقطيعة الرحم، ونشوًا يتخذون القرآن مزامير يقدمون الرجل ليغنِّيهم بالقرآن وإن كان أقلهم فقهًا»، فإن قالوا هذا في غير الإمامِ الراتب في المسجد، قلنا: بل هذا عامٌّ في أصل جعل الإمامِ راتبًا أيضًا في المسجد، فإذا لم يمكن تحويلُه من طرف المقتدين لتقريرِه في الإمامة؛ فليتحول من يمكنه التحوُّل منهم فرارًا من مواضع التحذير الشرعي، فما بالُ المتفقِّهِ الجاهِلِ لا ينكر ذلك، وهذا التكرار أيضًا للجماعة في الصلاة الواحدة المفروضة في وقت واحد في مسجد واحد، فتجد في كل ناحية من نواحي المسجد إمامًا يصلي بجماعة على حِدَتِه، فيشتبه الحال في الركعات والسجدات على كثير من المصلين، ومع قطع النظر عن ذلك فإنَّه بدعة شنيعة، ظاهرها صريح الطعن من البعض في البعض؛ حيث لم يقتدوا بإمامٍ واحد، ودخول الكراهة في صلاة الكل، ولا تَجِدُ من ينكر ذلك أصلًا من ذلك المتفقه وغيره؛ بل هناك من يستحسنه ويقيم له الوجوه على جوازِهِ، ورأينا ذلك في المسجد الجامع يفعل مرارًا من سنين متعددة بلا نكير منكِر من أحد، كيف وفاعل ذلك من جملة المتفقِّهة المدرِّسين المقتدى بهم بين العامة في أمورِ الدين الذين هم ينكرون المناكِرَ على غيرهم.
وأشنع من هذا أنهم أيضًا إذا وقف المؤذن في المنارة قبل أن يشرع في الأذان، أقاموا الصلاة في كل ناحية من نواحي المسجد وصلوا، وربما فرغ بعضهم قبل فراغ الآذان، يفعلون ذلك في شهر رمضان وغيره أيضًا وهو ترك للأذان والإقامة معًا؛ فإن المشروع في الأذان والإقامة أن يكونا على الترتيب بعد الفراغ من الأذان يبتدأ في الإقامة، بل يُسَنُّ الفصل بين الآذان والإقامة أيضًا عندنا بمقدار ما يتوضأ سامع الأذان ويحضر إلى المسجد، وصنيعهم هذا بدعة شنيعة في الدِّين بإجماع الأئمة الأربعة وغيرهم أيضًا من المجتهدين؛ إذ لم يقل أحد بوجود هذه الكيفية التي يفعلونها في زمان من الأزمان الماضية في صدر الإسلام، ولا خطرت في بالِهِم، وهذه كتب الفقه في المذاهب الأربعة بين أيدي هؤلاء المتفقهة يقرأها ويطالعها غالبهم، وليس فيها إلا ما يرد عليهم.
قال ابن الكمال في كتابه «الإصلاح والإيضاح»: «الأذان سنة الفرائض أداءً وقضاءً فقط قبلها لا قبل وقتها» انتهى.
فانظر قوله «قبلها»؛ أي قبل الشروع فيها يكون الأذان بتمامه قد فرغ منه المؤذن، وهكذا المشروع المعروف عند أئمة المسلمين وعامَّتِهِم في كلِّ مذهب إلَّا عند هؤلاء المتفقهة الذين ستروا قبائح أفعالهم بما يتسابقون إليه من الإنكار والاعتراض على غيرهم، قال صلى الله عليه وسلـم: «يُبصِرُ أحدكم القذاة في عين أخيه وينسى الجذع في عينه» [رواه أبو نعيم في «الحلية» عن أبي هريرة } وذكره الأسيوطي في «جامعه الصغير»].
وقال في «مجموع المسائل»: «ويكره للرجل أداء المكتوبة التي تقام بالجماعة في المسجد بغير أذان وإقامة، ولا يُكره ذلك في البيوت والكروم»، وقال في «المجتبى»: «وعن أبي حنيفة: إذا صلَّى في المسجد جماعةٌ بلا أذان ولا إقامة فقد أساءوا» انتهى.
ومعلوم أن الكراهة إذا أطلقت عندنا فهي كراهة تحريم، وقال ابن نجيم في «الأشباه»: كل صلاة أُدِّيَت مع ترك واجب فإنها تُعادُ وجوبًا في الوقت.
فيجب على كل من صلى مثل هذه الصلاة المذكورة أن يعيدها في وقتها، وكذلك هذه الاجتماعات التي تراهم يفعلونها في المسجد ويجلسون فيه ليلًا ونهارًا حلقًا حلقًا، يتكلمون بكلام الدنيا ويضحكون ويغتاب بعضهم بعضًا، ويسخرون بمن يمر عليهم أو يقرب منهم، مع علمهم بكراهة الكلام المباح في المسجد كراهة تحرِيمٍ؛ فكيف الكلام الحرام! وكلهم مُقِرُّونَ على ذلك ومُصِرُّونَ عليه، ولا يرونه من اعتيادهم عليه أنه أمرٌ منكر ولا شنيع في الدِّين كما قال تعالى: ﴿فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ﴾ [النور:36] وهي المساجد، وقال تعالى: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا﴾ [البقرة: 114]؛ فعلمنا أن ترك ذكر اسم الله في المسجد خراب له، والتكلم بكلام الدنيا ترك للذكر فهو خراب للمسجد، خصوصًا إذا اشتمل ذلك على فعل بعض المُنْكَرَاتِ من الفسق، خصوصًا إذا كان ذلك بالقرب من موضع رأسِ يحيى بن زكريا عليهما السلام في الجامع الأموي، وقد رأينا ذلك منهم كثيرًا يجلسون حول مزاره — ويتكلمون بأنواع الكلام من غير اعتبار لمقام ذلك النبي — ولا احترام ولا نكير منكِرٍ لشيء من ذلك من الخاص ولا العام، ولا يجِدُون المنكِرَ إلا في مجلس المولوية لضعفِ الفقراء عن مقاومة المعاندين اللئام، وقد اعتادُوا من سنين متعددة أنَّهم يؤذِّنون للفجر قبل طلوع الفجر خصوصًا في شهر رمضان، ثم إذا دخل الوقت يقيمون الصلاة ويصلون بلا أذان فهو ترك لسُنَّة مؤكدة عندنا؛ لأن الأذان يكره تركه كراهة تحريم، وإذا تركه أهل بلدة أو قرية يقاتلهم السلطان على تركه، وكل صلاةٍ أُدِّيَت بالكراهة التحريمية وجب إعادتها، والكل مُصِرُّونَ على ذلك، ويا ليت هؤلاء الذين يدَّعون العلم ويضعون الدروس في الجوامع وغيرها يشعرون بما هم فيه قبل أن ينكِرُوا على غيرهم، وهم مملوءون من التكبر والعجب والحسد والرياء والسمعة والحقد والعداوة لبعضهم بعضًا، وحب الدنيا الذي هو رأس كل خطيئة، كما ورد في حديث البيهقي، قال رسول الله صلى الله عليه وسلـم: «حب الدنيا رأس كل خطيئة»، بل هو من أكبر الكبائر، كما ورد في حديث الديلمي في «مسند الفردوس» قال رسول الله صلى الله عليه وسلـم: «أكبر الكبائر حُبُّ الدنيا»، فيجلسون في الدروس في العلوم الشرعية مع وجود هذه القبائِحِ، وأكثر منها فيهم، ولا يتحاشُون من ذلك ولا يجدون أنهم فعلوا منكرًا ولا أنَّهُم صدر منهم شيء، ولعَمْرِي من أين لهم علم ذلك وإدراكهم له من أنفسهم، ومعرفته موقوفة على تعلُّم العلم النافع الكاشف عن أمراض القلوب ودسائس النفوس مِمَّا هو نافع في الآخرة، وهم لا يطلبون إلا علوم الدنيا ليأكلوا بها ويعيشوا بالتكسب فيها، كعلومِ الفتوى والقضاء والتدريس في المدارس والوظائف والعلوم النافعة عندهم، قلة عقل وتقيُّد بما لا معنى ولا فائدة فيها، ومن رأوه ينظر فيها نسبوا إليه الجنون والعَتَهَ، بل الشقاء والمهانة والذل، ونسبوا الكمال لأنفسِهم، ولا شك أنهم في استهانتهم بها ونظرهم إلى أهلها بالحقارة وإنكارهم نفعَهَا في الآخرة والأولى من الكافرين الضالِّينَ المُضِلِّينَ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلـم: «علمُ الباطن سرٌّ من أسرار الله عَزَّ وَجَلَّ وحكم من حكم الله يقذفه في قلوب من يشاء من عباده» [أخرجه الديلمي في «مسند الفردوس» عن علي } وذكره الأسيوطي في «جامعه الصغير»].
فقوله: «يقذفه في قلوب من يشاء من عباده»، معناه أنه ليس يحصل بالتعلُّم ولا هو ما تَتَخَيَّلُهُ نفوسُ القاصِرِينَ من زخارِفِ المعانِي مِمَّا تسميه هؤلاء المتفقهة علم التصوف، فإذا ذكرُوا فيما بينهم شيئًا قالوا: «هذه نكتة صوفية» في معرِض قلة التحقيق، وبعضهم يظُنُّ أن ذَلِكَ أخذُ الإنسان بالقولِ الذي فيه تضييق من المذاهب الأربعة على نفسِهِ، ويقولُونَ: «الصُّوفِيُّ هو الذي يُشَدِّدُ على نَفْسِهِ في الوَرَعِ»، فسبيلهم في ذلك سبيل من عرض كتب علم العربية ودقائق علم المعاني والبيان على الفلاحين وأهل القرى والأعراب الذين لا يعرفون شيئًا من الحروف ولا رأوا في عمرهم كتابًا أصلًا، فكيف يعرفون ذلك، وهم في علمِ الباطن الذي هو سِرٌّ من أسرارِ الله تعالى يقذفه في قلوب من يشاء من عباده كذلك!.
وأبلغُ من ذلك قال الإمام الكرماني الحنفي رحمه الله تعالى في ابتداء «مناسك الحج» له: إنَّ العلم والعمل في الظاهر بدون علم القلب لا ينفع صاحبه؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: «العلم علمانِ علمٌ باللسان وليس له تحقيق على القلب فذلك العلم الضار، وعلم بالقلب فذلك العلم النافع» انتهى.
وفي شرح «الجامع الصغير» للمُنَاوِيِّ قال الإمام مالك رحمه الله تعالى: «علم الباطن لا يعرفه إلا من عرف علم الظاهر، فمتى عُلِمَ علم الظاهر وعمل به؛ فتح الله عليه علم الباطن، ولا يكون ذلك إلا مع فتح قلبه وتنويره»، وقال: «ليس العلم بكثرة الرواية إنما العلم نور يقذفه الله في القلب» يشير إلى علم الباطن.
وقال التونسي: اجتمع العارف علي وفا رحمه الله تعالى والإمام البُلْقِينِيُّ فتكلم علي قدس الله سره معه بعلوم بهرَتْ عقله، فقال البُلْقِينِيُّ: من أين لك هذا يا علي؟ قال: من قوله تعالى ﴿وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ﴾ [البقرة:282].
وفي موضع آخر من الشرح المذكور قال أبو طالب المكي رحمه الله تعالى: علم الباطن وعلم الظاهر أصلانِ لا يستغني أحدهُمَا عن صاحبه، بمنزلة الإسلام والإيمان مرتبط كل منهما بالآخر كالجسم والقلب لا يَنْفَكُّ أحدهما عن صاحبه. وقيل: علم الباطن يخرج من القلب، وعلم الظاهر يخرج من اللسان فلا يجاوز الآذان، وهذا لا ينصرف إليه اسم العلماء الذين هم ورثة الأنبياء؛ إذ هم العلماء العاملون الأبرار المتَّقُون الذين آلَ إليهم العلمُ الموروثُ بالصِّفَةِ الَّتِي كان عليها عند المورِّث لا من علمه حجة عليه، وقد منعه سوء ما لديه من خبث نيته وسوء طَوِيَّتِه واتِّبَاع شهوته أنْ يلِجَ نورُ العلم قلبَه ويخالط لُبَّه، فأوْرَدَهُ النارَ وبئس الورد المورود، قال بعضهم: وهذه صِفَةُ علماء زَمَانِنَا، تجدُهم يجتهدون في تحسين الهيئة والثياب الفاخرة والمراكب السَّنِيَّة، فإذا نظرت إلى باطن أحدهم وجدت خوف الرزق على قلبه كالجبال يكاد يموت من هَمِّه، وخوف الخلق، وخوف سقوط المنزلة من قلوبهم، والفرح بمدحِهِم، والثناء عليه وحب الرياسة وطلب العلو، والتبصبص للظَّلَمَةِ والأغنياء، واحتقار الفقراء والأنفة من الفقرِ، والاستكبار في موضع الحقِّ والحقْدِ على أخيهِ المسلم والعداوة والبغضاء، وترك الحقِّ مخافة الذُّلِّ، والقول بالهوى والحَمِيَّة، والرغبة في الدنيا والحرص عليها والشح والبخل وطول الأمل والأشر والبطر والغل والغش، والمباهاة والرياء والسمعة والاشتغال بعيوب الخلق، والمداهنة والإعجاب بالنفس والتزيُّن للمخلوق، والصَّلَف والتجبُّر وعزَّة النَّفْسِ والقسوة والفظاظة والغلظة، وسوء الخلق وضيق الصدر، والفرح بالدنيا والحزن على فوتِهَا وترك القنع، والمرا والجفا، والطيش والعجلة والحدة وقلة الرحمة، والاتِّكَال على الطاعة وأمن سلب ما أعطي، وفضول الكلام والشهوة الخَفِيَّة، وطلب العِزِّ والجاهِ، واتِّخَاذ الإخوانِ في العلانية على عداوة في السِّرِّ، والغضب إذا رُدَّ عليه قولُه، والتماسُ المُغَالَبَة لغيرِ اللهِ تعالَى، والانتصار للنفسِ والأُنس بالخلق والوحشة من الحق، والغِيبة والحسد والنميمة، والجور والعدوان.
فهَذِهِ كُلُّهَا مَزَابِلُ قد انْضَمَّتْ عليها طَوِيَّةُ صُدُورِهِم، وظاهرهم صوم وصلاة وزهد وأنواع أعمالِ البر، فإذا انكشفَ الغطاء بين يَدَيِ الله تعالى عن هذه الأمور كان كمزبلة فيها أنواع الأقذار غشيت بالذبائح فأنتنت، فهذا عالم مراءٍ مداهِنٌ يَتَصَنَّعُ عندَ شهوَاتِه فلم يقدر أن يخلص عمله، ونفسُه مقيَّدَةٌ بنارِ الشهوة، وقلبه مشحونٌ بهوى نفسِهِ، وهَذِهِ كُلُّهَا عيوب والعبد إذا كثرت عيوبه انحطَّت قيمته، انتهى كلام أبي طالب المكي رحمه الله تعالى.
وفي بابِ الوصايا من «الفتوحات المكية» للشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي قدس الله سره: «قيلَ لبعضِ العُلَمَاءِ: أوصِنَا. فقالَ: إيَّاكُمْ ومجالَسَةُ أقوامٍ يتكلَّفُون بينهم زخرفَ القول غرورًا، ويتملَّقُونَ في الكلام خداعًا، وقلوبُهُم مملوءة غشًّا وغلًّا ودغلًا، وحسدًا وكبرًا، وحرصًا وطمعًا، وبغضًا وعداوة، ومكرًا وحيلًا، دينُهم التعصب واعتقادهم النِّفَاق، وأعمالهم الرِّيَاء واختيارهم شهوات الدنيا، يتمنون الخلود فيها مع علمهم بأنَّه لا سبيل لهم إلى ذلك، يجمعون ما لا يأكلون، ويبنون ما لا يسكنون، ويأملون ما لا يدركون، ويكسبون الحرام وينفقونه في المعاصي، ويمنعون المعروف ويرتكبون المنكر» انتهى كلامه.
فانظُر يا أيها الإنسان المنصِف إلى هَذِهِ الأوصاف كلها، تجدها أوصاف علماء زمانِنَا اليوم إن تركت مداهَنَتِهِم ومنافَقَتِهِم، وتأمَّلْ! هل يليق أو يحسن أن يكون هؤلاء أمناءَ على أحكامِ الله تعالى في هَذِهِ الشَّرِيعَةِ المُحَمَّدِيَّةِ، وأنَّ العلم بالحلال والحرام فيها يؤخَذُ عنهُم أو يُعْتَبَرُ التَّكَلُّمُ في ذَلِكَ منهُم على ما هم عليه من هَذِهِ الأوصافِ القبيحة، خصوصًا إذا انضَمَّ إلى ذلك دخولُهم إلى بيوتِ الظَّلَمَة على جهة المباهاة لهم بذلك والمفاخرة، وتسليكهم لأغراض الظلمة في كل ما يريدون التوصل إليه، وإقرارهم لهم على ما يجدونه منهم من ظُلم العباد، ومدحهم لهم بما هم فيه من الفسق الظاهر، والتقرُّب إلى خواطِرِهِم بما يقدِرُونَ عَلَيهِ من الأقوالِ والأفعال، فإذا رأيتهم أنكروا مُنْكَرًا وقالُوا بحُرْمَةِ شَيءٍ أو إباحَتِهِ وهم مُصِرِّونَ على ما ذكرنا من الأحوال؛ فليس ذلك الأمرُ بمعتبَر منهُم، ولا إنكارهم لذلك المنكَر بمقبول من أحدِهِم ما لم يكن ما قالوهُ مُجْمَعًا عليه كالزِّنَا والسَّرِقَةِ والربا وشرب الخمر؛ فيكون الإنسان في ذلك محترِمًا حكم الله تعالى، فيقبل ذلك من الله تعالى لا منهم، ولا كبير قدر لهم عنده، وأمَّا ما ينقلونه من عبارات الكتبِ الفقهيَّة التي يفهمونَ منها حرمَةَ شيءٍ من غير تصريح بذكره بخصوصِه؛ فليسَ ذلك المفهومُ مقبولًا منهُم ولا هو كَمَا فَهِمُوه من الكتبِ لطمسِ بصائرِهِم بما هم فيه من أنواع القبائح المذكورة، ولأنَّهُم لا يتكلمون إلا بأغراضهم النَّفْسَانِيَّة، وليس للإخلاصِ في العلمِ ولا في العملِ عندهم كبيرُ أمرٍ حتَّى يكونوا موصوفِينَ به، ولا هم قائلون أيضًا بوجوبه أو باحترام أهله الموصوفين به، ولا يقدرون على معرِفَتِهِ في أَحَدٍ من النَّاسِ ولا هُمْ في صددِ اعتبارِ ذلِكَ أصلًا، ولولا أنَّا قصدنا بهَذِهِ الرسالة تطمينَ خواطر كثيرٍ من أمَّةِ محمَّدٍ صلى الله عليه وسلـم وسوسوا في صدورهم وأفهموهم حرمة الحضور في مجلس سماع الفقراء المولوية الذي قال فيه أبا طالب المكي رحمه الله تعالى في «قوت القلوب»: «إن طَعَنَّا على أهل السماع فقد طَعَنَّا على سبعين صِدِّيقًا»؛ يعني أن الصديقين من الأولياء كانوا يسمعون مثل ذلك، لكِنَّا نترك الكلام معهم رأسًا، ولا نلتفت إلى طعنهم في ذلك، ولكن قصدنا بيان الحق لضعفاء البصائر من الناس الذين اعتادوا تقليدَهُم واعتبارَ كلامِهِمْ؛ إذ لَمْ يَجِدُوا غَيرَهُم في الزَّمَانِ، ولا تَرَكُوهُمْ يجدوا أحدًا من العلماءِ غيرهم؛ لطَعْنِهِم بالزُّورِ والبَاطِلِ في كل من رَدَّ عليهم ضلالهم، ولا يوافقهم على سوء أحوالهم، والله يعلم المفسِد من المصلح.