الفصل الخامس
الفصل الخامس
اشتملَ مجلسُ المَوْلَوِيَّةِ عَلَى السَّمَاعِ الطَّيِّبِ بالآلاتِ المُطْرِبَةِ كالشَّبَّابَةِ والدُّفِّ ونحو ذلك، ولا اقتران لذلك بشيء من المناكر في المجلس أصلًا، وإنما هو مجرد سماع آلات مُطْرِبَاتٍ؛ ترويحًا للقلوبِ وتنشيطًا للسلوك في طريق علام الغيوب، وقد تَمَسَّكَ من أطلقَ الحرمة في سماع ذلك بعبارات وقعت في كتب الفقه كقول صاحب «الفتاوى البزازية»: «استماع صوتِ الملاهي كالضرب بالقضيب ونحوه حرام، قال —: «استماع الملاهي معصية والجلوس عليها فسق والتلذذ بها كفر»؛ أي كفر بالنعمة، فصرف الجوارح إلى غير ما خلقت لأجلِهِ كفرٌ بالنِّعْمَةِ لا شكرٌ فالوَاجِبُ كل الواجِبِ أن يجتنب؛ كي لا يسمع لما روي أنه عليه الصلاة والسلام أدخل أصبعه في أذنه عند سماعه. انتهى كلامه.
ولا يخفَى أنَّ ذكرَ الملاهِي مؤذِنٌ بأنْ يكون ذلك السماع ملهيًا عن طاعة مفروضة، كما إذا فوت به الصلاة أو ملهيًا بمعصية محرَّمة كما إذا وقع في زنا ونحوه لا مطلق اللهو؛ لأنَّ من اللهوِ ما هو مباح كما قدَّمْنَاهُ ويفهم ذلك من إشارة الحديث الشريف قال رسول الله صلى الله عليه وسلـم: «يكونُ في هذه الأمة خسفٌ ومسخٌ وقَذْفٌ إذا ظهرت القيان والمعازف وشربت الخمور» [رواه الترمذي عن عمران بن الحصين وذكره الأسيوطي في «الجامع الصغير»]، والقيان جمع قينة، وهي المرأة المغنية والمعازف جمع مِعزف [بكسر الميم وبالزاي والفاء]: آلة اللهو كالدُّفِّ والطنبور ونحو ذلك.
فانظر كيف قرن صلى الله عليه وسلـم المعازف بذكر القيان قبله والخمور بعده؛ فالسماع الحرام هو سماع هذه الآلات المذكورة حال استعمالها كذلك وهي المسماة بالملاهي في قول «البزازية» كالضرب بالقضيب ونحوه، كما بسطنَا الكلام على ذلك في رسالتنا «إيضاح الدلالات في سماع الآلات» وكذلك وقع مثل عبارة البزازية في كتاب «المبتغى» بالغين المعجمة قال: واستماع الملاهي والجلوس عليها فسق والواجب أن يجتهد ما أمكن؛ حتى لا يسمع. انتهى.
فانظر تقييدَهُ بالمَلَاهِي من غيرِ إطلاقٍ في ذَلِكَ وفي «مختصر المحيط»: واستماع صوتِ الملاهي كالضِّرْبِ بالقضيبِ وغيره حرام، إلَّا أن يسمع بغتة فيكون معذورًا، وينبغي أن يجتهد ما أمْكَنَ ألَّا يسمَعَ ولا بأسَ بأن يتغنى وحده إذا لم يكن على سبيل اللهو.
وعن الحسن بن زياد: ولا بأسَ بضرب في العرس. وعن أبي يوسف: لو ضربت المرأة الدُّفَّ في غير العرس للصبي لا للغناء لا بأس به. انتهى.
فانظر إلى تقييدِه ذَلِكَ بالمَلَاهِي وقوله: إذا لم يكُنْ على سَبِيلِ اللَّهْوِ فإنَّه يقتضي اشتراطَ كونِ ذَلِكَ على وجهِ اللهوِ الحرام لا المباح من اللهو، والحاصل أن عبارات الفقهاءِ في كتب الفقهِ مقيَّدَةٌ بذكر اللهو، ولا بُدَّ في حرمة السماع أن يكون على سبيل اللهو ولا تكون الآلاتُ المذكورة محرَّمة السماع، إلا إذا كانت ملاهي وآلات لهو وهو الذي أجمعَتْ عليه الفقهاءُ في كتبهم كما يظهر لمن تتبع ذلك، ثم نرجع إلى اللهو فنقول: المرادُ به اللهو الحرام لا اللهو المباح كما ذكرناه فيما مر؛ فاللهو الحرام يجعل الآلة المستعملة فيه حرام لا اللهو المباح، وكل ما دعا إلى الفسق والحرام فهو فسق وحرام، والملاهي المستعملة في الفسق والحرام تدعو إلى الفسق والحرام فهي حرام، وما لا يكون كذلك فليس بحرام؛ هذا مِمَّا يجب فهمه من كلام الفقهاء حتى لا يتناقض بذكرهِم جوازَ الاستماعِ للطبل في الغزاة وفي العرس؛ لأن ذلك ليس بلهو حرام فلا يكون الطبل فيه من الملاهي وآلات اللهو؛ فلا يكون حرامًا فلو كانت الملاهي وآلات اللهو أسماءً للطبل والدف والشبابة مطلقًا لما خرجت عن كونها لهوًا باستعمالها في الغزاة والنكاح، ولا يجوز لأحد من العلماء وغيرهم يسمع الفقهاء يذكرون في كتبهم مسألة موصوفة بوصفٍ مخصوص ومقيَّدَة بقيد معلوم كقولِهِم: استماع صوت الملاهي حرام ونحو ذلك؛ فيفهم من ذلك أن مطلَقَ صوتِ الآلَةِ حرامٌ ويلغى ذكر اللهو من كلامِ العلماءِ وتقييدهم بذكرِ الملاهي، ثم إنه يفتي الناس بإطلاق الحرمة في سماع الآلة المطربة كيفما استعملت في لهو حرام أو غيره هذا أمر شنيع في الدين وخيانة في العلم بين المسلمين، أيريد الجاهلُ المغرور أن يُخَطِّئَ أئمَّةَ الإسلامِ ممَّن كان يستمع الآلات المطرِبَةَ من العلماءِ الأعلام؟ أم يريد أن يجعل علماء الفقه الشريف طاعنين في أهل الله تعالى أصحاب المقام المنيف؟ أم يريد أن يفرق بين أهل الشريعة وأهل الحقيقة ويجعلهما مِلَّتَيْنِ ودِينَيْنِ وهما مِلَّةٌ واحدَةٌ ودينٌ واحدٌ، نعوذُ بالله تعالى من ذلك.
وما أَجْهَلَ الفَقِيهَ الَّذِي لا يَقْدِرُ على التَّطْبِيقِ بين كلامِ العلماء المختلف بحسب الظاهرِ وهو في المعنى قولٌ واحدٌ ثم يُفْتِي النَّاسَ بما يَقْتَضِي طَعْنَهُم ووقوعَهُم في شأن الكامِلِين من أهل الله تعالى! وهَذَا حضرَةُ المولي جلال الدين الرومي قدس الله سره ذكر في أول كتابه «المثنوي» المذكور قوله رحمه الله تعالى:
بشنوازني چون حكايت ميكند * از جدائيها شكاية ميكند
يعني أسمع الناي -وهو الشبَّابة- كيف يحكي الحكاية الإلهية في خلق الحقيقة الإنسانية المشار إليها بقوله تعالى: ﴿وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي﴾ [الحجر:29]، ومن البعادات الكثيرة كيف يبدي الشكاية بعاد الطبيعة الكلية، وبعاد الحركة الفلكية، وبعاد العناصر المادية، وبعاد الطبيعة الجزئية، وبعاد النفس الحيوانية، وبعاد الصورة الجسمانية، فهو } أمر بسماع الشبابة بهذا المعنى المذكور من طريق الإشارة لا على جهة اللهو والغفلة، وهكذا أحوال الفقراء في السماع عند من يفهم الحقائق والمعارف ومن لم يفهم فهو متبرِّكٌ بالحضور في مجالس أهل الحضور كما ورد في الحديث قال صلى الله عليه وسلـم: «يدفع الله عن أمتي بمن يصلِّي عمَّن لا يصلي» [رواه الديلمي في «مسند الفردوس»].
وهل يريد ذلك الجاهل أن ينسب الفسق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلـم وإلى أصحابه! فإنه صلى الله عليه وسلـم ورد عنه في الأخبار الصحيحة أنه سمع الدف، ومعلوم أن ذلك لم يكن على سبيل اللهو؛ فقد أخرج البخاري ومسلم عن عروة عن عائشة رضي الله عنها أن أبا بكر الصديق دخل عليها وعندها جاريتان في أيام مِنى يدففان ويضرِبَان والنبي صلى الله عليه وسلـم متغشٍّ بثوبه، فانتهرهما أبو بكر فكشف رسول الله صلى الله عليه وسلـم عن وجهه الكريم وقال: «دعهما يا أبا بكر فإنها أيام عيد»، وفي حديث آخر قالت عائشة رضي الله عنها: دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلـم وعندي جاريتان تغنيان بغناء بعاث فاضطجع على الفراش وحول وجهه ودخل أبو بكر فانتهرني، وقال: مزمارُ الشيطان عند رسول الله! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلـم: «دعهما» فلما غفل غمزتُهُمَا فخرجتا فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من بعض الغزوات سالمًا غانمًا، خرجت بناتُ النجار إلى ثنية الوداع يضربن بالدفوف ويقلن في غنائهن:
طلع البدر علينا من ثنيات الوداع وجب الشكر علينا ما دعا لله داعي
فأباح صلى الله عليه وسلـم لهن ذلك لإظهار السرور بقدومه، فهذه أخبار وَرَدَت أن النبي صلى الله عليه وسلـم سمع صوت الدُّفِّ، فلو كان قول الفقهاء كما تقدم بحرمة سماع الملاهي مطلقًا في سماع الدف ونحوه كيفما كان؛ لكان ذلك ردًّا على ما ثَبَتَ عَنْهُ صلى الله عليه وسلـم من سماعِهِ، وأن ذلك حرامٌ أيضًا، وحاشَا الفقهاء أئمة الدِّين أن يريدوا بتحريمِهِم صوت الملاهي التعميم الشامِلَ لذلك؛ فإن قالَ المتفقِّه القاصِرُ: هذا الذي وَرَدَ في حَقِّ النبي صلى الله عليه وسلـم كان سماع الدُّفِّ في يوم العيد، والفقهاء مصرِّحون بإباحة ذلك في يوم العيد. قلنا له: وخبر بنات النجار في يوم قدومه صلى الله عليه وسلـم يقتضي إباحة ذلك في كل حادثة سرور، وقد نص على هذا التعميمَ المُناويُّ كما سَبَقَ، فيدخُلُ في ذَلِكَ يومُ المقابلة عند فقراءِ المولوية؛ فإنَّه لا سرور للفقير السالك في طريق الله تعالى إلا يوم حضوره في مجلس الذكر الشريف وفرحه بربِّه، فإن طَعَنَ في أحوالِ الفقراء ونسب إليهم القصور رَدَدْنَاه بوجوب حمل المسلم على أحسن الوجوه، حتى يَظْهَرَ خلاف ذلك، والمتفقه القاصر المسكين من أين يعرف أحوال الكاملين من غيرِهِم، وهو في عمرِه مغمورٌ بالإنكارِ وواقع في مهالك الجحودِ والاستكبار؛ فإن نسبَ الفسق لمن يحضر سماع الدف ونحوه من الآلات في مجلس الفقراء يوم سرورهم بميقاتِهِم؛ فقد شمل ذلك القول منه نسبة الفِسْقِ إلى سماع النبي صلى الله عليه وسلـم الدُّفَّ يوم قدومه، وفرح بناتِ النجار بِهِ ويومَ العيد أيضًا كما قدمناه، فيكفر بذلك ويكون طاعِنًا في النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلـم، كَمَا أَفْتَى به ابنُ العربي المالكي الفقيه المشهور بكُفْرِ من أعابَ على رجل لَبِسَ الثوبَ الأحمر، فقال إنَّه أعاب لُبسة لبسها رسول الله صلى الله عليه وسلـم، حتى إنه قتل ذلك الرجل بفتواه كما نقله الشيخ عبد الرءوف المناوي في شرحه الكبير على «الجامع الصغير» عند حديث: «كان صلى الله عليه وسلـم يلبس برده الأحمر في العيد والجمعة»، وإن كان ذلك على وجه التَّهَوُّر من ابن العربي المذكور رحمه الله تعالى؛ لأنه كان ينبغي له أن يُؤَوِّلَ ذلك بالعيبِ على غيرِه لا عليه صلى الله عليه وسلـم، ويصرِف الكفر عن ذلك الرجل المسلم، وهذا نظيرُ ما ذكره الشيخ عبد الوهاب الشعراوي رحمه الله تعالى في كتاب «لواقح الأنوار في طبقات الأخيار» عن بعض الأولياء أنه كان يأكل القرع مع ابنه فقال ابنه: «أنا لا أحب القرع» فقام وأخذ السيف وضرب به رأسه في الحال، وقال: «إنه كفر؛ لأنَّ النبي صلى الله عليه وسلـم كان يحب القرع». وهذه مسألة ذكرها الفقهاء قالوا ولو قيل له: كان النبي صلى الله عليه وسلـم يحب كذا -مثلًا القرع- فقال رجل أنا لا أحبه كفر، كذا روي عن أبي يوسف نصًّا، وبعض المتأخرين قالوا: إذا قال ذلك على وجه الإهانة كان كفرًا وبدونه لا يكون كفرًا، ومثله لو قال الآخر: احلِقْ رأسَكَ وقلِّمْ أظفارَكَ؛ فإن هذه سنة النبي صلى الله عليه وسلـم. فقال ذلك الرجل: لا أفعل وإن كان سُنَّة. فهذا كفر؛ لأنه قال على سبيل الإنكار والرد.
وكذلك في سَائِرِ السُّنَنِ خصوصًا في سُنَّةٍ هي معروفة وثبوتها بالتواتر كالسِّوَاك ونحوه، وإذا قال الرجل لغيره: سَوِّ شاربك فإنه سُنَّةٌ. فقال: لا أفعل. إن أنكره أصلًا يكفر. [كذا في «فصول العمادي» ونحوه في «البزازية» وغيرها].
وكذلك نقول نحن الآن إذا قيل لرجل: رسول الله صلى الله عليه وسلـم سمع الدف. فقال: أنا لا أسمع الدف أو سماع الدف حرام. وأطلق في سماع الدف؛ كَفَرَ على قياس ما ذكر وإذا قال مثل ما قال الفقهاء في كتب الفقه: استماع الملاهي حرام أو سماع آلات اللهو حرام؛ فإنه لا يكفر لأن الملاهي هي الآلات المستعملة في اللهو الحرام كما قدَّمْنَاهُ، وهي حرامٌ ولم يكن سماعُ النبي صلى الله عليه وسلـم للدُّفِّ كما وَرَدَ في الأحاديث لهوًا محرَّمًا حتى يكون من سماع الملاهي؛ فلا يكون حرامًا.
ومن العجائب أن بعض المتفقِّهَة القاصرِين يدخلون إلى بيوت الأكابر، ويسمعون عندهم في بيوتهم السماع المولوي وغيره أيضًا بالآلات المطربة، ويتلذَّذُون بذلك ويتطرَّبُونَ ويُظْهِرُونَ لصاحب البيت الفرح بذلك والرضا به، ولا ينكرون شيئًا منه أصلًا، وإذا حضروا في المسجد في درس أو وعظ ينهَوْنَ عن ذلك ويشدِّدون على الناس إنكار سماع الآلات مطلقًا، ويحكمون بالفسق على من يحضر مجلس المولوية، وهذا شيء شنيع في الدِّين أن يخالف فعل العالم قوله، ويضمر في حاله خلاف ما يظهر منه وهو خيانة في الدين وغش بين المسلمين، ونفاق ظاهر وصاحبه بالضلالة متجاهر، وما ذَلِكَ إلا لاعتيادِهِم على التكلُّمِ بالأغراضِ؛ لأنَّ قلوبهم الخبيثة تراكمت عليها الأمراض، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وهو بكل شيء عليم.