الفصل الرابع
الفصل الرابع
اشتمل مجلس المولوية على قراءة المثنوي الشريف المنظوم بالوزن اللطيف في العلومِ الإلهية والمعارف الربانية والحقائق الإيقانية، يشتمل على الكلام في إشارات آيات قرآنية وأسرار أحاديث نبوية وذكر قصص ومواعظ إيمانية ونصائح وأمثال وحكم عرفانية مقرر باللغة الفارسية لغة مصنفه الشيخ الإمام والعارف الكامل الهمام بحر العلوم الحقيقية، وترجمان الحضرة الإلهية، سلطان العلماء والظاهر ظهور نجوم السماء المولى جلال الدين الرومي قدس الله تعالى روحه ونور ضريحه، ولقد كنت شرحت ثلاث ديباجات جعلها رحمه الله تعالى بالعربية لثلاثة أجزاء من كتابه «المثنوي» المذكور بطلب من بعض فقراء الطريق المولوي المنصور، وسميت شرحي ذلك «الصراط السوي شرح ديباجات المثنوي» وحين فرغت منه ختمته بقصيدة مدحت بها حضرة المولي جلال الدين المُشَار إليه ومدحت كتابه «المثنوي» الذي يعول في العلوم الإلهية عليه فقلت في ذلك:
بكتاب المثنوي طاب الوجود |
* |
وتوالى كل إنعام وجودْ |
وبه الألباب مِنَّا فرحت |
* |
بعقودٍ هي من أبهى العقودْ |
ظهر الحق به واتَّضَحَتْ |
* |
سائر الأحكام فينا والحدودْ |
ورياض الدِّين قد راقت به |
* |
وبدا سِرُّ ركوع وسجودْ |
فهو وحيُ الله في إلهامِه |
* |
يخرج المطلق من كل القيودْ |
وهو بحر العلم فيه قد سرت |
* |
سفن الكل إلى دارِ الخلودْ |
وهو نور الله فينا ظاهر |
* |
يذهب الظلمة من هذَا الوجودْ |
وهو قرآن وفرقان لمن |
* |
عرف الله على رغم الحسودْ |
ليس يدري قدره غير فتًى |
* |
روحه تشرِقُ من تحت الجلودْ |
وهو شمسٌ عَمِيَتْ عن نُورِهِ |
* |
عينُ قومٍ هم عن الحَقِّ رقودْ |
وكلام ليس يدريهِ سوى |
* |
أَسَدٌ في اللهِ من بعضِ الأسودْ |
ونظام كالضِّيَا من قمر |
* |
في ليالٍ هُنَّ بالجاهِلِ سودْ |
رشحَاتٌ من إناءٍ مفعم |
* |
بعلومٍ هي للهِ تقودْ |
من همامٍ رفع الله له |
* |
في الوَرَى ذكرًا بلا شوب جحودْ |
كيف لا وهو إمام الأوليا |
* |
طيب العنصر محمود الجدودْ |
خيمة الصَّوْنِ عليهِ رفعت |
* |
بيد الله لها العِزُّ عمودْ |
ومن الله بَدَا في خلقِهِ |
* |
داعيًا ثم إلى الله يعودْ |
كان في الوقتِ له الوقت بِلَا |
* |
شبهَةٍ بينَ صدور وورودْ |
ثم جاءت بعده أتباعُه |
* |
كلهم أهلُ عِيان وشهودْ |
وإلى الآن لهم فينا تقى |
* |
زائد ضمن وفاءٍ بالعهودْ |
قدَّسَ الله له الروح التي |
* |
هي بالأمر الإلهي في سعودْ |
وسقى الرحمن لَحْدًا ضَمَّهُ |
* |
وابل الرَّحْمَةِ من بين اللحودْ |
وأدامَ الركب يعشون إلى |
* |
حَيِّهِ بين قيامٍ وقعودْ |
يستلذُّونَ معانِي هَدْيِهِ |
* |
أمدَ الأزمان من غيرِ نُفُودْ |
ما زها في الروضة الزهر وما |
* |
أهدت النسمة منه عَرْفَ عودْ |
فيقرأ المعيد في مجلس المولوية -على كرسي ينصب له- شيئًا من كلام المثنوي المذكور ويتكلم على ذلك شيخُهم فوق كرسِيٍّ آخر ينصب له في ذلك المجلس المعمور؛ تعظيمًا واحترامًا لكلامِ أهلِ الله تعالى العارفين، وأدبًا مع ما تضمن من العلوم الإلهية ومعارف أهل التمكين، وربما يُورِدُ شيخهم شيئًا مِمَّا تكلم به الشارحون المحقِّقُونَ والفقراء حاضرون بين يديه على كمالِ الأدب والاستماع إلى فراغه من ذلك والناس محدِقون بما هنالك، ولا شَكَّ أن هذا الأمر طاعة لله تعالى وعبادة مرضية للسالك، ومن لم يفهم فإنَّه يحظى بالبركة والنفوس كلها في ذلك الخير مشتركة؛ فمن نسب الفسقَ إلى الحضور في ذلك المجلس فهو كافر بالله تعالى لإنكاره العلوم الإلهية القرآنية والمعارف الربانية النبوية، وذلك زبدة التوحيد والدين المحمدي، وقد رأينا من أفتى بالكفر في الاستهانة بأدنى من ذلك كما نقل الشيخ الإمام ابن حجر الهيثمي الشافعي رحمه الله تعالى في «فتاواه» أنه سئل عمَّن قال: «مقامات الحريري» كذب؛ هل يكفر لاستهزائه بالعلم؟ فأجاب: لا يكفر من قال: «مقامات الحريري» كذب؛ لأنها على صورة الكذب ظاهرًا، ولكنها في الحقيقة ليست كذلك، وإنما هي من ضرب الأمثال وإبراز الطرق الغريبة والأسرار العجيبة والبديع الذي لم ينسج على منواله ولا خطر بفكر أديب ولا بباله، فشكر الله سعي واضعها وسقى الله عهد صانعها. نعم، إن قصد بأنها كذب الاستهزاء بما فيها من العلوم كفر، فقد قال الأئمة فيمن قال: قصعة ثريد خير من العلم؛ إنه يكفر فإذا كفر بهذا سواء قصد به الاستهزاء أم لا. فما ظنك بمن يستهزئ بالعلم ويجعله كذبًا! انتهى كلامه.
ونقول نحن أيضًا: إذا كان يكفر بالاستهزاء بالعلم المطلق الذي لم يتعيَّن هنا المراد منه أي علم هو؛ فكيف لا يكفر بالاستهزاء على العلم الإلهي الرباني والكتاب المشتمل على ذلك والمجلس الذي يقال فيه معاني ذلك وينسب الفسق إلى من حضر فيه من الناس؛ فإن الكفر في ذلك بالأولى.