الفصل السابع
الفصل السابع
اشتَمَلَ مجلسُ المولوية على إظهار الطاعة والإذعان بإحناء الظهر من أهل هذا الشأن وفقرائهم المتأدبين في السِّرِّ والإعلان. أمَّا قول الفقهاء بأنه يكره الانحناء عند السلام على الغيرِ؛ فمعلوم أنَّ كراهة ذلك في كلام الفقهاء إنما هي في وقت السلام لا في غيره، وهذا الذي تفعلُه فقراء المولوية من بعضِهِمُ للبعضِ في وقت الدوران حالَ تواجُدِهِم ليس هو في وقت السلامِ منهم عليهم، ولا ذَلِكَ على وجهِ التَّحِيَّةِ لهم عند لقائِهِم حتى يكونَ مكروهًا، وإنما قاس المنكر لذلك هذه الحالة على حالة السلام والتحية لهم وأطلق الكراهة في ذلك، وقياسه مردود عليه، ومسألة الفقهاء باقية في كتبهم على كراهة الانحناء للغيرِ في وقت السلام عليه والتحية له عند لقائه لا كراهة ذلك مطلقًا، أرأيت أنَّ الإنسانَ إذا انحنَى لتناوُلِ شيءٍ أو للبس ثوب ونحو ذلك فقد انحنَى لأجلِ الغيرِ وهو ذلك الشيءُ أو الثوبُ، وليس ذلكَ بمكروهٍ، وكذلك الانحناءُ من الفقراءِ لشيخِهِمْ ومنهُ لَهُمْ على وجهِ الطاعة والإذعان بالظاهر، ليس هو الانحناء المكروه؛ لانصرافِه عن كونه انحناءً لأجل السلام والتحية، فإن علل ذلك المتفقه القاصر يكون انحناء الفقراء كذلك يشبه الركوع لله تعالى في الصلاة.
قلنا له: وكذلك القيامُ إذا فعلته الفقراء والقعود بين يدي الشيخ يشبه القيام لله تعالَى في الصلاة والقعود فيها؛ فيكون مكروهًا كذلك، ولا معنى لتخصيص الشبه بالعبادة بالركوع فقط؛ بل القيام والقعود كذلك، ولا قائل بكراهة القيام بين يدي المشايخ تعظيمًا لهم، وكذلك القعود كما كان هو المعتاد في قعود الصحابة { بين يدَيْ رسولِ الله صلى الله عليه وسلـم كأنما على رُءُوسِهِمُ الطيرُ من شِدَّةِ الوَقَارِ والهيبة، وليس ذلك مكروهًا.
وذكر الشيخ العيني الحنفي رحمه الله في «شرح البخاري»، قال إسحاق الصعيدي: كنت أرَى يحيى القطَّان يُصَلِّي العصرَ ثم يستند إلى أصل منارَةِ مسجدِه، فيقف بين يديه علي بن المديني والشاذكوني وعمرو بن علي وأحمد بن حنبل ويحيى بن معين وغيرهم، يسألونَه عن الحديثِ وهم قيامٌ على أرجُلِهِم إلى أن تجيءَ صلاةُ المغرب، ولا يقول لأحد منهم: اجلس، ولا يجلسون هيبة له. انتهى.
فليس القيام بين يدي المشايخ تعظيمًا لهم منهيًّا عنه، ولا القعود كذلك ولا الركوع مثل ذلك؛ لأن الكل أركان في الصلاة لا فرق بينهما في حصول عبادة الله تعالى بها بالنية على مقتضى التعليل يشبه العبادة والجاهل الذي يظن مطلق إحناء الظهر ركوعًا ولو كان بغير طهارة أو إلى غير القبلة كأنه لا يعرف شروط الصلاة فيسمي مطلق الانحناءِ ركوعًا كيفما كان وهو باطل، بل هو إحناء للظهر لا ركوع، على أن السجود لغير الله تعالى أيضًا إذا لم يكن على وجه العبادة فليس بمتقضٍ للتكفير. قال في «الأشباه والنظائر» من مبحثِ النِّيَّةِ في الفَنِّ الأوَّلِ: إنْ سجد للسلطان إن كان قصده التحية والتعظيم دون الصلاة لا يكفر؛ أصله أمر الملائكة عليهم السلام بالسجود لآدم — وسجود إخوة يوسف ليوسف — ولو أكره على السجود للملك بالقتلِ فإن أمروه به على وجهِ العبادة فالأفضل الصبر كمن أكره على الكفر، وإن كان للتحيَّة فالأفضل السجود. انتهى.
فلو فعل فقراءُ المولويَّةِ السجودَ لشيخِهِم على وجهِ التعظيم له والتحية دون العبادة لم يكُنْ ذَلِكَ كُفْرًا منهُم، فكيفَ إذا كان ركوعًا فإنَّه دونَ السجود، فلا كراهة فيه حيث هو على وجهِ التعظيمِ والتبجيلِ والاحترام والطاعةِ والانقياد والإذعان لا على وجه العبادة ولا على وجهِ السلام والتحية، ومن كرهه إنما كرهه على وجه السلام والتحية كما ذكرنا.
وروى ابن ماجه عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: قلنا يا رسول الله أينحني بعضنا لبعض؟ قال: «لا» قلنا: أيعانق بعضنا بعض؟ قال: «لا، ولكن تصافحوا» [رواه الترمذي بنحوه وصححه]، قال النجم الغزي رحمه الله تعالى في كتابه «حسن التنبيه في التشبيه» في باب التشبُّهِ بأهل الكتاب بعد ذكره هذا الحديث والنهي عن المعانقة في هذا الحديث محمولٌ على الكراهَةِ ومحله فيما لو كان على وجه التملُّق فأمَّا عندَ طول العهد بالصاحِبِ والقدومِ من السَّفَرِ وعند التوديع؛ فإنَّها سُنَّةٌ؛ لأنَّه صلى الله عليه وسلـم اعتنق جعفر بن أبي طالب } لمَّا قَدِمَ من الحبشة كما رواه الدارقطني وصححه من حديث عائشة رضي الله عنها، وفعل كذلك بزيد بن حارثة } وكان قدم عليه، كما رواه الترمذي وحسنه عنها أيضًا. انتهى.
وكذلك يقال في الانحناء للغير: إن المنهيَّ عنه إذا كان على وجه المداهنة والمراءاة والمنافقة، خصوصًا انحناء بعض العلماء للحكام والظلمة والقضاة وغيرهم لأجل الدنيا والخوف على الجاه والمنصب، وكذلك إذا كان على وجه التحية والسلام موضع التحية والسلام لمخالفة السنة، وأما إذا كان من فقراء المولوية لشيخهم ومن شيخهم لهم على وجه الإذعان لأحوال بعضهم من البعض والانقياد بالبر والطاعة، فهو أمر مقبولٌ والبر ليس بمخصوص بالوالدين؛ بل ورد في الحديث قال رسول الله صلى الله عليه وسلـم «بر أمك ثم أباك ثم أخاك ثم أختك» [رواه الديلمي في «مسند الفردوس»].
وفي رواية: «بر والدك فولدك» وفي رواية: «بر ولدك»، وكذلك هذا من حيث الظاهر طاعة وبر من الفقراء لشيخهم ومن الشيخ لفقرائه، وليس قول النبي صلى الله عليه وسلـم في الحديث السابق: أينحني بعضنا لبعض؟ قال: «لا» بمقتض للنهي عن الانحناء كما أنه لم يقتضِ النهي عن المعانَقَةِ أيضًا فإنه نفيٌ وَقَعَ في جوابِ الاستفهام لا نهي، ونظير ذلك ما رواه الترمذي بسنده عن علي } قال: لما نزل: ﴿وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا﴾ [آل عمران: 97]، قالوا: يا رسول الله، أفي كل عام؟ فسكت. قالوا: يا رسول الله، أفي كل عام؟ قال: «لا» فإن قوله صلى الله عليه وسلـم «لا» في هذا الحديث جواب عن الاستفهام لا يقتضي النهيَ عن الحج في كل عام؛ بل معناه أنه ليس بواجب في كل عام وكذلك قوله صلى الله عليه وسلـم: «لا» في جواب من قال له: أينحني بعضنا لبعض؟ معناه ليس بمطلوب منه في وقت التحية والسلام؛ فتأمل وانصف يا أيها المنصف! فمن أنكر هذه الحالة على الفقراء مستخفًّا بهم وناسبًا الفسق إلى الحضور في مجلسهم بسبب ذلك الأمر؛ فإنه يكفر لاحتقارِهِ مجالِسَ الذَّاكِرِينَ من غيرِ محظورٍ شرعي، وقد وَرَدَ أن الملائكة تحف بهم في حال ذكرهم لله تعالى ولا تخصيص للذكر بكيفية دون كيفية بعد أن يكون خاليًا من المنهِيِّ عنه في الشرع، وهذا الذكر المولوي بالدوران مع التكلم باللسان خفية باسم من أسماءِ الله تعالى كما هو معروف بينهم ولو في البعض منهم دون البعض لا وجود لشيءٍ من المَنْهِيَّاتِ فيه أصلًا، كما قررناه لكل منصف فهو كما ورد في قوله صلى الله عليه وسلـم: «ما اجتمع قوم على ذكر فتفرقوا عنه إلا قيل لهم قوموا مغفورًا لكم» [رواه الحسن بن سفيان عن سهل ابن الحنظلية وذكره الأسيوطي في «الجامع الصغير»]؛ فإن التنكير في ذكر يقتضي العموم في أي ذكر كان، وبالله المستعان على ظهور الحق بين الإخوان.