مقدمة الناشر
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه، وبعد:
فإن هذا الكتاب نحمد الله سبحانه وتعالى أن وفقنا إلى طبعه ونشره، فهو -إن شاء الله – مما تثقل به الموازين يوم القيامة إن حسنت النوايا. وهو من كتب التصوف الذي هو في جوهره العمل بالعلم.
ذكر أن عمر بن الخطاب } أمضى عشر سنوات في حفظ سورة البقرة, وكان يمكنه أن يحفظها في يوم أو بعض أيام، ولكنه أراد ألا يتجاوز آية إلى ما بعدها حتى يتم العمل بالأولى، لأن مقصد الدين هو العمل بالعلم، بل العلم الذي لا يعمل به يكون وبالًا على صاحبه يوم القيامة.
والعمل بالعمل الشاق، تكتنفه عقبات وسدود ومن أشدها النفس.
فالنفس لا تريد إلا الدنيا ولا تعترف برب سواها، ولأنها تميل إلى الكسل والراحة والترف، وتعشق الشهوات، وتنفر من الطاعات، وتحب الشهرة والرياسة والعلو بين الناس ، وتسارع إلى التمرد على أوامر الله، فهي بحق أشد على الإنسان من الشيطان، بل ومن أى عدو آخر، لأنها لصيقة بالإنسان، متسلطة عليه، لذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم في حقها: أعدى عدوك نفسك التي بين جنبيك، ووصفها العارفون بأنها الحجاب الأعظم دون شهود الحق، لا يصل الإنسان إلى ربه وفيه بقية من نفسه.
ولقد أشتهر منهج التصوف -عبر العصور- بإنجازاته العظيمة في مجال تربية النفس وتزكيتها على منهاج النبوة، مما حدا بالأمام أبى حامد الغزالي أن يقول في كتابه المنقذ من الضلال: علمت يقينا أن الصوفية هم السابقون لطريق الله تعالى، وخاصة وأن سيرتهم أحسن السير، وطريقتهم أصوب الطرق، وأخلاقهم أزكى الأخلاق، بل جمع عقل العقلاء وحكمة الحكماء وعلم الواقفين على أسرار الشرع من العلماء ليغيروا ا من سيرهم وأخلاقهم ويبدلوه بما هو خير منه لم يجدوا إلي سبيلا، فإن جميع حركاتهم وسكناتهم في ظاهرهم وباطنهم مقتبسة من نور مشكاة النبوة، وليس وراء نور النبوة على وجه الأرض نور يستضاء به.. وبالجملة، فماذا يقول القائلون في طريق طهارتها –وهي أول شروطها- تطهير القلب بالكلية عما سوى الله تعالى، ومفتاحها الجارى منها مجرى التحريم من الصلاة استغراق القلب بالكلية بذكر الله وآخرها الفناء بالكلية في الله.
ولقد تربى الصحابة رضوان الله عليهم على يد خير البشر ومعلم البشرية الأعظم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بعد أن كانوا غارقين في ظلمات الجاهلية- خير القرون، لا يجود الزمان بمثلهم أبدًا. ثم تولوا هم تربية من بعدهم، فجاء جيل التابعين العظيم، والتابعون علموا وأدبوا من بعدهم، وهكذا جيل بعد جيل، يقيض الله سبحانه وتعالى لهذا الدين رجالًا يعلمون بالعلم، فيجددون ما خلق من الدين ويحيونه بين الناس، فلما عملوا بما علموا أورثهم الله علمًا لا تحويه صفحات الكتب، وظهرت على أيديهم الكرامات، وصاروا بين الناس منارات علم وهداية.
من هؤلاء كان شيخ الشيوخ أبو مدين } الذي كان في زمنه أكبر منار ببلاد (المغرب)، تخرج على يديه ألف شيخ، كلهم من أولياء الله الصالحين، وأظهر الله على أيديهم الكرامات، وفرقهم في ربوع الأرض ينشرون الهدى والنور، ومنهم كان الشيخ الأكبر محيى الدين بن عربي }
ولا تزال هذه الأمة بخير ما تلقى طلاب العلم فيها العلم والتربية على أيدى العلماء العاملين، أما إذا قل هؤلاء، واستغنى الطلاب عنهم بالكتب وحدها، يكن في الأرض فتنة وفساد كبير، وقد قال العارفون من قبل: من لا شيخ له فالشيطان شيخه. فقد يكثر المتكلمون بعلوم الدين، وتنشر كتب الدين بين الناس، ولكن يخبو نور العلم، ويقل العمل، وتختفي أخلاق الدين أو تكاد، وتكثر البدع وتعظم الدنيا بالقلوب ، لذلك جاء التوجيه النبوي الكريم للأمة كلها في قوله صلى الله عليه وسلم لابن عمر: «يا بن عمر، دينك دينك، إنما هو لحمك ودمك، فانظر عمن تأخذ. خذ الدين عن الذين استقاموا، ولا تأخذ عن الذين قالوا».
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يرد إلى أمتنا عافيتها، وأول عافيتها صلاح علماءها، فإنه نعم المولى ونعم النصير، وصلاة الله وسلامه دائما أبدًا على هادي الأمة، وكاشف الغمة، سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه، وسلم على المرسلين، والحمد الله رب العالمين.
الناشر