فصل : [وفاة الشيخ أبى مدين رحمه الله]
وهذا القدر كافٍ فيما تيسر لي من ذكر ما قصدت ذكره ليعلم منع بعض أخبار الشيخ أبى مدين رحمه الله الحميدة ومعانيه السديدة، ومقامه الكبير، وطريقه الشهير، وفضل من أتبعه وسلك تفريقه وجمعه.
ولما أشتهر أمره وشاع في الآفاق ذكره، سُعى به عند خلفاء بنى عبد المؤمن بمراكش، فأمر السلطان بطلوعه من بجاية إلى حضرته، وكتب إلى والي بجاية بالوصية عليه أن يُحمل خير محمل.
فأخذ الشيخ أبو مدين رحمه الله في السفر، وشق ذلك على كثير من أصحابه، وخافوا أن يكون وراء ذلك ما يغير النفوس، فقال لهم رحمه الله :شعيب شيخ كبير ضعيف لا قوة له للمشي، ومنيته قُدرت بغير هذا المكان ولابد من الوصول إلى موضع المنية، فقيض الله لي من يحملني إلى مكان الدفن برفق ويسوقني إلى مرام المقادير أحسن سوق، والقوم لاأراهم ولايروني فطابت نفوسهم وذهب عنهم بأسهم.
وارتحل به على أن وصل إلى تلمسان، فلما رأى (العباد) قال لرفقائه: ما يقال لهذا المكان؟ فقيل له : )العباد) فقال: مليح للرقاد.
هكذا أخبرني الشيخ المسن الصالح العدل أبو عبد الله محمد البجائي من عدول تلمسان. وبها حدثني سنة ثلاث وتسعين وسبعمائه.
وقال بعضهم: أنه قال: لاباس بالنوم في هذا المكان! وقال بعضهم: أنه توفى بـ (يسر) وهو وادٍ قريب من تلمسان وحُمل إلى العباد فاتفقت هناك منيته وشرفت تلك البقعة بتربته، وهذا خاتمة كراماته رحمه الله.
قال أبو علي الصواف رحمه الله تعالى:
لما أحتضر الشيخ أبو مدين استحييت أن أقول له: أوصني، فأتيته بغيري وقلت له:هذا فلان فأصه فقال: سبحان الله! وهل كان عمري كله معكم إلا وصية؟! وأي وصية أبلغ من مشاهدة الحال؟!
قال أبو علي الصواف : وسمعته عند النزع وهو يقول: الله ! الله ! الله ! حتى رق صوته([1]).
وقال بعضهم: آخر ما سمع عنه: الله الحي
قلت: وأياما كان فهى خاتمة حسنة ومرتبة علية مستحسنة، ظهر فيها صدق رسول الله >: ((يموت المرء على ما عاش عليه))([2]).
ذكرتك لا أني نسيتك لمحة |
* | وأهون ما في الذكر ذكر لساني |
وكدت بلا وجدٍ أموت من الهوى |
* | وهاج على القلب بالخفقان |
فلما رآني الوجد أنك حاضري |
* | شهدتك موجودًا بكل مكان |
فخاطبت موجودًا بغير كلام |
* | ولاحظت معلومًا بغير عيان |
وكانت وفاة الشيخ أبى مدين رحمه الله ورحمه في عام أربعة وتسعين وخمسمائة، وكان في ذلك اليوم محفل عظيم، ومشهد جسيم.
وفي ذلك اليوم تاب الصالح أبو علي عمر الحباك التلمساني([3]) وخرج عن دنياه، وكان يحدث بسبب ذلك فيقول:
حضرت جنازة الشيخ أبى مدين رحمه الله بالعباد، خارج تلمسان، فما رأيت أعز من الفقراء في ذلك اليوم ولا أذل من الأغنياء في ذلك اليوم - قال: قلت في نفسي إذا كانت هذه حالتهم في الدنيا فما ظنك بها في الآخرة؟!
قال: فدفعت أثوابي إلى فقيرٍ كان بجانبي، وأخذت مرقعته وحلقت رأسي ودخلت على أهلى، فصاحت زوجتي فقلت لها: إن لم توافقيني فعديني ميتًا، ثم غبت عنها مدة، فبينما أنا أمشي في طريق من طرق تلمسان، وإذا بزوجتي ومعها خادمه وبنتي على عنق الخادم، فقالت لي نفسي: تنح عن الطريق لئلا تغير قلبها وتجدد عليها ألمها، ثم خالفت نفسي وقهرتها وأخذت خبزة من عند الخباز وتعرضت لزوجتي وقلت: من يشتري لي هذه الخبزة لله تعالى؟ فلما تحققني أنصرفت مسرعة فرددت الخبزة للخباز.
ومازال أبو علي الحباك هذا يترقى إلى أن صار من عباد الله الصالحين المشهورين، وتوفى رحمه الله عام ثلاثة عشر وستمائة.
قلت: وقبر الشيخ أبى مدين رحمه الله بالعباد معهود مشهور، وحوض للزائرين. رأيت من قبور الأولياء كثيرًا من تونس إلى مغرب الشمس ومنتهى بلد آسفى فما رأيت أنور من قبره ولا أشرق ولا أظهر من سره وليس الخبر كالعيان . والدعاء عنده مستجاب، قاله الأعيان.
وقد وقفت على ذلك غير ما مرة وأخبرني به من جربه وأختبرته.
زرته مرارًا ورأيت له أسرارًا، فمنها زيارتي له مع أمير المؤمنين المتوكل على رب العالمين أبى العباس ابن الأمراء الراشدين، وذلك في سنة إحدى وستين وسبعمائة في وجهته من المغرب إلى بلد قسنطينة، وكان مما عاهد الله به عند قبره في ذلك اليوم: أن من وصله بأذى فلا يجازيه به.
وآخر زياراتي له عند اجتيازي عليه في ارتحالي من المغرب إلى بلد قسنطينة وذلك في سنة ست وسبعين وسبعمائة. وفي هذه السنة كانت المجاعة العظيمة بالمغرب، وعم الخراب به. فوردت تلمسان والحالة هذه وأقمت بها أقرب من شهر غير واجد للطريق، وكان وزيرها إذا استشرته في الخروج منعني وتبرأ مني، فكثرت على النفقة، وبلغت المعينة منها فيما لابد منه لعيالنا ومن تعلق بنا أربعة دنانير ذهبًا في صبيحة كل يوم، دون المزية العظمى واليد الكبرى التي يجعل علينا من يبيع لنا الطعام، فلجأت إلى قبر الشيخ أبى مدين وركعت هناك ما قدر لي، ثم قرأت جملة من القرآن وأخذت في التسبيح والتهليل في نفسي ساعة حتى رق قلبي واجتمع خاطري، فاستغفرت الله تعالى وصليت على النبي صلى الله عليه وسلم ثم قلت: ياسيدي أب مدين نحن أضيافك، وقد نزلنا بجوارك، ولنا معك وسيلة عهد سند متصل قريب غير منفصل، والغرض تيسير الانتقال والحفظ في كل الأحوال. اللهم إنا نتوسل إليك بأنبيائك وأوليائك، يسر لنا في ذلك ياقريب، ياسميع الدعاء ياحي ياقيوم ياذا الجلال والإكرام! وكررت الدعاء مرارًا وصليت على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم. وحمدت الله وأنصرفت، فيسر الله تعالى علي فيما طلبته ووقع ما أملته.
وارتحلت بعد أيام يسيرة، ورأيت في طريقنا من إنقلاب الشر خيرًا ما كان يتعجب به من شاهده.
وكان أمر الطريق في الخوف والجوع ما مقتضاه: أن كل من يقع قدومنا عليه يتعجب في ووصلنا سالمين ثم يتأسف علينا عن ارتحالنا، حتى أن منهم من يسمنا ضرب الأكف تحسرًا علينا، وانتهى سفرنا على وفق اختيارنا والحمد الله. وذلك عندنا معهود من كرامات الشيخ أبى مدين رحمه الله والدعاء عند قبرهه مستجاب.
وقبره في بيت صغير بجنبه نحو القبرين، أحدهما في غالب ظني: الخديم بلال، وغُلف على جملتهم بالألواح دفعًا لمن يريد الدفن والله أعلم.
وأما قبر الشيخ من بين هذه القبور: فهو أنك إذا دخلت البيت فارجع على يمينك مستقبلًا، فالذي يقع على يسارك هو قبره. وهذا المكان عادة الداخل أن يتنفل فيه، وهو مكان مصلى واحدٍ، فإذا انتقلت فاستند إلى القبلة بانحراف وظهرك في ركن الجدار، وسلم حينئذ على الشيخ من غير تقبيل وقل: جزاك الله خيرًا عن إجتهادك في نفسك وفيمن تعلق بك من تلامذتك ورحمك ونفعك بعلمك وطاعتك ونفع بك. ثم تقرأ ما تيسر وتذكر من الذكر ما تيسر، ثم تدعو بما شئت، وإن تيسرت لك صدقة للضعفاء والمساكين الملازمين على الباب فادفعها، فإن كان أحد يريد الزيارة فخفف وإلا فاجلس ما شئت إلى أي وقت.
ومن الفقراء من يبيت هنالك. وتحت هذا البيت وبجواره قبور كثيرة متزاحمة لالتماس بركة الشيخ أبى مدين رحمه الله زاويته قريب منه. ولها أوقاف يجرى من ذلك على المنقطعين للعبادة وبجواره جامع للخطبة ومدرسة للعلم.
(والعباد) منظر شريف وبقعة مباركة، وطئها الصالحون وسكنها المتعبدون، وفي داخل المصر رابطة التونسي -نفع الله به- وهو أبو محمد عبد السلام التونسي([4]) وأخذ عن عمه عبد العزيز([5]). وعبد العزيز هذا من الفقهاء ومن أهل الزهد في الدنيا، وقرأ على الشيخ أبى عمران الفاسي([6]) المدفون بالقيروان -نفع الله به- وقرأ أيضًا على الشيخ أبى إسحاق التونسي([7]) وغيرهما ودخل الأندلس وأستقر بأغمات، وهناك وقفت على قبره سنة وثلاث وستين وسبعمائة. والناس يزورونه.
ورأيت بأغمات صلحاء أخيارًا. وكانت وفاة عبد العزيز التونسي سنة ست وثمانين وأربعمائة، وكان مدرسًا بأغمات وأنتفع الناس عليه، ولما رأى جملة من تلامذته نالوا بالفقه الخطط ترك التدريس، وقال: صرنا بتعليمنا لهم كبائع السلاح من اللصوص([8])، فاشتغل بالسياحة ثم رجع إلى تعليم علم التصوف مدة، فزار يومًا بعض إخوانه، فوجد امرأة على باب فاستأذن ودخل، فوجدهم يأكلون الخبز ويشربون اللبن من القربة، فسألهم عن المرأة. فقالوا له: هى صاحبة القربة، أشترينا منها لبنًا بشعير ولم يحضر الأغناء فأردنا الشرب من القربة، فسألهم عن دفع الشعير. فقالوا: له إذا أخرجنا القربة نخرج الشعير، قال: سبحان الله! كرهنا لكم الفقه لما ينال به من مراتب الدنيا، فضيعتم معرفة الحلال والحرام! هذا الذي فعلتم ربا لأنه طعام بطعام متأخر. فعاد إلى تدريس الفقه، وكان ابن أخيه عبد السلام الذي بـ (عباد) تلمسان ساح معه ونال من بركته . ولم يكن عبد السلام بن مخلوف وأخوه محمد من تلامذة الفقيه أبى الفضل ابن النحوي([9]) صاحب القصيدة الجيمية التي أولها:
اِشتدى أزمة تنفرج |
* | قد آذن ليلك بالبلج |
وظلام الليل له سرج |
* | حتى يغشاه أبو السرج |
وسحاب الخير لها مطر |
* | فإذا جاء الإبانُ تجى |
فاعترضنا على عبد السلام في كلامه وناظراه، وكان لهما معرفة بالمناظرة فدعا الله تعالى عليهما فماتا في جمعة واحدة([10]).
وأبو الفضل المذكور أدركه الشيخ أبو الحسن ابن حرزهم وهوغير وتبرك به ودعا له ونال من بركاته، وحمد الله تعالى والده على ذلك وقال له: ياولدي حدث عندك بدعاء أبى الفضل سر لم أعهده فيك.
وحكى بعضهم: أن ابا الفضل هذا أحيا ليلة بسجدة يدعو فيها على ابن دبوس قاضي مدينة فاس وخرج مسافرًا، فخرج ولد هذا القاضي في جملة من شيعه فقال: ياولدي أرجع تحضر جنازة والدك فتعجب ورجع فسمع الصراخ في الدار فسأل فقالوا له: توفى والدك([11]).
وكان أبو الفضل هذا يعتني بالإحياء كثيرًا ويقطع نهار رمضان بمطالعته، وأفتى لمن أكره على اليمين في أن الإحياء ليس هو عنده في الزمان الذي أُمر بجمعه وإحراقه إلا حنث عليه([12]). وانتصر الغزالي فسمع بذلك الغزالي. فسره وشكره على ذلك، وشرق أخوه فسمع به الغزالي فهيأ له ضيافة عظيمة يظن أنه أبو الفضل. وتوفى أبو الفضل يوسف بن محمد بن يوسف ابن النحوي بموضع قلعة بني حماد سنة ثلاث عشرة وخمسمائة.
وحدثوا عن عبد السلام التونسي أنه كان يعمل بيده في أرضه، فقصده والي تلمسان للتبرك ، فنزل عن فرسه، ففرش له فتاه برنوسه يجلس عليه. فقال له عبد السلام: (ما هذه الأخلاق؟) أين تجد إذا برنوسًا تجلس عليه؟ فاستحيا وقام وجلس على الأرض([13]).
وكانت لعبد السلام أحوال عجيبة. وبلغ الغاية في الزهد والتقشف، وكان إذا صلى الجمعة بتلمسان حبسه الناس عند الخروج للدعاء زمانًا طويلًا واحدًا بعد واحدٍ، ورابطته بالعبادة معروفة.
فهذا ما تيسر لي من ذكر الشيخ ابى مدين رحمه الله وذكر من اجتلبه الذكر بسببه.
(1)أصله من تونس، صحب عمه عبد العزيز التونسي بأغمات، فلما مات عمه بها نزل إلى تلمسان وبها توفى ودفن بالعباد، كان عارفًا بالمسائل، زاهدًا في الدنيا متقشفًا، قويًا في الحق مغلظًا على الأمراء، لا يخاف في الله لومة لائم. انظر التشوف ص110، والإعلام بمن حل بمراكش من الأعلام (8/470).
(2)هو: أبو محمد عبد العزيز التونسي، أصله من تونس، أخذ الفقه عن أبى عمران الفاسي، وأبى إسحاق التونسي، وتوفى بأغمات سنة 486هـ. انظر التشوف ص92.
(3)هو: أبو عمران بن عيسى بن أبى حاج الفاسي، أصله من مدينة فاس ونزل القيروان فأخذ عن أبى الحسن القابسي، ثم رحل إلى بغداد فحضر مجلس القاضي أبى بكر ابن الطيب، ثم عاد إلى القيروان ومات بها سنة 430هـ. انظر التشوف ص87، وترتيب المدارك (4/702).
(4)هو: الفقيه الجليل إبراهيم بن حسن بن إسحاق، كان مرسًا بالقيروان، توفى سنة 437هـ. انظر ترتيب المدراك (4/766).
(1)هو: يوسف بن محمد بن يوسف أبو الفضل المعروف بابن النحوي كان من أهل العلم والفضل وعلى هدى للسلف الصالح . توفى سنة 513هـ. انظر التشوف ص 95، ونيل الابتهاج ص383.