فصل : [طوائف الصوفية بالمغرب] وأولياؤها الصالحون
وقد سألت عن جملة الطوائف التي هى بالمغرب الأقصى في الأرض التي تنبت الصالحين كما تنبت الكلأ، فوجدتها متعددة باعتبار تعدد الأشياخ. وأقرب ما ترجع إليه ستة:
الشعيبيون: وهم طائفة أبى شعيب آزمور من أشياخ الشيخ أبى يعزي.
والصنهاجيون: من طائفة بني آمغار من بلد تيطنفطر من أقران أبى شعيب.
والماجريون: وهم طائفة أبى محمد صالح، ومنهم الدكاليون.
والطائفة الرابعة الحجاج: أي لا يدخل في جمعهم إلا من حج بين الله الحرام. وقد دخلت دار شيخهم وتمتعت بلقائه وأغتنمت فضيلة دعائه.
قصده شاب منقطع للعبادة -ذكر له أنه ابن زفان([1]) – وطلبه في مكان يأوى إليه وحده، فأعطاه غرفة على باب داره وأتاه بالطعام بعد صلاة المغرب، فقال له: ياسيدي أرفعه عني فإن قوتي بعد أربعين يومًا، وبقى على المدة كذا وكذا.
ورأيت عند هذا الشيخ غرائب وعجائب.
والطائفة الخامسة الحاحيون: ومنهم جملة من جبل درن وهو الجبل العظيم الذي ليس على وجه الأرض مثله في الأرتفاع والمياه والخصب، وقد دخلت أكثره وكأن العالم الأرضي بأسره منحصر فيه، وهو من عجائب الدنيا. وأعظمه قبلى مراكش.
وهذه الطائفة الخامسة طائفة الشيخ الحاج الشهير أبى زكرياء يحيى بن أبى
عمرو عبد العزيز بن عبد الله بن يحيى الحاحي، ويقال إنه من آل بيت النبي الكريم، وشرفه غير ظاهر بين الناس في المغرب، وإنما أنتسب أحفاده إليه. وقبره بتيغزا من بلاد حاحة. ولم أصل إلى ذلك المكان، وبقى بيني وبين تيغزا في وجهة غريبة بانحراف إلى القبلة عن مراكش نحو المرحلة فأراد الله بالرجوع.
والموضوع موضع خير، وعلوم وقراءة وتدريس، وكذلك الموضع القريب منه المعروف بآدقى (بالقاف المشددة) وأكثر اعتناء الحاحيين بالتهذيب والفرائض والحساب.
ولم أذكر تاريخ وفاة الشيخ أبى زكرياء يحيى، إلا أن ظهوره كان في آخر المائة السابعة، ووفاة الشيخ أبى مدين أو الشيخ([2]) أبى محمد صالح فغير صحيح لبعد الزمنانين. وأحفاده وأصحابه يقولون شيخه أبو القاسم البكري، وشيخ بكري أبو سعيد، وشيخ أبى سعيد الشيخ أبو مدين. بينه وبين أبى مدين شيخان. هذا قول المحققين من أحفاده وطائفته وغير ذلك ملغي. وقد رأيت من رأي من آراه.
وكان لأبى زكرياء هذا عند الجمهور قبول تام، وله في الفقر كلام حسن وتحقيق وتدقيق ووصايا حسنة بكلام لا يصدر إلا عن عالم أو ولي.
وكذب أكثر الناس خصوصا العلماء انفراده بالأحوال في طريقته. وتغالى الجهلة من تلامذته في تعظيمه وتحقيقه، وشدة اقتدائهم بجزئياته، وتغليظه وترقيقه، وقوة انقباضهم عمن خرج عنه في تغريبه وتشريفه أو ركن إلى غيره في ألمعيته وجمعه وتفريقه. وهذا هو موجب ضلال جهلتهم، وهو السبب فيما صدر عن العلماء في مشيختهم. وفي طائفته أخيار صلحاء، فلا تظن الناس كلهم سواء.
وقد دخلت (تانشناشت) وهى موضع فريق من حفدته في أحواز مراكش، سنة ثمان وستين وسبعمائة. ولقيت بها أخيارًا، ورأيت فيها شيخًا كبيرًا منقطعًا في مغارة للعبادة، والناس يتبركون به، ولا ينصرف أحد حتى يناوله سماطًا من تحت رأسه. وأفضل الحفدة حينئذ الشيخ الصالح الفقيه أبو الحسن علي بن عبد الله بن أبى موسى بن أبى زكرياء، ويعرف بابن الشيخ. دخلت داره وأقمت عند واستحسن عشرتي، وما كاد يطلقني. ورايت له دراية لكتاب ابن الحاجب في الفقه، وما رأيت في الظاهر ما أنكره بوجه.
وكان هنالك حينئذ طالب يدعو على ظالم بعقب كل ختمة يختمها. أخبرني الشيخ أبو الحسن هذا أن معه على ما أخبره ستمائة ختمة. وكان ذلك الظالم في أشد صولته. وكنت أرقب عاقبته حتى علمت عن قربٍ إنه سجن وقتل نفسه -والعياذ بالله- في السجن بالخنق. وأخرج ودفن من غير أن يصلى عليه أحد من المسلمين، ولم يحضره إلا من حمله وحده.
وأما الطائفة السادسة فهم الغماتيون: وهم طائفة الشيخ الولي الشهير أبى زيد عبد الرحمن الهزميري([3]) ولهم أخوة محدثة بطائفة أبى زكرياء،وسائر الطوائف لهم أخوة بطائفة أبى محمد صالح. وقبر أبى زيد داخل باب الفتوح من أبواب مدينة (فاس) في روضة الأنوار بإزاء جامع الصابرين. وقد أدركت كثيرًا ممن أدركه.
أخبرني بعض شيوخ عدول مراكش أنه رآه على ظهر بهيمته، وهو على جنبه وقد شد عليها بشريط لضعفه وكبر سنه، والناس يتزاحمون عليه ويمسحون وجوههم بطرف ثوبه ويجذبه كل واحد منهم إليه، والخدمة به دائرون. وكان أعجوبة في زمانه. يتحدث دائمًا على ما في ضمائر الناس ولا يعين أحدًا بالفضيحة وأنه يقول: مثل رجل فعل هذا في مكان كذا.
وأخبرني شيخ أشياخنا في (المعالم السماوية والمسائل الحسابىة) الشيخ الإمام الصالح أبو العباس أحمد بن محمد ابن عثمان البناء([4]) العددي المراكشي، وكانت وفاته في عام واحد وعشرين وسبعمائه، أنه مازال يقصده في حل المسائل العلمية التي تشكل عليه من الهندسة وغيرها.
قال: ومازلت أمضي إليه فأجد الإزدحام عليه، فتسمع جوابى في طرف الحلقة وننصرف من غير سؤال مني إليه.
حدثني غير واحدٍ ممن لقيت من الأعلام: أن انتفاع ابن البناء في علومه ومنزلته الدينية والدنياوية؛ إنما كان من بركة الهزميري لأنه بلغ في دينه النهاية وفي دنياه الغاية.
حدثني قاضي الجماعة بمراكش: الشيخ الفاضل المتخلق الحافظ لسيرة
رسول الله صلى الله عليه وسلم، أبو زيد عبد الرحمن القيسي([5]) ويعرف (بطالب عافية) أنه أراد أن يقرأ عليه علم العروض، قال لي: ولا دريت هل له معرفة به أم لا. وفكرت في نفسي كيف سؤالي عن ذلك، فدخلت عليه وهو في حلقة العلم، وأنا في قلقٍ من ذلك؛ فجلست ثم سمعت وقد رفع صوته وهو يقول: مثل ما يقول العروضيون كذا وتكلم في فن العروض. فعلمت أنه معي. ومازال رحمه الله، يحدثني بهذه الحكاية وتدمع عيناه في أثنائها. وهذا الشيخ أول من قرأت عليه فن المنطق بمراكش وكان من الفضلاء.
وحضر في مجلس علمه طالب أعرفه. فصار يعترضه وقول: كفر هذا الشيخ في كذا؛ فخرج في عمالة سلطانة وخرج معه عدوي يبلغه إلى المكان الذي خرج إليه ويعلمهم به على عادتهم في تنفيذ أوامرهم، فلما كان في مفازةٍ من الأرض المراكشية أصابه مات منه. فنظر المراكشي العدوي في أمره وبعد العمارة منه، فأتى به إلى مزبلة دارٍ خربةٍ وشق حفرة بركيز مزراقه ودفنه هنالك من غير غسل ولا صلاة. فلما بلغ خبره لهذا الشيخ قال: لا إله إلا الله، رجل استهزأ بالناس، فستهزأ الموت به.
وحدثني قاضي الجماعة بفاس، الفقيه المرحوم أبو محمد عبد الله الأوربي وهو ممن رأى الهزميري قال لي:خرج أبو عبد الله الكومي المراكشي في قافلة يومًا قاصدًا إلى زيارة الفقية أبى عبد الله البقوري([6]) مكمل إكمال المعلم قال: فدخلت عليه فوجدته بين كتبه على التراب، وعليه مرقعة غليظة وعرقه يقطر، فجلست عنده ساعة ثم خرجت إلى زيارة ابن البناء، فخرجت صويفة خماسية([7]) قالت: من هذا؟ قلت: قل له: الكومي. فأعلمته وأّن في دخولي، فوجدته فيه قبة رياضه الذي أحدث بناءه بمراكش، وعليه ثياب كتان من عمل تونس، وفي القبة أقطعة ومخايد([8]) وعليها حجاب حسن، فسلمت عليه وجلست، فنادى الخادم وأشار إليها، فقدمت آنية بالسكر وأخرى بالبطيخ فقال لي: أدن فدنوت وقلت في نفسي: سبحان الله كيف تركت البقوري وكيف وجدت هذا الرجل؟ فقال لي: اسكت ودع الفضول، لو كان البقوري في هذا المقام وأنا في مقامه لاختل حال كل واحدٍ منا.
وكان الكومي من الفضلاء المشهورين بمراكش بالخير والصلاح، وحدثني أيضًا هذه الحكاية شيخنا الفقيه الثعالبي أبو عباس المراكشي الشماع بفاس المحروسة بالمدرسة التي يؤم فيها بالطاعة من البلد المذكور، وقال لي: أنتفع بالخزميري كثيرًا.
وكان شيخنا في العلوم السماوية الشيخ الفقية أبو زيد عبد الرحمن([9]) اللجائي، وهو ممن قرأ عليه والدي، كان يشدد على درس الفقه والأخذ بطريقته لأن والده من فقهاء فاس، وهو أبو ربيع اللجائي من تلامذة القرافي، وهو أول من أدخل مختصر ابن الحاجب في الأول إلى المغرب وعنه أخذ. قال لي:
رأيت في النوم أني صعدت إلى السماء وأنا أقلب النجوم واحدًا بعد واحدٍ
فأبتهجت وأعلمت والدي من ساعتي فسكت، فلما أصبح ناوليني نفقةً وقال لي: اخرج إلى مراكش وأقصد ابن البناء واطلبه في علومه. ففعلت.
وكان اللجائي آية في فنونه، ومن بعض أعماله: أنه أخترع اسطر لابًا ملصوقًا في جدار والماء يدير شبكته على الصفيحة، فيأتي الناظر فينظر إلى ارتفاع الشمس وكم هو وكم مضى من النهار، وكذلك ينظر ارتفاع الكواكب بالليل. وهو من الأعمل الغريبة. وقد وقفت عليه زمان قراءتي بين يديه. وقال لي: ما وجدت إلا بركة ابن البناء وما وجد ابن البناء إلا بركة الهزميري.
وقد ألف بعض فقهاء مراكش وهو الفقيه المقرئ أبو عبد الله ابن تيجلات([10]) -رحمه الله- كتابًا حسنًا في فضله وفضل أبى عبد الله أخيه.
وحدثنا الثقات أنه كان يومًا في مجلس إقرائه يتكلم في مسألة، فتكلم رجل من طرف الحلقة فيها معه، فلم يجبه والرجل لا يعرف، وعليه مرقعة ونظر إليه الحاضرون نظر استهزاء، فقال له الرجل: يافقيه أدرك أمك، فقد حضر أجلها ثم قام وطار في الهواء، فعجب الحاضرون من ذلك، وقام ضجيج في المجلس ، وغشى على الشيخ ساعة وأنصرف إلى منزله، فوجد أمه منتظرة إليه -وكانت من الصالحات- فقالت له: ياولدي: حضر أجلي وأردت حضورك عن الدنيا، وانتقطع إلى الله تعالى وبلغ أمله في مقامات الأولياء، وجاهد مالم يجاهد غيره. فمن مجاهدته: أنه أمر
ببناء باب البيت عليه وأنه لايحل عليه إلا بعد ستة أشهر، ولم يدخل معه غير الماء وحده، وسئل بعد خروجه عن حاله، قيل له: كيف كنت في هذه المدة؟ فقال: كالميت، إلا أني أجد قوة عند الصلاة.
وببلد آغمات وقفت على قبر أبى عبد الله هذا، والناس يتبركون به ويتزاحمون عليه.
وتوفى الشيخ أبو زيد عبد الرحمن الهزميري -نفع الله به- في حدود سنة ست وسبعمائة. والدعاء عند قبره مستجاب، وإلى الوسيلة بقبره يلجأ من حدث به كرب هنالك، وسميت روضته: روضة الأنوار؛ لأنها جمعت من الأولياء الله تعالى كثيرًا، وهو في وسطهم. وآخر من دفن فيها في غالب ظني، الشيخ الصالح الشهير أبو العباس أحمد المكناسي شيخ الغماري الذي أخذ عنه والدي -رحمه الله- رواية نافع في القراءة وحدثه ابن([11])[...] برجز ابن بري([12]) عنه عن مؤلفه هكذا وقفت عليه بخط والدي، رحمه الله، في حدود سنة سبع وأربعين وسبعمائة. وقبره يتبرك به.
ورأيت بعض من يعيش بالحرام أخذ في تجديد قبر الشيخ أبى زيد الهزميري -رحمه الله ونفع به-فنهيته وقلت له: سألتك بالله ألا تكدر عليه-! فأبى وجدده بالجير، فبعد مدة ضربه السلطان ونزع ما بيده من االمال، وندم على ما فعل بعد ما كلمته به، ودثر ما نع على قبره ولم يبق له أثر.
وسبب حركته من آغمات: قضاء حاجة يطول شرحها من السلطان أبى
يعقوب المرني وهو في حاره العظيم لتلسمان بعد سبع سنين هذا ظاهر أمره، وفي الباطن يريد أن يرفه عن ذلك الحار، ويكفه عما أنتهى إليه المحورون من الشدة،لأنه بلغ ثمن الدجاجة عشر دنانير من الذهب للقوت لا للدواء، وكان للفأر ثمن معتبر لا أذكره الآن. فلم يقبل منه فرجع إلى فاس ونزل بجامع الصابرين، وهو موضع مبارك ياوى إليه أهل الفضل والصلاح. فبعد أيام قتل السلطان أبو يعقوب وغرب جيشه بسلطان آخر، فقال له خديمه: ظننا منه أنه ما أقام إلا ليرغب الله الفرج: مات السلطان أبو يعقوب ففرج الله على تلمسان فبسم الله تأخذ في الحركة فقال له: وعبد الرحمن يموت بتشديد الميم –يعني بعبد الرحمن نفسه - فمات بعد أيام يسيرة، ودفن هنالك -رحمه الله ونفع به-.
وقد أخذت طريقته عن ولي الله تعالى الحاج أبى العباس الدكالي عن ولي الله تعالى أبى زكرياء يحيى الغماري عن الهزميري نفع الله بهم.
وكان يقول: نشفع في كل شيئ إلا في الموت.
وتنازع الفقهاء بمراكش في الحوض والصراط أيهما يسبق؟ فلجأ أحدهم إليه، قال: فلما سألته نظر إلى السماء واتسعت عيناه اتساعًا عظيمًا ثم قال: الجنة، الميزان، الحوض. ويشير بأبعه إلى السماء، قال: فأعلمت بعض الفقهاء بذلك فبكى وقال: ليس الخبر كالعيان.
وكانت له أحوال عجيبة. قال لي بعض الصالحين: ما أظن أن يكون أحد بعده كحاله في طريقته وعجائبه.
(1)كذا بالمطبوعة والمخطوطة، وزفان في اللغة بمعنى رقاص من الرقص، والمعنى أن بيئة والده بيئة لهو وعدم انضباط، وهذا الشاب يريد سلوك الطريق إلى الله عز وجل بعيدًا عن هذه البيئة.
(1)كذا في المطبوعة والمخطوطة، ويبدو أن هنا ثمت سقط وتقديره هكذا حتي يستقيم المعنى:إلا أن ظهوره كان في آخر المائة السابعة ووفاة (الشيخ أبى مدين في آخر المائة السادسة والقول بلقائه) الشيخ أبى مدين أو الشيخ محمد صالح فغير صحيح لبعد الزمانين.
(1)هو عبد الله محمد بن إبراهيم البقوري، نسبة إلى بقورة بلاد بالأندلس، الإمام العلامة القدوة المحقق، توفى سنة 707هـ، من تصانيفه: إكمال الإكمال على صحيح مسلم، انظر: شجرة النور (1/211).
(4)هو عبد الرحمن بن سليمان اللجائي أبو زيد، توفى سنة 773هـ انظر وفيات ابن قنفذ ص369 ، ونيل الابتهاج 168.
(1)هو: محمد بن عبد الله المراكشي، والمعروف بابن تيجلات الأغماتي، كان حيا بعد سنة 720هـ، واسم الكتاب: إثمد العينين في مناقب الأخوين راجع الروض العطر ص208، والإعلام (8/291).
(2)ابن بري هو: علي بن محمد بن الحسن الرباطي المعروف بابن بري، عالم بالقراءات من أهل تازة، ولد سنة 660هـ، وتوفى سنة 730هـ له (الدرر اللوامع في أصل مقرأ نافع) وهى أرجوزة في القراءات، ولقيت من الزيوع في شمال أفريقية مثل مالقى كتاب (الآجرومية). انظر الأعلام للزركلي (5/5)، ودارة المعارف الأسلامية (1/96).