السؤال الثامن عشر
(س) لماذا الاهتمام بصناديق النذور بحيث يندر أن نجد ضريحًا كبيرًا ليس به صندوق نذور؟
الجواب:
النذر في ذاته مشروع، وإن كان لا يرد قضاء فالله يقول ﴿وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ﴾[الحج:29]ومدح قومًا فقال:﴿يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا﴾[الإنسان:7] ويقول﴿وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ﴾[سبأ:39] وقال صلى الله عليه وسلم: «مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ، وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَ اللَّهَ فَلاَ يَعْصِهِ»([1]).
والنذر قديم في الشرائع السابقة كما جاء عن مريم وأمها في سورة (آل عمران)([2]).
والنذر أصلًا لله (ومن نذر لغير الله فقد أشرك) يعني عمل عمل أهل الشرك، وإن لم يخرج من الملة، فإذا اتضح هذا التأصيل، كان لا بأس بأن تجمع النذور بطريقة واعية، لتصرف على أهلها، وعلى وجوه الخير، التي تعود على المسلمين بالأهدى والأجدى، وتعود على من كان سببًا فيها وعلى فاعلها بالأجر والمثوبة.
(س) لكن هل أسلوب جمع النذور وتحصيلها، وصرفها الآن يتناسق مع المقصود منها؟
الجواب:
هذا تسأل عنه الدولة، فلوائح صناديق النذور تكاد تحصر حصيلتها في كبار موظفي المساجد، وأعضاء لجان الحصر، إلا ما عسى أن يزيد من مقررات أولئك جميعًا، فهو يعود إلى وزارة الأوقاف، وليس كذلك مراد الناذر، ولا مراد الشارع، ولا مراد رجل الشارع، بل يتعين وضع النذر في موضعه الصحيح!.
وعندما يكون الناذر جاهلاً، فيقول مثلًا: هذا النذر للسيد البدوي، أو السيدة زينب، أو غيرهما، فعلينا أن نعلمه أن يقول: «النذر لله، وثوابه للبدوي أو السيدة» ، أو نحو ذلك، ولا نرميه بكفر ولا شرك؛ فمراده صحيح، وتعبيره خطأ.
ولنتذكر أن سيدنا (سعدا) ت عندما حفر بئره المعروفة، قال: (هذه لأم سعد) ولم ينكر عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا الصحابة؛ لصحة قصده.
وانتظام هذا التعبير مع علوم اللغة العربية سليم، فهو في اللغة على حذف مضاف تقديره (هذه لرب أم سعد)، فالقائل (هذا للسيد البدوي) أو للسيدة، أو للحسين – يريد أنه (نذر لرب السيد، أو السيدة، أو الحسين) وإن لم ينطق بلسانه،كما حدث تمامًا من سعد بن أبي وقاص، وإنما الأعمال بالنيات، لا بالكلمات.
كلمة أخيرة: لقد أتعبتني يا كمال([3]) يا ولدي– وطوفت بي هنا وهناك، وقد طاوعتك رجاء تصحيح بعض المفاهيم لوجه لله. وقد أجبت (بغاية الاختصار) على ما سألت من أسئلة، بعضها يحتاج إلى سعة كبرى في الوقت والبيان، والدليل والتعليل، وقد أكون مصيبًا أو مخطئًا في حكم أو في أحكام وما أبرئ نفسي، ولا أزكي على الله أحدًا، وهذا شأن البشرية ﴿وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا﴾ [النساء:82] – وأنا أسجل رأيي، ولا أحمل أحدًا عليه، كما لا أقبل أن يحملني أحد على رأيه؛ فهذه فروع اجتهادية، تختلف فيها الأنظار والأفكار. وستبقى كذلك إلى يوم القيامة، وليس على الأرض من يسجل قولًا وهو يظن أنه يدخل النار به.
فأسأل الله أن يجعل لي ما كسبت من صواب، وأن يغفر لي ما اكتسبت من خطأ هو قطعًا غير مقصود، وهو الغفور الودود.
وبهذا أكون قد أجبت على أهم ما سألت، مما ينفع الناس ويمكث في الأرض إن شاء الله، ومنه يظهر بكل الوضوح: أنه ليس هناك خلاف بين الصوفية وبين غيرهم من أهل السنة، إلا في بعض صور الفهم، وتحليل المضامين التي جعلت الصوفية يهتمون بالقلوب والتربية والأخلاق، والاعتصام بمقامات التسامي والربانية؛ فالتصوف مذهب إسلامي أصيل، من مذاهب أهل السنة التي لابد منها للحياة الصحيحة.
وإذا كان الصوفية يدعون إلى الأخلاق وبناء داخل الإنسان بعد أن تهدم وتحطم، فهم إنما يعملون غاية ما يجب على الإنسان لاستعمار الأرض والاستخلاف عليها، وتنقية الحضارة من أوزارها وأوضارها، واستقرار الأمة بأفرادها على ما لو لم يكن لهلكت، وها نحن قد جربنا، وضرب الله الأمثال، وليس بعد الحق إلا الضلال، ونستغفر الله، ونتوب إليه.
([2]) وهو قوله تعالى عن أم السيدة مريم عليها السلام أنها قالت: ﴿إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا﴾ [آل عمران:35]، وقول مريم عليها السلام: ﴿إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ اليَوْمَ إِنْسِيًّا﴾ [مريم:26].