الباب الرابع - في علمه وزهده وورعه ورفع همته وحلمه وصبره وسداد طريقته
كان } لا يُتَحَدَّثُ معه في علم من العلوم إلا تحدث معك فيه، حتى يقول السامع له: «إنه لا يحسن غير هذا العلم»؛ سَيَّمَا علم التفسير والحديث، وكان يقول: «شاركنا الفقهاء فيما هم فيه، ولم يشاركونا فيما نحن فيه»، وكان كتابه في أصول الدين «الإرشاد»، وفي الحديث كتاب «المصابيح»، وفي الفقه «التهذيب» و«الرسالة»، وفي التفسير كتاب ابن عطية.
ولقد كان يقرأ عليه بعض المغرقين في العربية فيرد عليه اللحن، وأما علوم المعارف والأسرار فقطب رحاها، وشمس ضحاها، تقول إذا سمعت كلامه: «هذا كلام من ليس وطنه إلا غيب الله»، هو بأخبار أهل السماء أعلم منه بأخبار أهل الأرض.
وسمعت أن الشيخ أبا الحسن قال عنه: «أبو العباس بطرق السماء أعرف منه بطرق الأرض».
كنت سمعته لا يتحدث إلا في العقل الأكبر، والاسم الأعظم وشعبه الأربع، والأسماء والحروف، ودوائر الأولياء، ومقامات الموقنين والأملاك المقربين عند العرش، وعلوم الأسرار، وأمداد الأذكار، ويوم المقادير، وشأن التدبير، وعلم البدء، وعلم المشيئة، وشأن القبضة، ورجال القبضة، وعلوم الإفراد، وما سيكون يوم القيامة من أفعال الله مع عباده من حلمه وإنعامهْ، ووجود انتقامهْ، حتى لقد سمعته يقول: «واللهِ لولا ضعفُ العقول لأخبرت بما يكون غدًا من رحمة الله».
وإن تنزل إلى علوم المعاملة ففي الزمن اليسير لجاجة الخلق إلى ذلك، ولذلك تَقِلُّ أتباع مَن هذه علومه، وقد يكثر المشترون للمَرجان، وقَلَّ أن يجتمع على شراء الياقوت اثنان؛ ولذلك كان يقول: «أتباع أهل الحق قليلون»، وقد قال الله سبحانه: ﴿...وَقَلِيلٌ مَا هُمْ...﴾([1])، وقال سبحانه: ﴿...وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ﴾([2])، وقال: ﴿...وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾([3])، وقال في أهل الكهف: ﴿...مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ...﴾([4])؛ فأولياء الله أهل كهف الإيواء، فقليل من يعرفهم.
وقد سمعته يقول: «معرفة الولي أصعب من معرفة الله؛ فإن الله معروف
بكماله وجماله، ومتى تعرف مخلوقًا مثلك، يأكل كما تأكل ويشرب كما تشرب!».
وأما زهده في الدنيا؛ فيستدل على الزهد في الدنيا بالزهد في الرياسة، ويستدل على الزهد في الاجتماع بأهلها، ولقد مكث } بالإسكندرية ستًّا وثلاثين سنة، ما أري وجهَ متوليها، ولا أرسل إليه، وطلب ذلك المتولي بالإسكندرية الاجتماع به؛ فأبى الشيخ ذلك، وقال له الزكي الأسواني: «يا سيدي، متولي الإسكندرية قال: إنه يؤثر الاجتماع بك ويأخذ بيدك؛ فتكون شيخه»، فقال الشيخ: «يا زكي، لست ممن يُلعب به، واللهِ إني ألقى الله ولا يراني ولا أراه» فكان الأمر كذلك.
وكان إذا نزل بلدة وقيل له: «متولي البلدة يريد أن يأتيك غدًا» سافر هو ليلًا، ولقد كان يأتي إليه متولي الثغر وناظره ومشد الدواوين بها، قليلة إتيانهم، يغلب القبض عليه، ولا ينبسط الكلام كحاله في عدم حضورهم، حتى كنا نقول: «ليت ذلك الكلام الذي كان في غيبتهم كان ليلة حضورهم»، ولقد أتى إليه الشجاعي في بحبوحة عزه وتمكنه من السلطنة؛ فما ألوى إليه عِنَانَ هِمَّتِهِ، ولا فَوَّقَ إليه سهام عزيمته، حتى لقد بلغني أن الزكي الأسواني لمَّا استعرض الشجاعي حوائجه، قال الشيخ: «يا سيدي، اطلب منه أرضًا يزرعها أصحابك»، فقال: «يا زكي، هذا مما لا يكون أبدًا».
ومن زهده أنه خرج من الدنيا وما وضع حجرًا على حجر، ولا اتَّخَذَ بستانًا، ولا استنتج سببًا من أسباب الدنيا، ولا خَلَّفَ وراءه رزقه، مع أن الزهد وصف من أوصاف القلوب، يصف الله به قلب من أحبه، ولكن له علامات تدل عليه.
وقال الشيخ أبو الحسن }: رأيت الصديق في المنام، فقال لي: «أتدري ما علامة خروج حب الدنيا من قلبه؟».
قلت: «لا أدري»، قال: «علامة خروج حب الدنيا من القلب بذلها عند الوجد ووجود الراحة منها عند الفقد».
وقال الشيخ أبو العباس: رأيت عمر بن الخطاب } في المنام، فقلت: «يا أمير المؤمنين، ما علامة حب الدنيا؟»، قال: «خوف المَذَمَّةِ وحُبُّ الثناء»، فإذا كان علامة حبها خوف المذمة وحب الثناء؛ فعلامة الزهد فيها وبغضها ألَّا يخاف المذمة ولا يحب الثناء.
وأما ورعه؛ فلقد أخبرني بعض أصحابه أنه دخل يومًا بيت واحد من الجماعة في البرج الذي هو فيه، فوجده يضرب فيه وتِدًا، قال: فاتفق
للشيخ من الحرج الأمر الكبير، قال: «كيف يحل لك أن تتصرف في الحبس بأمر لم يؤذن لك فيه!».
وكان يقول: «واللهِ ما دخل بطني حرام قط»، وكان يقول: «الوَرِعُ مَن وَرَّعَهُ الله».
وقال }: عزم علينا بعض صلحاء الإسكندرية في بستان له بالرمل، فخرجت أنا وجماعةٌ من صلحاء الثغر، ولم يخرج معنا صاحب البستان في ذلك الوقت، بل وصف المكان، فتجارينا -ونحن خارجون- الكلام في الورع، فكُلٌّ قال شيئًا، فقلت لهم: «إنما الورع من وَرَّعَه الله» فلما أتينا إلى البستان، وكان زمن ثمرة التوت؛ فكلهم أسرع إلى الأكل وأكل، وكنت كلما جئت لآكل أجد وجعًا في بطني فأرجع، فينقطع الوجع عني، فعلت ذلك مرارًا؛ فجلست ولم آكل شيئًا، فهم يأكلون وإذا بإنسان يصيح: «كيف يحل لكم أن تأكلوا من ثمرة بستاني بغير إذني؟»، فإذا هم قد غلطوا بالبستان، فقلت لهم: «ألم أقل لكم الورع من ورعه الله؟».
واعلم -رحمك الله- أنَّ ورع الخصوص لا يفهمه إلا قليل؛ فإنَّ من جملة ورعهم تَوَرُّعُهُم من أن يسكنوا لغيره، أو يميلوا بالحب لغيره، أو تمتد أطماعهم بالطمع في غير فضله وخيره.
ومن ورعهم: ورعُهُم عن الوقف مع الوسائط والأسباب وخلع الأنداد والأرباب.
ومن ورعهم: ورعُهم عن الوقوف مع العادات، والاعتماد على الطاعات، والسكون إلى أنوار التجليات.
ومن ورعهم: ورعُهُم عن أن تَفْتِنَهُمُ الدُّنْيَا أو توقفهم الآخرة، تورعوا عن الدنيا وفاءً، وعن الوقوف مع الآخرة صفاءً.
قال الشيخ عثمان بن عاشوراء: خرجت من بغداد أريد الموصل، فأنا أسير وإذ بالدنيا قد عُرِضَت عليَّ بعزها وجاهها ورفعتها ومراكبها وملابسها ومن بناتها ومشتهياتها؛ فأعرضتُ عنها، فعرضت عليَّ الجنةُ بحورها وقصورها وأنهارها وثمارها؛ فلم أشتغل بها، فقيل لي: «يا عثمان، لو وقفت مع الأولى لحجبناك عن الثانية، ولو وقفت مع الثانية لحجبناك عنها؛ فها نحن لك وقسطُك من الدارين يأتيك».
وقال الشيخ عبد الرحمن المغربي، وكان مقيمًا بشرقِيِّ الإسكندرية: حججت سنة من السنين، فلما قضيت الحج عزمت عليَّ بالرجوع إلى الإسكندرية، فإذا علي يقول لي: «إنك العام القابل عندنا»، فقلت: «إذا كنت العام القابل ها هنا فلا أعود إلى الإسكندرية، فخطر لي الذهاب إلى اليمن؛ فأتيت إلى عَدَنَ، فأنا يومًا على
ساحلها أمشي، وإذا أنا بالتجار قد أخرجوا بضائعهم ومتاجرهم، ثم نظرت فإذا رجل قد فرش سجادة على البحر ومشى على الماء، فقلت في نفسي: «لم تصلح للدنيا ولا للآخرة»، فإذا علي يقول لي: «من لا يصلح للدنيا ولا للآخرة يصلح لنا».
وقال الشيخ أبو الحسن: «الورع([5]) نعم الطريق لمن عُجِّلَ ميراثه وأُجِّلَ ثوابه»؛ فقد انتهى بهم الورع إلى الأخذ من الله وعن الله، والقول بالله، والعمل لله وبالله، على البَيِّنَةِ الواضحة والبصيرة الفائقة؛ فهم في عموم أوقاتهم وسائر أحوالهم، لا يدبرون ولا يختارون، ولا يريدون، ولا يتفكرون ولا ينظرون، ولا ينطقون ولا ينبسطون، ولا يمشون ولا يتحركون إلا بالله من حيث يعلمون، هجم بهم العلم على حقيقة الأمر؛ فهم مجموعون في عين الجمع، لا يتفرقون فيما هو أعلى ولا فيما هو أدنى.
وأما أدنى الأدنى فالله يورعهم عنه ثوابًا لورعهم، مع الحفظ لمنازلات الشرع عليهم، ومن لم يكن لعلمه وعمله ميراث؛ فهو محجوب بدنيا أو مصروف بدعوى، وميراثه التَّعَزُّزُ لخلقه، والاستكبار على مثله، والدال على الله بعمله؛ فهذا هو الخسران المبين، والعياذ بالله العظيم من ذلك.
والأكياس يتورعون عن هذا الورع ويستعيذون بالله منه، ومن لم يزدد بعمله وعلمه افتقارًا لربه وتواضعًا لخلقه؛ فهو هالك، فسبحان من قطع كثيرًا من الصالحين بصلاحهم عن مُصْلِحِهِم، كما قطع كثيرًا من المفسدين بفسادهم عن مُوجِدِهِم، فاستعذ بالله؛ إنه هو السميع العليم.
فانظر -فَهَّمَك الله سبل أوليائه ومَنَّ عليك بمتابعة أحبابه- هذا الورع الذي ذكره الشيخ }، هل كان يصل فهمك إلى مثل هذا النوع من الورع؟ ألا ترى قوله: «فقد انتهى بهم الورع إلى الأخذ من الله وعن الله، والقول بالله،
والعمل لله وبالله، على البينة الواضحة والبصيرة الفائقة»؛ فهذا هو ورع الأبدال، والصديقين لا ورع المتنطعين الذي ينشأ عن سوء الظن وغلبة الوهم.
وأما رفع همته فكان ظاهرًا من ذلك بالعجب العجاب، وقد تقدم من رفع همته عن ولاة الأمور، مع استعراضهم لحوائجه وتطارحهم عليه، قال يومًا لأصحابه: جاءني الطواشي بهاء الدين -وهو مشد الديوان إذ ذاك- والفقيه شمس الدين الخطيب -وهو يومئذ ناظر الأجياش- فقال لي: «إن هذه القلعة تحتاج إلى حُصر وزيت وقناديل، وتحتاج الفقهاءُ فيها إلى ما يأكلون، ونحن حكام الوقت، نُطْلِقُ لها شيئًا كل شهر»؛ فقلت لهم: حتى أشاور أصحابي، وأنتم أصحابي، فماذا تشيرون؟ فلم يرجع إليه أحد جوابًا، فأعاد الأمر مرارًا، فلم يجبه أحد؛ فقال: «اللهم أغننا عنهم، ولا تغننا بهم؛ إنك على كل شيء قدير»، ولم يجبهم إلى ما ذكروا، ومات الشيخ رحمه الله تعالى، وليس للمكان مُرَتَّبٌ ولا مَعْلُومٌ.
وسمعته يقول: «واللهِ ما رأيت العز إلا في رفع الهمة عن الخلق».
وسمعته يقول: «رأيت كلبًا في المحجة، ومعي شيء من الخبز؛ فوضعته بين يديه؛ فلم يلتفت إليه فقربته من فمه، فإذا علي يقول لي: أُفٍّ لمن يكون الكلب أزهد منه».
وسمعته يقول: خرجت يومًا أشتري حاجة من بعض من يعرفني بنصف درهم، فقلت في نفسي: «ولعله لا يأخذه مني»، فإذا علي يقول لي: «السلامة في الدينْ بترك الطمع في المخلوقينْ».
قال: فأتيت إلى الموضع الذي كنت مقيمًا به، ودخلت وأغلقت الباب، وأنا جالس وإنسان قد فتح الباب علي بمِرَّةٍ، وقال: «بماذا تكون السلامة في الدين؟»، قال: فقلت له: «بترك الطمع في المخلوقين»، فأخذها كأنما كانت ضَالَّةً وجدها؛ فتبين من حاله أن الشيخ كان قد قال له: «اذهب إلى موضع كذا، فاكتل لك ثلاث ويبات»، فذهب فاكتال لنفسه إردبًّا، فبلغ ذلك الشيخ، فقال: «فرغوا ما اكتاله في موضعه، وأعطُوه ثلاث ويبات التي كُنَّا أعطيناه إياها».
وقال } عن الطمع: «ثلاثة أحرف كلها مجوفة، فهو بطر كله؛ فلذلك صاحبه لا يشبع أبدًا».
وكان يقول: «للناس أسباب، وسببنا نحن الإيمان والتقوى، قال الله
سبحانه: ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القُرَى آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ...﴾([6])».
تنبيه وإعلام:
اعلم أنَّ رفع الهمة عن الخلق شأن أهل الطريق وصفة أهل التحقيق، ولقد سئل الجنيد }: أيزني العارف؟ فقال: ﴿...وَكَانَ أَمْرُ اللهِ قَدَرًا مَقْدُورًا﴾ [الأحزاب:38].
ولعَمْرِي لو سئل: أيطمع العارف في غير الله؟ لقال: «لا، وإنما مراد الحق سبحانه أن يفرده العباد في كل شيء؛ حبًّا وثقة وتوكلًا وخوفًا ورجاء، وذلك الذي تستحقه فرديته، وكان بعض العارفين ينشد شعرًا:
حَرَامٌ عَلَى مَنْ وَحَّدَ اللهَ رَبَّهُ |
* | وَأَفْرَدَهُ أَنْ يَجْتَدِي أَحَدًا رِفْدَا |
وَيَا صَاحِبِي قِفْ لِي مَعَ الْحَقِّ وَقْفَةً |
* | أَمُوتَ بِهَا وَجْدًا وَأَحْيَا بِهَا وَجْدَا |
وَقُلْ لِمُلُوكِ الْأَرْضِ تَجْهَدُ جُهْدَهَا |
* | فَذَا الْمُلْكُ مُلْكٌ لَا يُبَاعُ وَلَا يُهْدَى |
ورفع الهمة إنما ينشأ عن صدق الثقة بالله، وصدق الثقة بالله إنما ينشأ عن الإيمان بالله على سبيل المعاينة والمواجهة؛ فيوجب لهم إيمانهم الاعتزاز بالله، قال الله تعالى: ﴿...وَللهِ العِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ...﴾([7]).
والنصرَ من الله، قال سبحانه: ﴿...وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ المُؤْمِنِينَ﴾([8]).
والنجاة من العوارض الصادرة عن الله، قال الله تعالى: ﴿...كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ المُؤْمِنِينَ﴾([9]).
فعز المؤمن بثقته بمولاه، ونصرته على نفسه وهواه، ونجاتُه من العوارض ألَّا تقطعه عن سبيل هُداه، وشعار أهل الإرادة ودثارُهم الاكتفاءُ بالله ورفع الهمة عمَّا سوى الله، وصيانة ملابس الإيمان من أن تدنس بالميل إلى الأكوان أو الطمع في غير الملك المنان، ولنا في هذا المعنى شعر:
بَكَرَتْ تَلُومُ عَلَى زَمَانٍ أَجْحَفَا |
* | فَصَدَفْتُ عَنْهَا عَلَّهَا أَنْ تَصْدِفَا |
لَا تُكْثِرَنْ عَتَبًا لِدَهْرِكَ إِنَّهُ |
* | مَا إِنْ يُطَالَبُ بِالصَّفَاءِ وَلَا الْوَفَا |
مَا ضَرَّ بِي إِنْ كُنْتُ فِيهِ خَامِلًا |
* | فَالْبَدْرُ بَدْرٌ إِنْ بَدَا أَوْ إِنْ خَفَا |
اللهُ يَعْلَمُ أَنَّنِي ذُو هِمَّةٍ |
* | تَأْبَى الدَّنَايَا عِفَّةً وَتَظَرُّفَا |
لِمَ لَا أَصُونُ عَنِ الْوَرَى دِيبَاجَتِي |
* | وَأُرِيهِمُ عِزَّ الْمُلُوكِ وَأَشْرُفَا |
أَأُرِيهِمُ أَنِّي الْفَقِيرُ إِلَيْهِمُ |
* | وَجَمِيعُهُمْ لَا يَسْتَطِيعُ تَصَرُّفَا |
أَمْ كَيْفَ أَسْأَلُ رِزْقَهُ مِنْ خَلْقِهِ |
* | هَذَا لَعَمْرِي إِنْ فَعَلْتُ هُوَ الْجَفَا |
شَكْوَى الضَّعِيفِ إِلَى ضَعِيفٍ مِثْلِهِ |
* | عَجْزٌ أَقَامِ بِحَامِلِيهِ عَلَى شَفَا |
فَاسْتَرْزِقِ اللهَ الَّذِي إِحْسَانُهُ |
* | عَمَّ الْبَرِيَّةَ مَنَّةً وَتَلَطُّفَا |
وَالْجَأْ إِلَيْهِ تَجِدْهُ فِيمَا تَرْتَجِى |
* | لَا تَعْدُ عَنْ أَبْوَابِهِ مُتَحَرِّفَا |
والذي يوجب لك رفع الهمة عَمَّا سوى الله، عِلمُك بأنه لم يخرجك إلى مملكته إلا وقد كفاك ومنحك وأعطاك؛ فلم يبق لك حاجة عند غيره، فإذا كان قد اقتضى لهم الفهم عن الله أن يكتفوا بعلمه عن مسألته، كيف لا يوجب لهم الفهمُ الاكتفاء بعلمه عن سؤال خليقته، ومن فاتحه الحق سبحانه بشيء؛ فما فاتح به أحباءه، فقد اقتضى منه ورفع همته إليه كما اقتضاه من غيره وأولى، ألم تسمع قوله سبحانه: ﴿وَلَقَدْ آَتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ المَثَانِي وَالقُرْآَنَ العَظِيمَ﴾([10]).
لا يمدون عينيك، وكيف لا تكون منته فيك، ومواهبه وفواتح عنايته وخصائص ولايته ناهية لك عن التعلق بغيره؟! وكان بعض العارفين ينشد شعرًا:
أَبَعْدَ نُفُوذِي فِي عُلُومِ الْحَقَائِقِ |
* | وَبَعْدَ انْبِسَاطِي فِي مَوَاهِبِ خَالِقِي |
وَفِي حِينِ إِشْرَافِي عَلَى مَلَكُوتِهِ |
* | أَرَى بَاسِطًا كَفًّا إِلَى غَيْرِ رَازِقِ |
وإن كل ذي رتبة من المخلوقين، لا يرضى منك أن تنسب له رتبة تضيف المنع والعطاء والولاية والعزل فيها لغيره، أفيرضى لك الحق سبحانه أن تعترف له بربوبيته، وتضيف آثارها لغيره! فاحذر أن تكون من الذين قال فيهم سبحانه: ﴿وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ﴾([11])، وقبيح أن تكون في دار ضيافته وتوجه وجه طمعك لغيره، ولنا في هذا المعنى شعر:
أَيَحْسُنُ بِي َأَنِّي نَزِيلُ ذُرَاكُمُ |
* | أُوَجِّهُ يَوْمًا لِلْعِبَادِ رَجَائِي |
بَلَى إنَّنِي أَلْوِي إِلَيْكَ بِهِمَّةٍ |
* | أُخَلِّفُ فَيهَا مَا سَوَاكَ وَرَائِي |
لا تطلب ممن هو بعيد عنك، وتترك الطلب من مولى هو أقرب إليك من حبل الوريد، ألم تسمع إلى قوله تعالى: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ...﴾([12]).
وقال: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الوَرِيدِ﴾([13]).
وقال: ﴿...وَاسْأَلُوا اللهَ مِنْ فَضْلِهِ...﴾([14]).
وقال: ﴿...ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ...﴾([15]).
وقال: ﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ...﴾([16]).
كل ذلك ليجمع هِمَمَ عباده عليه؛ كي لا يرفعوا حوائجهم إلا إليه.
وأما حلمه؛ فكان من شأنه أنه لا ينتقم لنفسه ولا ينتصر لها، ولقد دخلت عليه يومًا فقال لي: ما تقول في فلان؟ -رجل كان قد آذى الشيخ الأذى البالغ- أتى إلى أصحاب فلان بعضُ من كان له الأمر في ذلك الزمن، وكان يتردد إلى الشيخ؛ فقالوا: «يا سيدي، هذا الرجل الذي آذاك نسعى في ضربه وإشهاره في البلدتين مصر والقاهرة؛ فماذا تقول أنت؟» قلت له: «مصلحة»، فقال كالمنكر: «لأي شيء قلت ذاك؟» قلتُ: «نتشفى منه»، قال: «أنا ما أتشفى من أحد» قلت: «إنما أردت الأتباع»، قال: «ولا تحمل أتباعي على التشفي»، فأطرقت خجلًا، فما توجه أحد بالأذى لنا بعد ذلك.
فنزلت به نازلة فَمَا هَمَّت نفسي بالتشفي منه إلا وذكرت كلام الشيخ: «أنا لا أتشفى من أحد»، حتى كأني سمعته ذلك الوقت؛ فتخمد النفس عن التشفي بذلك.
واتفق بعد مدة نحو الخمس عشرة سنة، أن الذي كان يسعى في أذية الشيخ سعى في أذيتنا، واتفق له نازلة؛ فصاننا الله من التشفي منه وسلم، وكان الشيخ يقول لي: «هذا الذي استشرتك فيه، سيتفق لك معه مثل ما اتفق لي؛ فافعل مثل ما فعلت معه»، وهكذا هو كلام الأكابر يطوى في صحائف قلوب المريدين، حتى إذا جاء وقته أظهره الله سبحانه، كأنك قد سمعته ذلك الوقت، وربما أحضر الله بفكرك شيخك الذي خاطبك اللهُ بهيئته وزِيِّهِ، وربما تمثل لك في الخيال المنتصل، وربما حضر بوجوده الحِسِّيِّ عند وجود النوازل مُثَبِّتًا للمريد ومعلمًا.
وسمعته } يقول: «ما سمعتموه مني ففهمتموه، فاستودعوه الله يَرُدُّهث عليكم وقت الحاجة، وما لم تفهموه فوكلوه إلى الله؛ يتولَّ الله بيانه».
فكلام الأكابر مردودٌ على المريدين وقت حاجتهم، فيظن المريد أنه
ما أخذ ولقد أخذ، ولكن للحكمة بَذْرٌ ونباتٌ، ووقت البَذْرُ غير وقت النبات، وقد يُبْذَرُ فيك بَذْرَ الحكمة، ويبقى النباتُ متوقفًا على مجيء سحابة ماطرة، فإذا جاءت أظهرت ما كان في الأرض كامنًا؛ فتبقى الودائع مطوية في العباد، حتى تجيء أوقاتها.
وبلغني عن الشيخ أبي الحسن أنه كان يقول: «لا حجاب إلا الوقت».
وسمعته يومًا يقول: «كان إذا آذاني إنسان يَهْلِكُ للوقت، وأنا الآن لست كذلك» فرآني } مستشرفًا لسبب ذلك فقال: «اتسعت المعرفة».
وسمعته يقول: «لحوم الأولياء مسمومة».
واعلم -علمك الله من العلم الذي يدل عليك، وجعلك من الدائمين بين يديه- أن انتصار الحق لأوليائه، ليس ذلك لأنهم طلبوه من الله، ولكن لمَّا صدقوا التوكل عليه، وأرجعوا الأمر إليه؛ انتصر الحق لهم، ألم تسمع قوله: ﴿...وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ المُؤْمِنِينَ﴾([17])، وقوله سبحانه: ﴿....وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ...﴾([18]).
ولا تقولن: «هم من ينتصر لنفسه منك»، بل عدهم ممن ينتصر الله له؛ فإنه الغالب الذي لا يُغلب، والقادر الذي لا يَعجِز، والقهار الذي لا قِبَلَ لأهل السماوات والأرض بِذَرَّةٍ من بلائه، ولو وضع ذرة من ذرات قهره على الجبال لأذابتها.
ومعنى قول الشيْخ: «اتسعت المعرفة»: أن المُريدَ في مبدأ إراداتِه بهمته وفي نهايته بوجود معرفته، فإذا كان في مبدأ إرادته توجه بصدق الهمة إلى الله، لاجئًا إليه في الانتقام مِمَّنْ أذاه، فينتصر الحق له؛ لتوجهه بصدق الهمة في طلب النصرة، ولضيق عطنه عن الصبر عن تأخر الانتقام له.
والعارف اتَّسَعَ عليه بحر المعرفة، فانطوت همته وإشاءته وتدبيره، وإشاءة الحق له وتدبيره إياه، ومن غلب عليه شهود المشيئة؛ فأي همة تبقى له!.
وأيضًا إنه إذا أُخِّرَتْ عقوبة من أذاه، شهد حسن اختبار مولاه، فلم يعجل له الانتصار؛ لأنه لا يخشى عليه ما يخشى على المريد من عدم الصبر إذا أخر الانتقام له.
وأيضًا إن العارف لو توجه لطلب الانتقام ممن ظلمه، قامت الرأفة والرحمة القائمان به؛ لتخلقه بخلقِ معروفه، فمنعاه من الانتصار وإن كان على ذلك قادرًا، وكيف ينتصر من يرى الله فعالًا فيهم!.
ثم أولياء الله إذا ظُلِمُوا على طبقات: داعٍ يدعو على من ظلمه استثار الأذى منه القرح، واستخرج منه الاضطرار؛ فهذا الذي لا يُرَدُّ دعاؤه، ومنه قوله —: «واتق
دعوة المظلوم؛ فإنه ليس بينها وبين الله حجاب»([19]).
القسم الثاني: وهم الذين لجأوا إلى الله سبحانه في طلب النصرة وتعجيل الأذى لهم، غير أنهم علموا أن الله يعلم السر وأخفى، فرفعوا أمرهم إلى الله سرًّا بسر، وهؤلاء أولى بانتصار الحق لهم؛ لتوكلهم عليه، ولإرجاعهم الأمر إليه، وقد قال سبحانه: ﴿...وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ...﴾([20]).
ولقد ذُكِرَ أن امرأةً كانت لها دجاجة، ليس عندها غيرها، وكانت تتقوت ببيضها، فجاء سارق فسرقها؛ فلم تدعُ عليه، وأرجعت الأمر إلى الله، فأخذ السارق الدجاجة وذبحها ونتف ريشها، فنبت جميعه بوجهه، فسعى في إزالة ذلك فلم يستطع، وسأل الناس فلم يقدر أحد على إزالة ما نزل به، إلى أن أتى إلى حبر من أحبار بني إسرائيل، فقال: «لا أجد لك دواء إلا أن تدعو عليك المرأة التي سرقت دجاجتها، فإن فعلت شفيت»؛ فأرسل إليها من قال لها: «أين دجاجتك التي كانت عندك؟»، قالت: «سرقت»، قالوا: «آذاك من سرقها»، قالت: «قد فعل»، قالوا: «وقد فجعك في بيضها»، قالت: «هو كذلك»، فلم يزالوا بها حتى أثاروا الغضب منها، فدعت فتساقط الريش من وجهه، فقالوا لذلك الحبر: «من أين علمت هذا؟» قال: «إنها لما سرقت دجاجتها لم تدع عليه، وأرجعت الأمر إلى الله في أمره؛ فانتصر الله، فلما دعت انتصرت لنفسها؛ فسقط الريش من وجه السارق».
القسم الثالث: عباد لَمَّا ظُلِمُوا لم يدعوا، ولم يلجأوا إلى الله في طلب الانتقام ممن ظلمهم، ولكن فوضوا الأمر إلى الله؛ فكان هو المختار لهم.
القسم الرابع: وهم الطبقة العليا، وهم الذين إذا ظُلِمُوا رحموا من ظلمهم، وقال الشيخ أبو الحسن: «وإذا آذاك ظالم فعليك بالصبر والاحتمال، واحذر أن تظلم نفسك، فيجتمع عليك ظلمان: ظلم غيرك لك، وظلمك لنفسك»، فإن فعلت ما ألزمت من الصبر والاحتمال؛ أثابك سعة الصدر حتى تعفو وتصفح، وربما أثابك من نور الرضى ما ترحم به من ظلمك، فتدعو له فتجاب فيه دعوتك.
وما أحسن حالَك إذا رُحِمَ بك من ظلمك! فتلك درجة الصديقين الرحماء، ﴿...فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُتَوَكِّلِينَ﴾([21]).
ومن هذا القبيل الذي ذكره الشيخ أبو الحسن: ما اتفق لإبراهيم بن أدهم }، أنه قال له جندي: «أين العمران؟» فأشار إلى المقابرِ؛ فَظَنَّ أنه يهزأ به فشَجَّهُ، فطَأْطَأَ رأسه، وقال: «اضرب رأسًا طالما عصت الله»، فقال الجندي: «هذا إبراهيم بن أدهم زاهد خراسان»، فأحنى على رجليه يقبلهما ويعتذر إليه، فقال له إبراهيم بن أدهم: «والله ما رفعتَ يدَك عن ضربي إلا وأنا أسأل الله لك المغفرة؛ لأني علمت أن الله تعالى يثيبني على ذلك، ويؤاخذك بما فعلت؛ فاستحييت أن يكون حظي منك الخير وحظك مني الشر».
قال الشيخ أبو العباس: ليس هذا عين الكمال، وما فعله سعد أحد العشرة هو عين الكمال، ادَّعَت عليه امرأة أنه احتاز شيئًا من بستانها؛ فقال: اللهم إن كانت كاذبة فأَعْمِهَا، وأمتها في مكانها. فعميت وجاءت تمشي يومًا في بستانها فوقعت في بئر فماتت، فلو كان ما فعله إبراهيم عينَ الكمال لكان الصحابي أولى به، ولكن كان سعد أمينًا من أمناء الله، نفسه ونفس غيره عنده سواء، فما دعا عليها لأنها آذته، ولكن دعا عليها لأنها آذت صاحب رسول الله >، وإبراهيم لم يَصِلْ إلى هذه المرتبة؛ فترك الدعاء على الجندي لئلا يكون ذلك انتصارًا لنفسه، وسعد } قد خلصه الله من نفسه وأبرزه للخلق، يخلص به من يشاء من عباده، والصوفي لا يستقضي الحق لنفسه، بل يستقضي الحق لربه.
فائدة:
اعلم أن أولياء الله تعالى حكمُهم في بداياتهم أن يسلِّطَ الخلق عليهم؛ ليتطهروا من البقايا، وتتكمل فيهم المزايا، وكي لا يساكنوا الخلق باعتماد، ويميلوا إليهم باستناد، ومن آذاك فقد أعتقك من رق إحسانه، ومن أحسن إليك فقد اسْتَرَقَّكَ بوجود امتنانه؛ ولذلك قال >: «جُبِلَت القلوب على حُبِّ من أحسن إليها»([22])، وقال >: «من أسدى إليكم معروفًا فكافئوه، فإن لم تقدروا فادعوا له»، كل ذلك ليتخلص القلب من إحسان الخلق، ويتعلق بالملك الحق.
قال الشيخ أبو الحسن: اهرُب من خير الناس أكثر مِمَّا تهرُب من شَرِّهم؛ فإن خيرهم يصيبك في قالَبِكَ، وشرهم يصيبك في قلبك، ولَأَنْ تصاب في بدنك خير لك من أن تصاب في قلبك، ولَعَدُوٌّ تصل به إلى الله خير لك من حبيب يقطعك عن الله، وعُدَّ إقبالهم عليك ليلًا وإعراضهم عنك نهارًا، ألا تراهم إذا أقبلوا فتنوا!.
وتسليط الحق على أولياء الله في مبدأ طرقهم سنة الله في أحبابه وأصفيائه؛ ولذلك قال الشيخ أبو الحسن: «اللهم
إن القوم قد حكمتَ عليهم بالذل حتى عَزُّوا، وحكمت عليهم بالفقد حتى وجدوا، فكُلُّ عِزٍّ يمنع دونك فنسألك بدله ذلًّا تصحبه لطائفُ رحمتك، وكل وجد حجب عنك فنسألك عوضه فقدًا تصحبه أنوار محبتك.
ومِمَّا يدُلُّك على أن هذه سنة الله في أحبابه وأصفيائه: قول الله تعالى: ﴿...وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ﴾([23]).
وقوله عَزَّ وجَلَّ: ﴿حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا...﴾([24]).
وقوله: ﴿وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الوَارِثِينَ﴾([25]).
وقوله: ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (٣٩) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ...﴾([26])، إلى غير ذلك من الآيات الدالَّة على هذا المعنى.
فمن حالهم في بداياتهم: إبراهيم بن أدهم طأطأ رأسه حين ضربه الجندي، فقال: «اضرب رأسًا طالما عَصَتِ الله»، وقوله: «ما فرحت في عمري إلا ثلاث مرات: كنت في مسجد فأصابتني البطن؛ فكنت أقوم وأقعد، فجاء صاحب المسجد وأمرني أن أخرج فلم أستطع لقوة الضعف؛ فأخذ برجلي يجرني إلى أن أخرجني، والمرة الثانية: نزعت يومًا ما كان عليَّ من ملبس فلم أره كثير القُمَّل، والمرة الثالثة: ركبت في سفينة، فكان هناك مضحاك، فكان يقول: كنا نأخذ العلج في بلاد العدو وهكذا، ويمد يده إلى لحيتي فيهزها؛ فأعجبني إذ لم يَرَ في السفينة من هو أحقر مني».
وهذا شأنهم في بداياتهم علمًا منهم بوجود البقايا فيهم، فخافوا أن ينتصروا فينتصروا لنفوسهم؛ فيسقطون من عين الله، فرجعوا إلى وجود الحلم كَافِّينَ أيديهم عن الانتصار لعلمهم بآفات الانتصار للنفس، وشرعة الحق سبحانه وعادته في أصفيائه كثرة الأعداء والنصرة منه لهم عليهم.
قال الشيخ أبو الحسن: آذاني إنسان مرة؛ فضقت ذَرعًا لذلك، فنمت فرأيت يقال لي: «من علامة الصديقية كثرة أعدائها، ثم لا يبالى بهم».
ويجب أن تعلمَ أن النفوس شأنها استحلاء الإقامة في مواطن العز والرفعة،
فلو تركها الحق سبحانه وما تريد لهلكت؛ فأزعجها عن ذلك بما يسلطه عليهم من أذى المؤذين ومعارضة الحاسدين.
وقال بعض العارفين: «الصحة من العدو سوط الله، يضرب به القلوب إذا ساكنت غيره»، ولولا ذلك لرقد القلب في ظل العز والحياة، وهو حجاب عن الله تعالى عظيم، وصدق }.
وهذا الصنع من حسن نظر الله لأوليائه وأحبابه، وإظهار لآثار ولايته فيهم؛ لقوله: ﴿اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آَمَنُوا...﴾([27]).
فإذا تَمَّتْ أنوارهم، وتطهرت من البقايا أسرارهم؛ حكمهم في العباد، وأدلهم عليه؛ فحينئذ يكون العبد المجتبى سيفًا من سيوف الله، ينتصر الله به لنفسه، ومن هذا الباب دعاء سعد على المرأة التي ادَّعت إليه كذبًا: «اللهم أعمها وأمتها في مكانها»؛ فاستجيب له، ولمَّا دُخِلَ على عثمانَ الدار } لطم إنسانٌ وجه زوجته، فقال له عثمان: «قطع الله يديك ورجليك، وأخلدك في النار»، فرأوا ذلك الرجل بالشام وقد قطعت يداه ورجلاه، وهو يقول: «دعوة عثمان استجيبت في اثنتان، وبقيت الثالثة»؛ ولذلك قد تلتبس أحوال الرجال على عموم العباد، فلا تفضل وليًّا ظُلِمَ فصفح، على ولي ظُلِمَ فانتصر أو دعا؛ فقد يكون صفح من صفح لعلمه بالبقايا من نفسه، ودعاء الداعي لعلمه بتطهيره من البقايا؛ فدعا انتصارًا لربه.
وأما صبره: فكان } من الثابتين في مركز الصبر، وكان به أمراض عديدة، لو وضع بعضها على الجبال لذابت، كان به برد الكلى، وكان به الحصا، وكان به اثنا عشر ناسورًا، وهو يجلس للناس ولا يقطع الجلوس لهم، ولا يتأوه في حين جلوسه، ولا يعلم الجالس عنده أن به شيئًا من الأمراض، ولم تكن الأمراض أورثته صفرة الوجه، ولا تَغَيُّرًا في البدن؛ حتى كان يقول: «لا تنظروا إلى حمرة وجهي؛ فحمرة وجهي من قلبي».
ودخل عليه إنسان فوجد ألمًا به؛ فقال ذلك الرجل: «عافاك الله يا سيدي»، فسكت الشيخ ولم يجاوبه، ثم سكت ذلك الرجل ساعة، وقال: «عافاك الله تعالى يا سيدي»، فقال الشيخ: «وأنا سألت الله العافية، قد سألته العافية، والذي أنا فيه هو العافية».
- رسول الله > قد سأل الله العافية، وقد قال: «ما زالت أكلة خيبر تعاودني، فالآن أوان انقطاعِ أبهري».
- أبو بكر } أَمَا سأل الله العافية، وبعد ذلك مات مسمومًا!.
- عمر } قد سأل الله العافية، وبعد ذلك مات مطعونًا.
- عثمان } أَمَا سأل الله العافية، وبعد ذلك مات مذبوحًا!.
- علي }
أما سأل الله العافية وبعد ذلك مات مقتولًا!.
فإذا سألت الله تعالى العافية من حيث يعلمها لك أنها عافية.
وكان يقول }: «الصبر مشتق من الأصبار، وهو الفرض الذي يُرمى عليه بالسهام؛ فالصابر من نَصَّب نفسه غرضًا لسهام القضاء، وكان هِجِّيرَاهُ يسأل اللهَ اللطف، يسأله اللطف قبل أن يَفْتُرَ عن ذلك».
ودخلت عليه يومًا فوجدت ألمًا به، فقلت: «يا سيدي أظنك ضعيفًا»، فقال: «الضعيف من لا إيمان له ولا تقوى».
واعلم أن الصبر([28]) على ثلاثة أقسام: صبر على الواجبات، وصبر على المُحَرَّمَات، وصبر في البليات.
وصبرُ الأكابر على كتم الأسرار، وفقد الركون إلى الآثار وعدم الوقوف مع الأنوار.
صبرهم: على حمل الأذى، والثبوت تحت مجاري القضا.
صبرهم: على حمل أثقال العباد، والصبر مع الله فيما أراد.
صبرهم: على القيام بأحكام العبوديَّهْ، والثبوت لمجاري أحكام الربوبيَّهْ.
صبرهم: على مكارم الأخلاق، والقيام مع الله بشرط الوفاق.
صبرهم: على جمع الهَمِّ عليهْ، والرجوع في كل أمورهم إليهْ.
صبرهم: على الجلوس للخلق، والدلالة على الملك الحق.
وكان الشيخ أبو العباس } يقول: «واللهِ ما جلست للناس حتى هُدِّدْتُ بالسَّلْبِ».
وقيل لي: «لَئِنْ لم تجلس؛ لنَسْلُبَنَّكَ ما وَهَبْنَاكَ».
وأما مداد طريقته: فكان } شديد التَّحَرُّزِ من حقوق العبادة، مسرعًا للوفاء لها، حتى إنه يوفي الشيء قبل استحقاقه، ويحمل أصحابه على التخلص من حقوق العباد، إذا كان عليه دَيْنٌ أحسن القضاء، وإذا كان له حق أحسن الاقتضاء، منقطعًا عن أبناء الدنيا والتردد إليهم، لا يرفع قدمه لأحد منهم، ولا يبعث إليهم ولا يكاتبهم -إذا طُلِبَ منه أن يكتب إليهم قال للطالب: «أنا أطلب لك ذلك من الله»، فإن رضي الطالب ربح مسعاه ولطف به مولاه- متبتِّلًا في الجلوس للخلق، ولا تأتيه ليلًا أو نهارًا إلا وجدْتَه.
ولقد أتيتُه يومًا فاستأذنت عليه، فقيل لي: «اصبر قليلًا»؛ فتشوشت من ذلك، وقلت: «قد يكون بلغ الشيخ عني ما أوجب تغيُّرَه»، فبعد ساعة أذن لي فدخلت، فقال الشيخ }: «اعذرني، كانت ابنة الشيخ أبي الحسن عندي؛ فكرهت أن أقطع كلامها، واللهِ ما أَعُدُّ نفسي إلا خادمًا من خُدَّامِهِم».
وكان ينهى أن يُعَوَّقَ المريد إذا جاءه، ويقول: «المريد -إذا جاءه- يأتي بشعلة همته فإذا قيل له: قف ساعة؛ طَفَأْتَ ما جاء به».
وكان لا يدل المريد على المتاعب والمشقات ولا يلزمه ذلك.
وكان يقول عن شيخه أبي الحسن: «ليس الرجل من دلك على تعبك، إنما الرجل من دلك على راحتك».
ومبنى طريقتِه على الجمع على الله وعدم التفرقة، وملازمة الخلوة والذكر، ولكل مريد معه سبيل، يحمل كل واحد على السبيل الذي يصلح له، وكان لا يحب المريد الذي لا سبب له، وكان يَدُلُّ المريد على الإجماع في حبه، ولا يُلزم المريد ألَّا يرى غيرَه، وكان يقول عن شيخه: «اصحبوني ولا أمنعكم أن تصحبوا غيري، فإن وجدتم منهلًا أعذب من هذا المنهل فرِدُوا».
وكان إذا دخل المريد في أوراد بنفسه وهواه أخرجه عنها، وكان إذا مُدِحَ بقصيدة أو أبيات، يجيز المادح بإقباله، وربما واجهه بنواله، وكان مُكْرِمًا للفقهاء ولأهل العلم ولطالبيه، إذا جاءوه في ولاة الأمور، فإذا جاءوه أكرمهم، وربما مشى لهم خطوات، وكان شديد التعظيم لشيخه أبي الحسن، حتى إنك كنت تشهد منه أنه لا إثبات منه لنفسه معه، وكان إذا ذُكِرَ الشيخ } ينشد شعرًا:
لِي سَادَةٌ مِنْ عِزِّهِمْ |
* | أَقْدَامُهُمْ فَوْقَ الْجِبَاهْ |
إِنْ لَمْ أَكُنْ مِنْهُمْ فَلِي |
* | فِي ذِكْرِهِمْ عِزٌّ وَجَاهْ |
وكان من شأنه أنه ما خُبِّئَ له لا يأكله، وكان يكره أن يعلم بطعام أو هدية قبل إتيانها، وكان لا يدعو للحسن بحضرته، بل إذا غاب دعا له بظهر الغيب، وكان إذا أُهْدِيَ له شيء يسيرٌ تَلَقَّاهُ ببشاشة وقبول، وإذا أُهْدِيَ له شيء كثير تلقاه بالعزة، وكان لا يثني على مريد ولا يرفع له علمًا بين إخوانه؛ خشيةً عليه أن يُحْسَدَ، وكانت صلاته موجَزة في تمام، وكان يقول: «صلاة الأبدال خفيفة»، وكان إذا تلا تقول: «الكون كله مستمع له!!».
وصلى قيام رمضان سنة، فقال: «قرأت القرآن في هذه السنة، كأنما أقرأه على رسول الله >»، ثم جاء رمضان ثانٍ فقال: «قرأته في هذه السنة كأنما أقرأه على الله».
وكان إذا كانت ليلة القدر أخبر بها أصحابه، ودعا فيها بمقدار ما يدعو كل ليلة ثلاث مِرَارٍ، وكان يقول: أوقاتنا -والحمد لله- كلها ليلة قدر، أنشدنا بعض إخواننا لبعض أهل الطريق شعرًا:
وَلَوْلَا شُهُودُ جَمَالِكُمْ فِي ذَاتِي
|
* | مَا كُنْتُ أَحْيَا سَاعَةً بِحَيَاتِي |
مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ الْمُعَظَّمِ قَدْرُهَا
|
* | إِلَّا إِذَا عُمِرَتْ بِهِ أَوْقَاتِي |
إِنَّ الْمُحِبَّ إِذَا تَمَكَّرَ فِي الْهَوَى |
* | وَالْحُبِّ لَمْ يَحْتَجْ إِلَى مِيقَاتِ |
وجاءه الفقيه مكين الدين الأسمر، فقال له: «يا سيدي، رأيت ليلة القدر ولكن ليست كما أراها كل سنة، رأيتها هذه السنة ولا نور لها»، فقال الشيخ }: «نورك طمس نورها يا مكين الدين».
ولقد كنت مع الشيخ مكين الدين هذا بالجامع الغربي من الإسكندرية، في العشر الأخيرة من رمضان ليلة ست وعشرين، فقال الشيخ مكين الدين: «أنا الساعة أرى ملائكة صاعدة وهابطة في تهيئة وتعبئة، أرأيت تَأَهُّبَ أهل العرس له قبله بليلة! كذلك رأيتهم».
فلما كانت الليلة الثانية، وهي ليلة سبع وعشرين، وكانت ليلة جمعة، قال: «أنا الساعة أرى ملائكة معهم أطباق من نور الملك، توازي مأذنة الجامع، وفوق ذلك ودون ذلك، وهذه هي ليلة القدر».
فلما كانت الليلة الثالثة، وهي ليلة ثمانية وعشرين، قال: «رأيت هذه الليلة المتغيظة، وهي تقول: هب أن لليلة القدر حقًّا يُرعَى، أما لِيَ حق يرعى!».
وكان الشيخ مكين الدين من أرباب البصائر، ومن الناقدين إلى الله سبحانه وتعالى، وكان الشيخ أبو الحسن يقول عنه: «بينكم رجل يقال له ابن منصور، أسمر اللون أبيض القلب، واللهِ إنه ليكاشفني وأنا مع أهلي وعلى فراشي»، ومرة أخرى قال فيه: ۓما سلكت غيبًا من غيوب الله إلا وعمامته منه تحت قدمي»
ولقد أخبرني الشيخ مكين الدين هذا، قال:
دخلت مسجد النبي بالإسكندرية بالدِّيمَاسِ، فوجدت النبي المدفون هناك قائمًا يصلي وعليه عباءة مخططة، فقال لي: «تقدم، فصَلِّ»، قلت له: «تقدم أنت فَصَلِّ؛ فإنكم من أُمَّةِ نبي لا ينبغي التقدم عليه»، قال: فقلت له: «بِحَقِّ هذا النبي، إلَّا ما تقدمت فصليت». قال: فأنا أقول: «بحق هذا النبي، إلَّا...» وقد وضع فمه على فمي إجلالًا للفظة «النبي»، قال: «تقدم، إننا نصلي كي لا تبرز في الهواء»، قال: فتقدمت فصليت.
وأخبرني الشيخ مكين الدين أيضًا، قال: بِتُّ بالقَرَافَة ليلة جُمُعَةٍ، فلما قام الزوار قمت معهم وهم يتلون، إلى أن انتهَوا في التلاوة إلى سورة يوسف، ومنها إلى قوله تعالى: ﴿وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ﴾ [يوسف:58]، وانتهَوا في الزيارة إلى قبور إخوة يوسف، فرأيت القبر قد انْشَقَّ وطلع منه إنسان طويل، خفيف شعر اللحية، صغير الرأس، آدم اللون، وهو يقول: «من أخبركم بقصتنا؟ هكذا كانت قصتنا!».
ولقد كنت يومًا مُضَّجعًا وأنا ساكن مطمئن؛ فأجدُ في قلبي انزعاجًا على بغتة، وباعثًا يبعثني على الاجتماع بالشيخ مكين الدين }؛ فقمت مسرعًا، فدققت عليه الباب فخرج، فلما وقع بصره عليَّ، قال: «أنت ما تجيء حتى يسير الناس خلفك!»، فتبسم وقلت: «سيدي، قد جئت»، فدخل وأخرج لي وعاء، وقال: «هذا الوعاء اذهب به إلى الشيخ أبي العباس، وقل له: قد كتبت فيه آيات من القرآن، ومحوتها بماء زمزم وشيء من عسل»، فذهبت بذلك إلى الشيخ، فقال: «ما هذا؟»، قلت: «أرسله إليكم الفقيه المَكِينُ الأسمر»، فأدلى فيه أصبعًا واحدة، وقال: «هذا بحسب البركة»، وأفرغ الوعاء ومَلَأَهُ عسلًا، وقال: «اذهب به إليه»، فذهبت بذلك إليه، ثم عدت إليه بعد ذلك، فقال لي: «رأيت البارحة ملائكةً أتَوْني بأوعية من زجاج مملوءة شرابًا، وهم يقولون: خذ هذا عوض ما أهديت إلى الشيخ أبي العباس».
وكان الشيخ أبو العباس كثير الرجا لعباد الله، الغالب عليه شهود وسع الرحمة، وكان يُكْرِمُ الناس على نحو رتبتهم عند الله، حَتَّى إنه ربما دخل عليه مطيع فلا يتبهل به، وربما دخل عليه عاصٍ فأكرمه؛ لأن ذلك الطائع رُبَّما أتى وهو متكبر بعلمه ناظر لفعله، وذلك العاصي دخل بكسر معصيته وذُلِّهِ ومخالفته، وكان شديد الكرامة للوسواس في الطهارة والصلاة، ويثْقُلُ عليه شهود من كان ذلك وصفه.
سئل يومًا وأنا حاضر، فقيل له: «يا سيدي، فلان صاحب علم وصلاح، كثير الوسوسة»، فقال: «وأين العلم يا فلان، العلم هو الذي يتطبع في القلب كالبياض في الأبيض والسواد في الأسود».
([5]) من تعريفات الورع نذكر ما يلي:
قال >: «مِلاك دينكم الورع».
قال عمر بن الخطاب }: «لا ينبغي لمن أخذ بالتقوى ووزن بالورع أن يذل لصاحب دنيا».
وسئل الشبلي عن الورع فقال: «أن تتورع ألا يتشتت قلبك عن الله طرفة عين».
وقال أبو سليمان الداراني: «الورع أول الزهد كما أن القناعة طرف من الرضا».
وسئل الخَوَّاصُ عن الورع فقال: «ألَّا يتكلم العبد إلا بالحق غضب أو رضي، وأن يكون اهتمامه بما يُرضي الله».
وقال الخَوَّاصُ: «الورع دليل الخوف، والخوف دليل المعرفة، والمعرفة دليل القرب».
([19]) رواه البيهقي في («السنن الكبرى»، 4/96)، والزبيدي في («إتحاف السادة»، 7/403)، البَغَوِيُّ في («شرح السنة»، 3/114).
([22]) رواه أبو نُعَيم في («الحِلية»، 4/121)، الألباني في («السلسلة الضعيفة»، 600)، والزَّبيدي في («إتحاف السادة»، 9/554)، وابن عدي في («الكامل في الضعفاء»، 2/701).
([28]) قال أبو الحسن بن سالم: هم ثلاثة: متصبر، وصابر، وصبار.
فالمتصبر: من صَبَّرَ اللهُ؛ فمرة يصبر ومرة يجزع، والصابر: من يصبر في الله ولله ولا يجزع، ولكن يتوقع منه الشكوى، وقد يمكن منه الجزع، وأما الصبار: فذاك الذي صبره في الله ولله وبالله؛ فهذا لو وقع عليه جميع البلايا لا يجزع ولا يتغير من جهة الوجود والحقيقة، لا من جهة الرسم والخلقة.
وإشارته في هذا ظهور حكم العلم فيه، مع ظهور صفة الطبيعة.
وكان الشبلي يتمثل بهذين البيتين:
إِنَّ صَوْتَ الْمُحِبِّ مِنْ أَلَمِ الشَّوْقِ |
* | وَخَوْفَ الْفِرَاقِ يُورِثُ ضُرَّا |
صَابَرَ الصَّبْرَ فَاسْتَغَاثَ بِهِ الصَّبْرُ |
* | فَصَاحَ الْمُحِبُّ لِلصَّبْرِ صَبْرَا |
قال جعفر الصادق: أمر الله تعالى أنبياءه بالصبر وجعل الحظ الأعلى لرسول الله > حين جعل صبره بالله لا بنفسه فقال: ﴿وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللهِ...﴾ [النحل: 127]. وأنشد إبراهيم الخواص:
صَبَرْتُ عَلَى بَعْضِ الْأَذَى خَوْفَ كُلِّهِ |
* | وَدَافَعْتُ عَنْ نَفْسِي لِنَفْسِي فَعَزَّتِ |
وَجَرَّعْتُهَا الْمَكْرُوهَ حَتَّى تَدَرَّبَتْ |
* | وَلَوْ لَمْ أُجَرِّعْهَا إِذَنْ لَاشْمَأَزَّتِ |
أَلَا رُبَّ ذُلٍّ سَاقَ لِلنَّفْسِ عِزَّةً |
* | وَيَا رُبَّ نَفْسٍ بِالتَّذَلُّلِ عَزَّتِ |
إِذَا مَا مَدَدْتُ الْكَفَّ أَلْتَمِسُ الْغِنَى
|
* | إِلَى غَيْرِ مَنْ قَالَ اسْأَلُونِي فَشُلَّتِ |
سَأَصْبِرُ جُهْدِي إِنَّ فِي الصَّبْرِ عِزَّةً |
* | وَأَرْضَى بِدُنْيَايَ وَإِنْ هِيَ قَلَّتِ |