الفصل الأول - في الكلام عن الكرامات
اعلم أنَّ الكلام في الكرامات تنحصر في طرفين:
الطرف الأول: الجواز، والثاني: الوقوع.
أما الجوازُ: فلا خفاء أن ظهور الكرامة من الأولياء من الممكنات؛ لأنَّه إن لم يكن من الممكنات فإما أن يكون من الواجبات، وإما أن يكون من المستحيلات، وباطل أن يكون من المستحيلات؛ فإن المستحيل هو الذي لو قدر وجوده لزم منه محال عقلًا، وباطل أن يكون جريانُ الكرامات على الأولياء وجوبًا؛ إذ الطائفة مجموعة على أنه قد يكون الولي وليًّا وإن لم تخرق العادة له؛ فتعين أن يكون من الجائزات، وكل شيء كان من الجائزات فلا يحيله العقل، وكل ما لا يحيله العقل ولم يرد بعدم وقوعه نقل؛ فجائز أن يكرم اللهُ به الأولياء.
ثم إن هذه الكرامة قد تكون طيًّا للأرض، ومشيًا على الماء، وطيرانًا في الهواء، واطِّلاعًا على الكوائن كانت، وكوائن بعدما لم تكن، من غير طريق العادة، وتكسير الطعام أو الشراب، أو إتيانًا بثمرة في غير إبَّانها، أو انبياع ماء من غير احتفار، أو تسخير الحيوانات العادية، أو إيجاب الدعوة بإتيان مطر في غير وقته، أو صبرًا على الغذاء مدة تخرج عن طور العادة، أو إثمار الشجرة اليابسة ما ليس عادتها أن تكون مثمرة.
وهذه كلها كرامات ظاهرة حسية، وكرامات هي عند أهل الله أفضل منها وأجَل وهي الكرامات المعنوية، كالمعرفة بالله والخشية منه، ودوام المراقبة، والمسارعة لامتثال أمره ونهيه والرسوخ، فاليقين والقوة والتمكين، ودوام المتابعة والاستماع من الله، والفهم عنه ودوام الثقة به، وصدق التوكل عليه، إلى غير ذلك.
وسمعت شيخنا أبا العباس يقول: الطي على قسمين: طي أصغر، وطي أكبر.
فالطي الأصغر لعامة هذه الطائفة: أن تطوى لهم الأرض من مشرقها إلى مغربها في نفس واحد، والطي الأكبر: طي أوصاف النفوس.
فإن الطي للأرض لو أعجزك الله عنه أو أفقدك إياه؛ ما نقص ذلك من رتبتك عنده، إذا قمت له بالوفاء في العبودية، وطي أوصاف النفوس، لو لم تقدم
عليه به لكنت من المغبونين، وحشرت في زمرة الغافلين.
قال الشيخ أبو الحسن }: هما كرامتان جامعتان محيطتان: كرامة الإيمان بما يزيد الإيقان وشهود العِيان، وكرامة العمل على الاقتداء والمتابعة ومجانبة الدعاوى والمخادعة، فمن أعطيهما ثم جعل يشتاق إلى غيرهما فهو عبد مغتر كذاب، أو ذو خطأ في العلم والعمل بالثواب، كمن أُكرم بشهود الملك على نعت الرضى، فجعل يشتاق إلى سياسة الدواب وخلع الرضى، وكل كرامة لا يصحبها الرضى عن الله ومن الله، فصاحبها مستدرج مغرور وناقص أو هالك مثبور.
واعلم أنَّ اطلاع أولياء الله تعالى على بعض الغيوب لا يحيله العقل، وقد ورد به النقل، قال أبو بكر الصديقُ } لابنته عائشة رضي الله عنها في مرض موته، وزوجته حامل: «إنما هما أخواك وأختان، دون بطن خارجة، أراها جارية»، فأخبر أن في بطن امرأته جارية، وكان كما قال.
وقول عمر }: «يا ساريةُ الجبل!» وسارية بأقصى العراق فسمع سارية صوته، وكان قد أطلعه الله على سارية، وقد أحاط به العدو، فأمره بالانحياز إلى الجبل، فانحاز هو والجيش الذي معه؛ فانتصروا وظفروا، وكان قد قال ذلك، وهو في أثناء خطبته على المنبر، فترك الخطبة وقال: «يا سارية الجبل»، ثم عاد إلى الخطبة، فجاء بعض الصحابة إلى علي } فقالوا له: بينما عمر اليوم يخطب إذ ترك الخطبة، وقال: يا سارية الجبل ثم عاد إلى خطبته. فقال علي } ويحكم! دعوا عمر، فإنه ما دخل في شيء إلا كان له المخرج منه فبعد ذلك قدم سارية وأخبر عن ذلك اليوم أنه سمع نداء عمر في الوقت الذي نادى.
وقال عثمان } لداخل دخل عليه، وكان قد نظر إلى محاسن امرأة في الطريق: يدخل أحدهم، وآثار الزنا بادية في وجهه.
وأما علي } فقد جاء عنه في هذا الباب العجب العجاب، حتى إنَّه ذكر الإخباريون أنه أُرْجِفَ بالكوفة أن معاوية قد مات، فقال علي } إذ بلغه: «والله ما مات، ولن يموت حتى يملك تحت قدميه هاتين، وإنما أراد ابن هند أن يشيع ذلك حتى يستتر علمي فيه»، يومئذ كاتَب أهل الكوفة معاويةَ، وعلموا أن الأمر سائر إليه.
وحكايات الأولياء في كل زمن وقطر تضمن ثبوت ذلك كما بلغ حد التواتر؛ فلا يمكن جحده، ثم إن أدلك رحمه الله على أمر يسهل عليك التصديق بذلك، وهو اطَّلاع العبد المخصوص على غيب من غيوب الله، ليس بجثمانيته ولا وجود صورته،
وإنما هو بنور الحق فيه، دليل ذلك قوله >: «اتقوا فراسة المؤمن؛ فإنه ينظر بنور الله»([1]).
فكيف يُستغرب أن يطَّلِعَ مؤمن على غيب من غيوب الله، بعد أن شهد له رسول الله > أنه إنما ينظر بنور الله لا بوجود نفسه! وكذلك قوله في الحديث الذي تقدم: «فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به...ۜ» [الحديث]، وما كان الحق بصرَه فليس الاطلاع على الغيب بمستغرب.
وفي بعض طرق هذا الحديث: «فإذا أحببته كنت له سمعًا وبصرًا ولسانًا، وقلبًا وعقلًا، ويدًا ومؤيدًا».
فإن قلت كيف يصنع بقوله تعالى: ﴿عَالِمُ الغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (٢٦) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ...﴾([2])؛ فلن يُستثنى أحد إلا الرسول.
فاعلم أني سمعت من شيخنا أبي العباس يقول: «وفي معناها: أو صديق أو ولي».
فإن قلت: هذه زيادة على ما تضمنه كتاب العزيز؛ فاعلم أنه قيل إن السلطان لم يأذن اليوم إلا للوزير وحده، ربما دخل مماليك الوزير معه وكان الإذن لمتبوعهم إذنًا لهم، كذلك الولي إذا أطلعه الله على غيب من غيوبه، فإنما ذلك لانطوائه في جاه النبوة، وقيامه بصدق المتابعة، فما رأى ذلك بنفسه وإنما رآها بنور متبوعه.
وأيضًا إنَّ الآية تشير إلى نفي اطِّلاع العباد على غيب الله إلا من أطلعه الله، وبَيَّنَ سبحانه سبب اطِّلَاعِهِ على غيب من غيوبه، وإنما ذلك كان مرتضى عنده بقوله: ﴿...إِلَّا مَنِ ارْتَضَى...﴾ وقوله: ﴿...مِنْ رَسُولٍ...﴾، خص الرسول بالذكر ولم يذكر النبي ولا الصديق ولا الولي، وإن كان كل منهم ممن ارتضى؛ لأنَّ الرسول أولى بذلك مما سواه، أمور تسهل عليك إيمانًا بكرامات أولياء الله، وألَّا تستكثرها عليهم.
الأول: أن نعلم أن قدرة الله التي لا يكبر عليها شيء هي التي أظهرت
الكرامة في هذا الولي، فلا تنظر إلى ضعف العبد، ولكن انظر إلى قدرة السيد، فجحد الكرامة في الولي لقدرة العزيز القدير، وعمَّا منعك من شهود عظمة وصفه سبحانه.
الثاني: أنَّه ربما كان سبب إنكار الكرامة استكثارها على ذلك العبد الذي أضيفت إليه، وذلك العبد إنما أظهرك الكرامة عليه شاهدة بصدق طريق متبوعه؛ فهي بالنسبة إلى من ظهرت عليه -وهو ذلك الولي- كرامة.
وهي بالنسبة ببركات متابعته معجزة؛ فلذلك قالوا: كل كرامة لولي، فهي معجزة لذلك النبي الذي هذا الولي متَّبِع له، فلا تنظر إلى التابع، ولكن انظر إلى عظم قدرة المتبوع.
الثالث: أن تعلم أن الذي أعطاه الله سبحانه لأوليائه من الإيمان واليقين، مما أنت مصدق به ومثبت له -أعظم مِمَّا استغربته وأنكرته من اطلاع على غيب، أو من طيران في الهواء، أو مشي على الماء؛ فمَثَلَك إذا استغربت ذلك على المؤمن كمثل من يستغرب على عبد من خواص الملك، أعطاه الملك سفطًا مملوءًا ياقوتًا ثمينًا علمت به أنت، كل ياقوتة تضمنه ذلك السفط تساوي عشرة آلاف دينار.
ثم قال ذلك العبد الذي هو من خواص الملك، أو قيل عنه: إن الملك قد أعطاه مئة دينار فاستغربت ذلك، فهل يستصوب استغفارًا بك، هذا ذو فهم ولب، وما أكرم الله العباد في الدنيا والآخرة كرامة بمثل الإيمان به والمعرفة بربوبيته؛ لأن كل خير من خير الدنيا والآخرة، فإنما هو فرع الإيمان بالله من أحوال ومقامات وأوراد وواردات، وكل نور وعلم وفتح ونفوذ إلى غيب، وسماع مخاطبة وجريان كرامة، وما تضمنه الجنة من حور وقصور وأنهار وثمار، وكان بها أهلها فيها من: رضى عن الله، رضى من الله، ورؤية لله.
فكل ذلك نتائج الإيمان ووجوه آثاره، وامتداد أنواره -جعلنا الله وإياك لتسليم في مراده- واعلم أن من الناس من واجهه الخذلان من الله، فأنكر كرامات أولياء الله أصلًا، فنعوذ بالله من هذا المذهب، وهو حقيق ألَّا يذكر، لكن سبب ذكره ليعلم أن الله إذا أراد أن يضل عبدًا، لم ينصره عقل ولم ينفعه علم، قال الله سبحانه: ﴿...وَمَنْ يُرِدِ اللهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللهِ شَيْئًا...﴾([3])، وقال سبحانه: ﴿فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾([4]).
وقال تعالى: ﴿...وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ﴾([5])، كذلك كانت الأحوال والأقوال والأفعال، ومراتب الإنزال موقوفة على توقيفه لا توجب أنوارًا ولا تستحق قبولًا، ولا يستوجب صاحبها إقبالًا حتى ينصره التوفيق، ولعزازة قدره عند الله لم يذكره في كتابه العزيز إلا في موضع واحد، فقال سبحانه: ﴿...وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللهِ...﴾([6])، والجانب للتوفيق وعلامته صدق الرُّجْعَى إلى الله في أول كل فعل وترك، بتحقيق الفقر والفاقة إليه الانغماس في بحر الذلة والمسكنة بين يديه، واستصحاب ذلك إلى الفراغ، ومن بعد ذلك أبدًا، وقد قال الله تعالى: ﴿وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ...﴾([7]) وقال: ﴿إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالمَسَاكِينِ...﴾([8]).
فلا يدخل جنة علمك، وعملك وما أعطيت من نور وفتح، فتقول كما قال من خذل فأخبر الله عنه بقوله: ﴿وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا﴾([9]) الآية. ولكن ادخلها كما بَيَّنَ لك وقل كما رضي لك، ﴿وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ...﴾([10]).
وافهم ها هنا قوله >: «لا حول ولا قوة إلا بالله كنز من كنوز الجنة»([11])، وفي رواية «كنز من كنور تحت العرش»، فالترجمة ظاهرة الكنز والمكنوز فيها هو صدق التبري من الحول والقوة، والرجوع إلى حول الله وقوته، ومن أنكر كرامات الأولياء فالدلائل النقلية والعقلية ترد عليه، ويخشى على من هذا مذهبه سوء الخاتمة.
ومن الناس فرقة أخرى صَدَّقُوا بكرامات الأولياء الذين ليسوا في زمنهم كمعروف والسري والجنيد وأشباههم، وكذبوا بكرامات أولياء زمانهم؛ فهي كما قال الشيخ أبو الحسن: «واللهِ ما هي إلا إسرائيلية، صدقوا بموسى وعيسى عليهما السلام، وكَذَّبُوا بمحمد >؛ لأنهم أدركوا زمنه»، وفرقة أخرى يصدقون بأن في مملكة الله
أولياء لهم كرامات من غير أن يسلموا ذلك لأحد من أهل زمنهم معينًا؛ فكل من ذكر لهم أنه ولي، أو نسبت إليه كرامة، دافعوا إثبات ذلك بمقاييس اقتضتها عقولهم المعقولة بعقال الغفلة المخدوعة بمتابعة الهوى، فلن يُجدي عليهم هذا التصديق وجود الاقتداء، ولا إشراق نور الاهتداء؛ إذ الاقتداء لا يكون بولي مجهول العين في كون الله، بل إنما يكون الاقتداء بولي دلَّك الله عليه، وأطلعك على ما أودعه من الخصوصية لديه، فطوى عنك شهود بشريته في وجود خصوصيته، فألقيت إليه القياد فسَلَكَ بك سبيل الرشاد، يعرفك برعونات نفسك، وكمائنها ودفائنها، ويدلُّكَ على الجمع على الله، ويعلمك القرار عَمَّا سوى الله، ويسايرك في طريقك حتى تصل إلى الله، ويُوقِفُك على إساءة نفسك، ويعرفك بإحسان الله إليك، فيفيدك معرفة إساءة نفسك الهرب منك وعدم الركون إليها، ويفيدك العلم بإحسان الله إليك الإقبالَ عليه والقيام بالشكر إليه، والدوام على مَمَرِّ الساعات بين يديه.
فإن قلت فأين من هذا وصفُه، لقد دَلَلْتَنِي على أغرب من عنقا مُغرب.
فاعلم: أنه لا يعوزك وجدانُ الدالِّين، وإنما يعوزك وجود الصديق في طلبهم، جِدْ صِدقًا تجد مرشدًا، وتجد ذلك في آيتين من كتاب الله تعالى: ﴿أَمَّنْ يُجِيبُ المُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ...﴾([12])، وقال تعالى: ﴿...فَلَوْ صَدَقُوا اللهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ﴾([13]).
فلو اضْطُرِرْتَ إلى من يوصلك إلى الله اضطرار الظمآن إلى الماء، والخائف للأمن؛ لوجدت ذلك أقرب إليك من وجود طلبك، ولو اضطررت إلى رحمة الله اضطرار الأم لولدها إذا فقدَتْهُ؛ لوجدت الحق منك قريبًا ولك مجيبًا، ولوجدت الوصول غير متعذر عليك، ولتوجه الحق بتيسير ذلك إليك؛ فهذا الكلام في طرفي الجواز والوقوع جميعًا، وذكر أعيان الكرامات التي اتفقت السلف { لا يُستطاع حصرها، وقد أشبع القول فيها الأستاذ أبو القاسم القشيري في رسالته وأفرد له بابًا.
واعلم: أنَّ الكرامة تارة تظهر للولي في نفسه، وتارة تظهر فيه لغيره، فإن أظهرت للولي في نفسه؛ فالمراد تعريفه بقدرة الله وفرديته وأحاديثه، وأن قدرته لا تَتَوَقَّفُ على الأسباب، وأن العوائد هو حاكم عليها، ليست
هي حاكمة عليه، وإنما جعل العوائدَ والوسائطَ والأسبابَ حُجُبَ قدرته، وسُحُبَ شمسِ أحديته، فواقف عندها مخذول، ونافذ منها إليه هو بالعناية موصول.
قال الشيخ أبو الحسن: «فائدة الكرامة تعريف اليقين من الله بعلم والقدرة والإرادة والصفات الأزلية، بجمع لا يفترق وأمر لا يتعدد، كأنها صفة واحدة قائمة بذات الواحد يستوي من تعرف الله إليه بنوره، كمن تعرف إلى الله بعقله، ولأجل أنها تثبت لمن أظهرت له، ربما وجدها أهل البدايات في بداياتهم، وفقدها أهل النهايات في نهاياتهم؛ إذ ما عليه أهل النهايات من الرسوخ في اليقين والقوة والتمكين، لا يحتاجون معه إلى تثبيت».
وهكذا كان السلف {، لم يُحْوِجْهُمْ الحق سبحانه إلى وجود الكرامات الحسية لمَا أعطاهم من المعارف الغيبية والعلوم الإشهادية، ولا يحتاج جبل إلى مرساة؛ فالكرامة دافعة لذلة الشك في المنة، ومعرفة بفضل الله فيمن أظهرت عليه، وشاهدة له الاستقامة مع الله سبحانه، والناس في الكرامات على ثلاثة أقسام:
1- قسم يجعلونها غاية الأمر، فإن وجدوها عَظَّمُوا من أظهرت عليه، وإن فقدوها لم يتوجهوا بالتعظيم إليه.
2- قسم قالوا: «وما هي الكرامة؟ إنما هي خدع بها أهل الإرادة ليقفوا على حدودهم حتى لا يلجوا مقامًا ليس هو لهم»، حتى قال أبو تراب النخشبي لأبي العباس الرِّقي: ما تقول أصحابك في هذه الأمور التي يُكرم الله به عباده؟ فقلت: ما رأيت أحدًا إلا وهو يؤمن بها. فقال: ومن لا يؤمن بها فقد كَفَرَ، إنما سألتك من طريق الأحوال. فقلت: ما أعرف لهم قولًا. قال: بل قد زعم أصحابك أنها خدع من الحق وليس الأمر كذلك، إنما الخدع في حال السكون إليها، فإما من لم يفرح بها ولم يُساكنها فتلك مرتبة الربانيين.
وكان هذا من أبي تراب بعد أن عَطش أصحابه فضرب الأرض فنبع الماء. فقال فتى هناك: أريد أن أشرب في قدح. فضرب بيده الأرض وناوله قدحًا من زجاج أبيض، فشرب وسقانا.
قال أبو العباس الرِّقي: وما زال القدح معنا إلى مكة.
والقول الفصل في ذلك أنه لا ينبغي
أن تطلب أدبًا مع الله، ومن أظهرت عليه عظم؛ لأنَّها شاهدة له بالاستقامة مع الله.
3- قسم: وهو أن تظهر الكرامة في الولي لغيره، فالمراد بذلك تعريف العبد الذي شهدها بصحة طريق هذا الولي الذي ظهرت عليه الكرامة، إما أن يكون جاحدًا فيرجع إلى الاعتراف، أو كافرًا فيعود إلى الإيمان، أو شاكًّا في خصوصية ذلك العبد، فأظهرت عليه؛ ليعرفك الله بما فيه من ودائع الإحسان، وقد انبسط الكلام في هذه المقدمة، وما كان ذلك لنا باختيار، ولكن قد تَضَمَّنَ علومًا وأسرارًا إذا اطلعت على من له نصيب من المنة مشرقات الأنوار، وهذا، أو إن ابتدائنا، بما قصدنا، وإظهارنا ما إليه عمدنا، والله هو القائم بالبيان وهو ولي الفضل والإحسان، له الحمد كما يجب لجلاله، والشكر لتوالي نعمه وأفضاله، «وهو حسبنا، ونعم الوكيل».
أما الكتاب فهو ينقسم كما تقدم إلى عشرة أبواب.
([1]) رواه الترمذي في («سننه» 3127)، ورواه أبو حنيفة في («مسند» 1/189)، وأبو نعيم في («حلية الأولياء»، 4/94)، والطبراني في («المعجم الكبير»، 8/121)، والبغوي في («السنة»، 14/31)، وابن كثير في («التفسير»، 1/479 - 4/461)، والزَّبِيدِي في («إتحاف السادة المتقين»، 6/544 - 7/259)، ورواه ابن حجر في («فتح الباري»، 12/388)، والهندي في («كنز العمال»، 30730)، وابن حجر في («لسان الميزان»، 5/1154).
([11]) حديث صحيح: رواه مسلم في صحيحه، وأحمد في («المسند»، 5/156)، والحافظ الهيثمي في («مجمع الزوائد»، 10/98)، والزَّبيدي في («إتحاف السادة»، 9/466)، والطبراني في («المعجم الكبير»، 19/421).