الباب الأول - في التعريف بشيخه الذي أخذ عنه هذا الشأن
في التعريف بشيخه الذي أخذ عنه هذا الشأن وشهادة من عَاصَرَهُ
من أهل زمانه من العلماء الأعيان أنه قطب الزمان
والحامل في وقته لواء أهل العيان
هو الشيخ الإمام، حجة الصوفية، وعلم المهتدين، زين العارفين، أستاذ الأكابر، والمنفرد في زمنه بالمعارف السَّنِيَة والمفاخر، والعالم بالله والدال على الله، زمزم الأسرار ومعدن الأنوار، القطب الغوث الجامع، تقي الدين أبو الحسن علي بن عبد الله بن عبد الجبار بن تميم بن هرمز بن عيسى ابن محمد بن الحسن بن علي بن أبي طالب، عرف الشاذلي منشأه بالمغرب الأقصى، ومبدأ ظهوره بشاذلة، بلدة على القرب من تونس، وإليها نسب له السياحات الكثيرة والمنازلات الجليلة والعلوم الكثيرة لم يدخل في طريق الله حتى كان يعد للمناظرة في العلوم الظاهرة، ذو علوم جمة.
ذكره الشيخ صفي الدين بن أبي المنصور في كتابه، وأثنى عليه الثناء الكثير، وذكره الشيخ قطب الدين بن القسطلاني في جملة من لقيه من المشايخ وأثنى عليه، وذكره الشيخ أبو عبد الله بن النعمان وشهد له بالقطبانية، وذكره الشيخ عبد الغفار بن نوح } في كتاب «التوحيد» وأثنى عليه، ولم يختلف في قطبانيته ذو قلب مستنير ولا عارف بسعير.
جاء في هذا الطريق بالعجب العجاب، وشرع من علم الحقيقة الإطناب، ووسع السالكين الرحاب، حتى لقد سمعت الشيخ الإمام مفتي المسلمين تقي الدين محمد بن القشيري يقول: «ما رأيت أعرفَ بالله من الشيخ الشاذلي».
وأخبرني الشيخ العارف مكين الدين الأسمر أنه قال: حضرت بالمنصورة في خيمة فيها الشيخ الإمام مفتي الأنام عز الدين بن عبد السلام([1])، والشيخ مجد الدين علي بن وهب القشيري المدرس، والشيخ محيي الدين بن سراقة، والشيخ مجد الدين الأخميمي، والشيخ
أبو الحسن الشاذلي، و«رسالة القُشَيْرِيِّ» تُقْرَأُ عَلَيْهِم، وهم يتكلمون والشيخ أبو الحسن صامت إلى أن فرغ كلامهم، فقالوا: «يا سيدي، نريد أن نسمع منك» فقال: «أنتم سادات الوقت وكبراؤه وقد تكلمتم»، فقالوا: «لا بد أن نسمع منك»، قال: فسكت الشيخ ساعة ثم تكلم بالأسرار العجيبة والعلوم الجليلة، فقام الشيخ عز الدين وخرج من صدر الخيمة، وفارق موضعه، وقال: «اسمعوا هذا الكلام الغريب القريب العهد من الله».
وأخبرني الشيخ أبو عبد بن الحاج، قال: أخبرني الشيخ أبو زكريا يحيى البلبيسي، قال: صحبت الشيخ أبا الحسن الشاذلي، ثم سافرت إلى الأندلس، فقال لي الشيخ أبو الحسن عند وداعي إياه: «إذا وصلت إلى الأندلس، فاجتمع بالشيخ أبي العباس بن مكنون؛ فإنه اطلع على الوجود وعرف حيث هو، ولم يطلع الناس على أبي العباس فيعلموا حيث هو» قال: فلما جئت إلى الأندلس جئت إلى الشيخ أبي العباس بن مكنون، فحين وقع بصره عليَّ، قال ولم يعرفني قبله: «جئت يا يحيى -حييت- الحمد لله على اجتماعك بقطب الزمان، يا يحيى، الذي أخبرك به الشيخ أبو الحسن لا تخبر به أحدًا».
وأخبرني رشيد الدين بن الرايس، قال: تخاصمت أنا وبعض أصحاب الشيخ فأتيت إلى الشيخ أبي الحسن فذكرت مقالتنا له، فقال الشيخ: «كنت تقول له: أنا رباني القطب ومن رباه القطب رباه أربعون بدلًا!».
وأخبرني والدي رحمه الله، قال: دخلت على الشيخ أبي الحسن الشاذلي }، فسمعته يقول: «واللهِ، قد تسألوني عن المسألة ليكون لها عندي جواب، فأرى الجواب مسطرًا في الدواة والحصير والحائط».
وأخبرني بعض أصحابنا، قال الشيخ أبو الحسن يومًا: «واللهِ، ليتنزل عَلَيَّ المَدُّ فأرى سريانه فِيَّ، كالحوت في الماء والطائر في الهواء». وكان الشيخ أمين الدين جبريل حاضرًا فقال للشيخ أبي الحسن: «فأنت إذن القطب، فأنت إذن القطب». فقال الشيخ أبو الحسن: «أنا عبد الله، أنا عبد الله».
وأخبرني بعض أصحابنا، قال الشيخ أبو الحسن: «والله ما وَلَّى الله وليًا إلا وضع حُبَّهُ في قلبي قبل أن يوليه، ولا رفض عبدًا إلا وألقى الله بُغْضَهُ في قلبه قبل أن يرفضه».
وأخبرني بعض أصحابنا، قال: لَمَّا رجع الشيخ أبو الحسن من الحج أتى
إلى الشيخ الإمام عز الدين بن عبد السلام قبل أن يأتي منزله، فقال له: «الرسول > يسلم عليك»، قال: فاستصغر الشيخ عز الدين نفسه أن يكون أهلًا لذلك.
قال: فدُعِيَ الشيخ عز الدين إلى خَانِقَاهِ الصوفية بالقاهرة، وحضر معه الشيخ محيي الدين بن سراقة، وأبو العلم يس أحد أصحاب ابن عرابي، فقال الشيخ محيي الدين بن سراقة: «الشيخ عز الدين، ليحفظكم ما سمعنا يا سيدي، واللهِ إن هذا شيء يُفْرَحُ به أن يكون في هذا الزمن من يُسَلِّمُ عليه رسول الله >»، فقال الشيخ عز الدين: «الله يسترنا»، فقال أبو العلم يس: «اللهم افضحنا حتى يتبين المحق من المبطل».
ثم أشاروا للقوال أن يقول وهو بالبُعْدِ، بحيث لا يسمع ما دار بينهم، فكان أول ما قال:
صَدَقَ الْمُحَدِّثُ وَالْحَدِيثُ كَمَا جَرَى
|
فقام الشيخ عز الدين وطاب منه، وقام الجمع لقيامه.
وأخبرني الفقير مكين الدين الأسمر، قال: «سمعت مخاطبة الحق»، فقلت: «يا سيدي كيف كان ذلك؟»، فقال: «كان في الإسكندرية بعض الصالحين صحب الشيخ أبا الحسن، ثم كبر عليه ما سمعه منه من العلوم الجليلة والمخرفات، فلم يسمع ذلك عقله، فانقطع عن الشيخ أبي الحسن }، فبينما أنا ليلة من الليالي، وأنا أسمع أن فلان دعانا في هذا الوقت بِسِتِّ دعوات، فإن أراد أن يُستجاب له فليأتِ إلى الشيخ الشاذلي دعانا بكذا. دعانا بكذا. حتى عينت لي الست دعوات»، قال: ثم انفصل الخطاب عني فنظرت إلى المتوسط في ذلك الوقت، فعرفت الوقت الذي كان ذلك الرجل دعا فيه، ثم أصبحت فذهبت إلى ذلك الرجل فقلت له: «دعوت الله البارحة بست دعوات. دعوته بكذا دعوته بكذا إلى أن عددت له الست دعوات». فقال: «نعم»، فقلت: «تريد أن يستجاب لك؟» قال: «ومن لي بذلك؟» فقلت له: «قيل لي إن أراد أن يستجاب له فليأت إلى الشيخ الشاذلي».
وسمعت شيخنا أبا العباس يقول: كان الشيخ قد قال لي: «إن أردت أن تكون من أصحابي؛ فلا تسأل من أحد شيئًا»، فمكثت على ذلك سنة، ثم قال لي: «إن أردت أن تكون من أصحابي فلا تقبل من أحد شيئًا»، فكان إذا اشتد عليَّ الوقت أخرج إلى ساحل بحر الإسكندرية، ألتقط ما يرميه البحر بالساحل من قمح حين يرفع من المراكب، فأنا يومًا على ذلك وإذا عبد القادر النَقَّاد -وكان من أولياء الله تعالى- يفعل كفعلي؛ فقال لي: «اطلعت البارحة على مقام الشيخ أبي الحسن»، فقلت له: «وأين مقام الشيخ؟»، فقال: «عند
العرش»، فقلت له: «ذلك مقامك، ينزل لك الشيخ حتى رأيته»، ثم دخلت أنا وهو على الشيخ فلما استقر بنا المجلس قال الشيخ: «رأيت البارحة عبد القادر في المنام فقال لي: أَعَرْشِيٌّ أنت أم كُرْسِيٌّ؟» فقلت له: «دع عنك هذا، ذي الطينة أرضيَّهْ والنفس سماويَّهْ، والقلب عرشي، والروح كرسي، والسر مع الله بلا أين، والأمر يتنزل فيما بين ذلك، ويتلوه الشاهد منه».
وقدم بعض الدَّالِّينَ على الله إلى الإسكندرية، فقال الشيخ مكين الدين الأسمر: هذا الرجل يدعو الناس إلى باب الله. وكان الشيخ أبو الحسن يدخلهم على الله، وقال الشيخ أبو العباس }: كنت مع الشيخ أبي الحسن بالقيروان، وكان شهر رمضان، وكانت ليلة جمعة، وكانت ليلة سبعة وعشرين، فذهب الشيخ إلى الجامع وذهبت معه، فلما دخل الجامع وأحرم رأيتُ الأولياء يتساقطون عليه كما يتساقط الذباب على العسل، فلما أصبحنا وخَرَجْنَا من الجامع، قال الشيخ: ما كانت البارحة إلا ليلة عظيمة، «وكانت ليلة القدر» ورأيت الرسول > وهو يقول: «يا علي، طهر ثيابك من الدنس تَحْظَ بمدد الله في كل نفس». قلت: يا رسول الله، وما ثيابي؟ قال: «اعلم أن الله قد خلع عليك خمس خِلَع: خلعة المحبة، وخلعة المعرفة، وخلعة التوحيد، وخلعة الإيمان، وخلعة الإسلام؛ فمن أحب الله هان عليه كل شيء، ومن عرف الله صغر لديه كل شيء، ومن وَحَّدَ الله لم يشرك به شيئًا، ومن آمن بالله أَمِنَ من كل شيء، ومن أسلم لله قَلَّمَا يوصيه، وإن عصاه اعتذر إليه، وإن اعتذر إليه عذره»؛ ففهمت حينئذ معنى قوله عز وجل: ﴿وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ﴾ [المدثر: 4].
وقال الشيخ أبو العباس: جُلْتُ في ملكوت الله، فرأيت أبا مَدْيَنٍ متعلقًا بساق العرش وهو رجل أشقر أزرق العينين، فقلت له: ما علومك؟ وما مقامك؟ فقال: أما علومي فأحد وسبعون علمًا، وأما مقامي فرابع الخلفاء، ورأس السبعة الأبدال. فقلت: ما تقول في شيخي أبي الحسن الشاذلي؟ فقال: زاد عليَّ بأربعين علمًا، هو البحر الذي لا يُحَاطُ به.
وأخبرني بعض أصحابنا، قال: قيل للشيخ أبي الحسن: من هو شيخك يا سيدي؟ فقال: كنت أنتسب إلى الشيخ عبد السلام بن مشيش، وأنا الآن لا أنتسب إلى أحد، بل أعوم في عشرة أبحر، خمسة من الآدميين: النبي >، وأبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي. وخمسة من الرُّوحانيين: جبريل، وميكائيل، وعزرائيل، وإسرافيل، والروح.
وأخبرني ولد سيدنا ومولانا الإمام العارف شهاب الدين، قال: قال الشيخ عند موته: «واللهِ، لقد جئت في هذا الطريق بما لم يأتِ به أحد»، ومن الأمر المشهور أنه لما دفن «بحميثرا» وغسل من مائها تكثَّر الماء بعد ذلك وعَذُبَ، حتى صار يكفي الركب إذا نزل عليه، ولم يكن قبل ذلك كذلك.
وكتب إليَّ الشيخ أبو عبد الله ابن النعمان أبياتًا يوصيني فيها الشيخ أبي العباس منها:
عَطَا إِلَهُ الْعَرْشُ فِي الثُّغْرِ أَحْمَدُ |
* | سُرِرْتُ بِهِ فِي الصَّحْبِ فَاللهَ أَحْمَدُ |
ثم يقول في الشيخ أبي العباس:
وَوَارِثُ عِلْمِ الشَّاذِلِيِّ حَقِيقَةً |
* | وَذَلِكَ قُطْبٌ فَاعْلَمُوهُ وَوَاحِدُ |
رَأَيْتُ لَهُ بَعْدَ الْمَمَاتِ عَجَائِبًا |
* | تَدُلُّ عَلَى مَنْ كَانَ لِلْفَتْحِ يَجْحَدُ |
فالذي عنى الشيخ أبو عبد الله يقول: «رأيت له بعد الممات عجائبًا، أن حلي الماء فوق ما كان وتكثر، لَمَّا غُسِّلَ منه».
وأخبرني بعض أصحابنا، قال: قال الشيخ: «قيل لي ما على وجه الأرض مجلس في الفقه أبهى من مجلس الشيخ عز الدين بن عبد السلام، وما على وجه الأرض مجلس في علم الحديث أبهى من مجلس الشيخ زكي الدين عبد العظيم، وما على وجه الأرض مجلس في علم الحقائق أبهى من مجلسك».
وقال الشيخ أبو العباس: لما نزلت بتونس وكنت أتيت من «مُرْسِيَةَ» وأنا إذ ذاك شاب، فسمعت بذكر الشيخ أبي الحسن الشاذلي، فقال لي رجل: «تمض بنا إليه؟»، فقلت: «حتى أستخير الله»، فنمت تلك الليلة فرأيت كأني أصعد إلى رأس جبل، فلما علوت فوقه رأيت هنالك رجلًا عليه بُرْنُس أخضر وهو جالس، وعن يمينه رجل وعن يساره رجل، فنظرت إليه فقال: «عثرت على خليفة الزمان».
قال: فانتبهت فلما كان بعد صلاة الصبح، أتاني الرجل الذي دعاني إلى الشيخ، فسرت معه، فلما دخلنا على الشيخ رأيته بالصِّفَةِ التي رأيته فوق الجبل، قال: فدهشت فقال لي: «عثرت على خليفة الزمان، ما اسمك؟»، فذكرت له اسمي ونسبي. فقال لي: «رفعت لي منذ عشر سنين».
وقال الشيخ أبو العباس: لَمَّا قدمنا من المغرب إلى الإسكندرية نزلنا عند عمود السواري من ظاهرها، وكان وصولنا عند اصْفِرَارِ الشمس وكانت بنا فاقة وجوع شديد، فبَعَثَ لنا رجل من عدول الإسكندرية طعامًا، فلما قيل
للشيخ عنه. قال: «لا يأكل أحد مِنَّا شيئًا»، فبتنا على ما نحن عليه من الجوع، فلما كان عند الصبح صلى بنا الشيخ، وقال: «مُدوا السِّماط وأحضروا ذلك الطعام» ففعلوا، وتقدمنا فأكلنا فقال الشيخ: «رأيت في المنام قائلًا يقول أحل الحلال ما لم يخطر لك ببال؟ ولا سألت فيه أحدًا من النساء والرجال».
وقال الشيخ أبو العباس: كنت ليلة من الليالي نائمًا بالإسكندرية، وإذا قائلًا يقول: «مكة والمدينة»، فلما أصبحت عزمت على السفر، وكان الشيخ بالمقياس بالقاهرة، فسافرت إليه، فلما مثلت بين يديه قال لي: «مكة والمدينة»، فقلت: «لأجل ذلك جئت يا سيدي، عزمت على الحج وما معي شيء من الدنيا»، فقال لي الشيخ: «أي شيء معك؟» قلت: «عشرة دنانير»، قال: «ادفعها لهذا الرجل»، فدفعتها له، فقال لي الشيخ: «إذا كان غد اخرج إلى الساحل، واشترِ لي عشرين إردبًّا قمحًا»، فأصبحت ونزلت إلى الساحل، واشتريت عشرين إردبًّا، وحملت القمح على المخزن، وأتيت الشيخ فقال لي: «هذا القمح قالوا لي إنه مسوس، ما نأخذ منه شيئًا»، فبقيت متحيرًا لا أدري كيف أصنع، فبقيت ثلاثة أيام لا يطالبني صاحب القمح بالثمن، فلما كان اليوم الرابع، وإذا رجل يطوف عَلَيَّ، فلما رآني قال: «أنت صاحب القمح؟» فقلت: «نعم»، قال: «تأخذ فيه فائدة ألف درهم؟»، قلت: «نعم»، قال: فوزن لي ألف درهم، فوضع الله لي البركة فيها، فلو قلت إني أنفق منها إلى اليوم لصدقت.
وقال الشيخ أبو العباس: سافرنا مع الشيخ } في السنة التي توفي فيها، فلما كُنَّا عند أخميم، قال لي الشيخ: رأيت البارحة كأني في جلبة، وأنا في البحر، والرياح قد اختلفت، والأمواج قد تلاطمت، والمركب قد انفتحت، وأشرفنا على الغرق، فأتيت إلى جانب المركب وقلت:
«أيها البحر، إن كنت أمرت بالسمع والطاعة لي؛ فالمنة لله السميع العليم، وإن كنت أمرت بغير ذلك؛ فالحكم لله العزيز الحكيم»، فسمعت البحر يقول: «الطاعة الطاعة»، فلما سافرنا وتوفي الشيخ } دَفَنَّاه بحميثرا من صحراء عيذاب، ركبنا في جلبة، فلما صرنا في وسط البحر تلاطمت الأمواج واختلفت الرياح وانفتحت الجلبة، وأشرفنا على الغرق، وأُنْسِيتُ كلام الشيخ، فلما اشتد الأمر ذكرت ذلك، فأتيت إلى جانب المركب، وقلت: «أيها البحر، إن كنت قد أُمرت بالسمع والطاعة لأولياء الله، فالمنة لله السميع العليم». ثم قلت كما قال الشيخ: «بالسمع والطاعة لي، وإن كنت أُمِرْتَ بغير ذلك فالحكم لله
العزيز الحكيم»، فسمعت البحر يقول: «الطاعة الطاعة»، وسكن البحر، وطاب السفر.
وقال الشيخ أبو العباس: كنت مع الشيخ في بحر عيذاب، وكنا في شدة من الريح الأزْيَب، وكان المركب قد انفتح، فقال الشيخ }: «رأيت السماء قد انفتحت ونزل منها ملكان، أحدهما يقول: موسى أعلم من الخضر، والآخر يقول: الخضر أعلم من موسى، ونزل ملك آخر وهو يقول: والله ما علم الخضر في علم موسى إلا كعلم الهدهد في علم سليمان حين قال: أحطت بما لم تُحِطْ به. ففهمت أن الله سلمنا في سفرنا؛ فإن موسى سُخِّرَ له البحر».
وقال أبو العباس: قال رجل للشيخ: ما تقول في الخضر: أحي هو أم ميت؟ فقال الشيخ: اذهب إلى الفقيه ناصر الدين بن الأنباري؛ فإنه يفتي أنه حي وأنه نبي، والشيخ عبد المعطي لقيه. وسكت ساعة وقال: أنا لقيته وسبابته ووسطاه سواء.
واعلم أنَّ بقاء الخضر قد أجمعت عليه هذه الطائفة، وتَوَاتَرَ عن أولياء كل عصر لقاؤه والأخذ عنه، واشتهر ذلك إلى أن بلغ الأمر حد التواتر الذي لا يمكن جحده، والحكايات في ذلك كثيرة.
قال الشيخ أبو الحسن: «لقيت الخضر في صحراء عيذاب، فقال لي: يا أبا الحسن، أصحبك اللطف الجميل، وكان لك صاحبًا في المقام وفي الرحيل».
وذكر ابن عربي أن أبا السعود بن الشبلي كان في مدرسة الشيخ عبد القادر الجيلاني يكنس فيها، فوقف الخضر على رأسه، فقال: «السلام عليكم»، فرفع أبو السعود رأسه فقال: «وعليك السلام»، ثم عاد إلى شغله بما هو فيه فقال له الخضر: «ما بالك لا تنتبه لي كأنك لم تعرفني؟!»، فقال أبو السعود: «بل عرفتك، أنت الخضر»، فقال له الخضر: «فما بالك لم تنتبه لي؟!»، فقال له أبو السعود: «مشغول بخدمتي»، والتفت إليَّ الشيخ عبد القادر الجيلاني } وقال: «لم يترك في هذا الشيخ فضله لغيره».
وقال ابن عربي مخبرًا عن نفسه: كنت أنا وصاحب لي بالمغرب الأقصى بساحل البحر المحيط، وهناك مسجد يأوي إليه الأبدال، فرأيت أنا وصاحبي رجلًا قد وضع حصيرًا في الهواء على مقدار أربعة أَذْرُعٍ من الأرض، وصلى عليها؛ فجئت أنا وصاحبي، ووقفت وقلت شعرًا:
شُغِلَ الْمُحِبُّ عَنِ الْحَبِيبِ بِسِرِّهِ |
* | فِي حُبِّ مِن خَلَقَ الْهَوَاء وَسَخَّرَهْ |
الْعَارِفُونَ عُقُولَهُمْ مَعْقُولَةً |
* | عَنْ كُلِّ كَوْنٍ تَرْتَضِيهِ مُطَهَّرَهْ |
فَهُمُو لَدَيْهِ مُكَرَّمُونَ وَعِنْدَهُ |
* | أَسْرَارُهُمْ مَحْفُوظَةٌ وَمُحَرَّرَهْ |
قال: فأوجز في صلاته، وقال: إنما فعلت هذا لهذا المُنْكِرِ الذي معك، وأنا أبو العباس الخضر، ولم أكن أعلم أن صاحبي ينكر كرامات الأولياء، فالتفتُّ إلى صاحبي، وقلت: يا فلان، أكنت تنكر كرامات الأولياء؟ قال: نعم. قلت: فما تقول الآن؟ فقال: ما بعد العِيان ما يقال.
وقال الشيخ عبد المعطي الإسكندراني لتلميذه عند موته: خُذْ هذه الجبة؛ فطالما عانقت فيها الخضر. وقالت زوجة القرش }: خرجت من عند الشيخ ولم أترك عنده أحدًا، فسمعت عنده رجلًا يكلمه، فوقفت حتى انقطع كلامه، ثم دخلت فقلت: يا سيدي، خرجت من عندك وما كان عندك أحد، والآن سمعت كلامًا عندك! فقال الشيخ: الخَضِرُ أتاني بزيتونة من أرض نجد، فقال: كُلْ هذه الزيتونة ففيها شفاؤك. فقلت: اذهب أنت وزيتونتك، لا حاجة لي لها. وكان الشيخ به داء الجُذَام، وقد جاء أنه لما توفي رسول الله > سمعوا قائلًا يقول من جوف البيت يسمعون صوته ولا يرون شخصه: «إن في الله خلفاء من كل مالك وعوضًا من كل فائت، وأن المصاب من حرم الثواب»، قال الراوي: كانوا يرون أنه الخَضِرُ.
اعلم -رحمك الله- أن من أنكر وجود الخضر فقط غلط، أو من قال أنه غير خضر موسى، أو من قال أن لكل زمان خضرًا، وإن الخَضِرِيَّةَ رتبة يقوم بها رجل بعد رجل في كل زمان، والمنكر لوجود الخضر معترِف على نفسه بأن منة الله بلقاء الخضر لم تواجه، وليته إذا فاته الوصول إليها لا يفوته الإيمان بها، ولا تَفْتَرِ بما عساك أن تقف عليه من كلام أبي الفرج بن الجوزي في كتاب سماه «عُجالة المنتظر في شرح حال الخضر»، أنكر فيه وجود الخضر وقال: من قال إنه موجود فإنما قال ذلك لهواجس ووساوس وهوس قائم به، واستدل على عدم وجوده بقوله سبحانه: ﴿وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الخُلْدَ...﴾([2]).
فعجب لهذا الرجل كيف استدل بهذه الآية، ولا دليل فيها؛ لأنَّ الخلد هو بقاء لا موت معه، وليس هو المدعى في الخضر، إنما المدعى طول إقامة بسكون الموت بعدها، فاعجبوا رحمكم الله لرجل يصدق بطول بقاء إبليس وينكر طول بقاء الخضر، وما يروونه عن رسول الله >: «لو كان الخضر حيًّا لزارني»؛ فلم يُثْبِتْهُ أهل الحديث فإن قالوا: لو كان ذلك لنقل، فاعلم أنه ليس كل شيء أطلعَ اللهُ عليه رسولَ الله > يلزمه الإعلام به،
كيف وقد روي عن رسول الله > أنه قال: «علمني ربي ثلاثة علوم: علم أمرني بإفشائه، وعلم نهاني عن إفشائه، وعلم خبرني في إفشائه».
وقال بعض العارفين: إنَّ الله سبحانه وتعالى أطلع الخضر على أرواح الأولياء، فسأل ربه أن يبقيه في دائرة الشهادة، حتى يراهم شهادةً كما رآهم غيبًا.
قال الشيخ أبو العباس: كنت مع الشيخ في السفر، ونحن قاصدون إلى الإسكندرية، حين مجيئنا من المغرب، فأخذني ضيق شديد حتى ضعفت عن حمله، فأتيت الشيخ أبي الحسن }.
فلما أَحَسَّ بي قال: أحمد. قلت: نعم يا سيدي. قال: آدم خلقه الله بيده، وأسجد له ملائكته، وأسكنه جنته نصف يوم خَمْسَمِئَةَ عام، ثم نزل به إلى الأرض، واللهِ ما أنزل اللهُ آدم إلى الأرض لينقصه، ولكن نزل به الأرض ليكمله، ولقد أنزله إلى الأرض من قبل أن يخلقه بقوله: ﴿...إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً...﴾([3])، ما قال في السماء ولا في الجنة؛ فكان نزوله إلى الأرض نزول كرامة لا نزول إهانة؛ فإنه كان يعبد الله في الجنة بالتعريف فأنزله إلى الأرض ليعبده بالتكليف، فلما توفرت فيه العبوديتان استحق أن يكون خليفة.
وأنت أيضًا لك قسط من آدم كانت بدايتك في سماء الروح في جنة المعارف، فأنزلت إلى أرض النفس لتعبده بالتكليف، فإذا توفرت فيك العبوديتان استحققت أن تكون خليفة.
وأخبرني بعض أصحاب الشيخ أبي الحسن، قال: قال الشيخ ليلة اجتمع بي الشرف البوني وشرف الدين بن المحلي، وأخبراني أنهما دخلا على امرأة بغربِي الإسكندرية، قال: قالت لنا: «أروني أيديكم»، فشَمَّت أيدينا، وقال: «إخوان صالحون»، ثم قالت: «انتهيت في المعرفة إلى مقام الحيرة»، فقلت: «إلهي، بم يخرج العارفون من الحيرة؟ فقال لي: «بالتوحيد. فهل فيكم من يعرف هذا التوحيد الذي يخرج العارفون به من الحيرة؟»، قالا: فقلنا لها: «إنما جئنا لنلتمس بركتك»، قال: ثم قال الشيخ أبو الحسن: «ألا دُلُّوها على من ضُيِّقَ عليه، ثم توجه إلى جهتها»، وقال: «التوحيد الذي يخرج العارفون به من الحيرة (لا إله إلا هو)، يخرج العارفون من الحيرة بــ (لا إله إلا هو)»، فأصبح بعض أصحاب الشيخ، فذهب إليها؛ فوجدها وهي تقول: «استغنيت. استغنيت»، فعلمنا أن الشيخ أمدها في تلك الساعة.
وقال الشيخ أبو الحسن: كنت في بعض سياحاتي، وقد آويت إلى مغارة بالقرب من مدينة المسلمين، فمكثت فيها ثلاثة أيام لم أَذُقْ طعامًا، فبعد الثلاثة أيام دخل عَلَيَّ ناسٌ من الروم، كانت قد أرست سفينتهم هنالك، فلما رَأَوْنِي قالوا: «قسيس من المسلمين»، فوضعوا عندي طعامًا وإدامًا كثيرًا، فعجب كيف رُزِقْتُ على أيدي الروم ومنعت ذلك من المسلمين! وإذا قائل يقول لي: «ليس الرجل من نُصِرَ بأحبابه، إنما الرجل من نصر بأعدائه».
وقال الشيخ أبو الحسن: نمت ليلة في سياحتي على رابية من الأرض، فجاءت السباع فطافت بي، فأقمت إلى الصباح؛ فما وجدت أُنْسًا كأنس وجدته تلك الليلة، فلما أصبحت خطر لي أنه حصل لي من مقام الأنس بالله شيء، فهبطت واديًا وكان هناك طيور حجل لم أرها، فلما أَحَسَّتْ بي طارت بمرة؛ فخفق قلبي رعبًا، فإذا علي يقول لي: «يا من كان البارحة يأنس السباع، ما لك توجل من خفقان الحجل! ولكن البارحة كنتَ بنا والآن أنت بنفسك».
وقال }: قلت يومًا وأنا في مغارة في سياحتي: إلهي، متى أكون لك عبدًا شكارًا؟ فإذا علي يقول لي: «إذا لم تر منعَمًا عليه غيرك؟» فقلت: «إلهي، كيف لا أرى منعَمًا عليه غيري، وقد أنعمت على الأنبياء، وأنعمت على العلماء، وأنعمت على الملوك!». فإذا علي يقول لي: «لولا الأنبياء لما اهتديت، ولولا العلماء لما اقتديت، ولولا الملوك لما أمنت؛ فالكل نعمته مني عليك».
وقال }: جعت مرة ثمانين يومًا، فخطر لي أن قد حصل لي من هذا الأمر شيء، وإذا بامرأة خارجة من مغارة كأن وجهها الشمس حُسنًا، وهي تقول: «منحوس منحوس جاع ثمانين يومًا، فأخذ يدل على الله بعمله، وهو ذا لي ستة أشهر لم أَذُقْ طعامًا».
وقال رحمه الله: كنت في سياحتي في مبدأ أمري، حصل لي تردد: هل ألازم البراري والقفار للتفرغ للطاعة والأذكار، أو أرجع إلى المدائر والديار لصحبة العلماء والأخيار؟ فوُصِفَ لي وليُّ هناك، وكان برأس جبل؛ فصعدت إليه، فما وصلت إليه إلا ليلًا، فقلت في نفسي: «لا أدخل عليه في هذا الوقت»، فسمعته وهو يقول من داخل المغارة: «اللهم إِنَّ قومًا سألوك أن تُسَخِّرَ لهم خَلْقَكَ فسخرت لهم خَلْقَكَ، فرضوا منك بذاك، اللهم وإني أسألك اعوجاج الخلق عَلَيَّ؛ حتى لا يكون ملجئي إلا إليك». قال:
فالتفتُّ إلى نفسي وقلت: «يا نفس، انظري من أي بحر يغترف هذا الشيخ!»، فلما أصبحت دخلت عليه، فأرعبت من هيبته، فقلت له: «يا سيدي، كيف حالك؟»، فقال: «أشكو إلى الله من برد الرضى والتسليم، كما تشكو أنت من حر التدبير والاختيار»۞. فقلت له: «يا سيدي، أما شكواي من حر التدبير والاختيار؛ فقد ذُقْتُه وأنا الآن فيه، وأما شكواك من برد الرضى والتسليم، فلماذا؟»، قال: «أخاف أن تشغلني حلاوتُهُمَا عن الله»، فقلت: «يا سيدي، سمعتُك البارحة تقول: اللهم إن قومًا سألوك أن تُسَخِّرَ لهم خَلْقَكَ، فسخرت لهم خلقك فرضوا منك بذلك، اللهم فإنِّي أسألك اعوجاج الخلق عَلَيَّ حتى لا يكون ملجئي إلا إليك»، فتبسم ثُمَّ قال: «يا بني عِوَضَ ما تقول: سخر لي خلقك. قل: يا رب كن لي. أترى إذا كان لك أيفوتك شيء، فما هذه الجناية؟!».
وقال }: كنت أنا وصاحب لي قد أوينا إلى مغارة نطلب الوصول إلى الله، فكنا نقول: «غدًا يُفتح لنا، بعد غد يفتح لنا»، فدخل علينا رجل له هيبة، فقلنا: «من أنت؟»، فقال: «عبد الملك»، فعلمنا أنه من أولياء الله، فقلنا له: «كيف حالك؟»، فقال: «كيف حال من يقول: غدًا يفتح لي بعد غد يفتح لي؟ فلا ولاية ولا فلاح، يا نفس لِمَ لا تعبدين الله؟!»، قال: «فَتَفَطَّنَّا من أين دُخِلَ علينا فتُبْنَا، واستغفرنا فَفُتِحَ لنا».
وقال }: كنت يومًا بين يدي الأستاذ، فقلت في نفسي: «ليت شعري، هل يعلم الشيخ اسم الله الأعظم؟» فقال ولد الشيخ وهو في آخر المكان الذي أنا فيه: «يا أبا الحسن، ليس الشأن من يعلم الاسم، الشأن من يكون هو عين الاسم». فقال الشيخ من صدر المكان: «أصاب وتَفَرَّسَ فيك ولدي».
وقيل للشيخ أبي الحسن: «يا سيدي، لِمَ تسمع لسماع؟»، فقال: «السماع، من الخلق جفاء».
وأخبرني بعض أصحابنا قال: استشفع طالب الشيخ أبي الحسن إلى القاضي تاج الدين ابن بنت الأعز أن يزاد على مُرَتَّبِهِ، فذهب الشيخ إليه؛ فأكبر القاضي تاج الدين مجيء الشيخ، وقال له: «سيدي، فيم جئت؟»، فقال: «من أجل فلان الطالب لنزيده في مُرَتَّبِهِ عشرة دراهم»، قال: فقال له القاضي تاج الدين: «يا سيدي، هذا له في المكان الفلاني كذا، وفي المكان الآخر كذا، وفي موضع كذا كذا». قال: فقال له الشيخ أبو الحسن:
«يا تاج، لا تستكثر على مؤمن عشرة دراهم تزيده إياها؛ فإن الله تعالى لم يقنع بالجنة للمؤمن جزاءً، حتى زاده النظر إلى وجهه الكريم فيها»، وقال الشيخ أبو الحسن: سمعت الحديث الوارد عن رسول الله >: «إنه ليُغَانُ على قلبي، حتى أستغفر الله في اليوم سبعين مرة»([4])، فأشكل عَلَيَّ معناه، فرأيت الرسول > وهو يقول لي: «يا مبارك، ذاك عين الأنوار، لا عين الظلم والأكدار»، وقال: سمعت الحديث المروي عن رسول الله >: «من سكن خوف الفقر قلبَه، قَلَّمَا يرفع له عمل»، فمكثت سنة أظن أنه لا يُرفع عملي، أقول: «ومن يسلم من هذا؟!» فرأيت الرسول > في المنام وهو يقول لي: «يا مبارك، أهلكت نفسك، فرق بين خطر وسكن».
وقال }: رأيت الصِّدِّيقَ في المنام، فقال لي: «أتدري ما علامة خروج حب الدنيا من القلب؟»، قال: «قلت لا أدري»، قال: «علامة خروج حب الدنيا من القلب بذلها عند الوجد، ووجود الراحة منها عند الفقد».
وقال }: استنار قلبي يومًا؛ فكنت أشهد ملكوت السماوات والأراضين السبع، فوقعت مني هفوة فحجبت عن شهود ذاك، فتعجبت كيف حجبني هذا الأمر الصغير عن هذا الأمر الكبير! فإذا علي يقول لي: «البصيرة كالبصر، أدنى شيء يحل فيها يعطل النظر».
ولنقبض عنان المقال؛ لئلا نخرج عن غرض الكتاب، وإلا فكلام الشيخ أشهر من أن ينبه عليه، وأكثر ما ذكرتُه هنا لا يوجد في الكلام المنسوب إليه، وقد مضى من كلامه في المقدمة، وسيأتي في أثناء الكتاب إن شاء الله، وحَسْبُكَ من كلامه ما ذكره من كرامات القطب، وما ذكره من طريق الخصوص والعموم والعلوم والحقائق والأسرار وحلاوة اللفظ ووجازته، مع الاشتمال على المعاني الكثيرة والهيبة التي تجدها عند ذكرك لكلامه أو سماعك إياه، قَلَّ أَنَّ تجد ذلك في شيء من كلام أهل الطريق إمامًا»، قال: «في كرامات القطب»، فقال }: «للقطب خمس عشْرة كرامة، فمن ادَّعَاهَا أو شيئًا منها؛ فليبرز بمدد الرحمة والعصمة والخلافة والنيابة، ومدد حملة العرش العظيم، ويكشف له عن حقيقة الذات، وإحاطة الصفات، ويكرم بكرامة الحكم والفصل بين الوجودين، وانفصال الأول عن الأول، وما انفصل عنه منتهاه، وما ثبت فيه، وحكم ما قبل وما بعد، وحكم ما لا قبل له ولا بعد، وعلم البدء وهو العلم المحيط بكل علم وبكل معلوم بدا من السر الأول إلى منتهاه، ثم يعود إليه فهذا معيار أعطاه الشيخ يختبر به من ادَّعَى هذه الرتبة العظيمة القائمة بكفالة الأسرار
والمحيطة بمدد الأنوار».
وهذا نحو ما ذكره العارف بالله أبو عبد الله الترمذي الحكيم في كتاب «ختم الأولياء» له: أنَّ من ادَّعى الولاية فيقال له: «صف لنا منازل الأولياء»، فذكر مسائل؛ معيارًا على من ادَّعَى الولاية.
ولقد أخبرني الشيخ مكين الدين الأسمر، قال: مكثت أربعين سنة يُشْكَل عَلَيَّ الأمر في طريق القوم؛ فلا أجد من يتكلم عليه ويُزيل عني إشكاله، حتى ورد الشيخ أبو الحسن؛ فأزال عني كل شيء أُشْكِلَ عَلَيَّ، ولَمَّا قَدِم الشيخ صدر الدين القونوي إلى ديار مصر رسولًا، اجتمع بالشيخ أبي الحسن، وتكلم بحضرته بعلوم كثيرة والشيخ مطرق، إلى أن استوفى الشيخ صدر الدين كلامه، فرفع الشيخ أبو الحسن الشاذلي رأسه وقال:
«أخبرني: أين قطب الزمان اليوم ومن هو صديقه وما علومه؟» قال: فسكت الشيخ صدر الدين، ولم يرد جوابًا.
وطريقه } طريق الغنى الأكبر والتوصل العظيم، حتى إنه كان يقول ليس الشيخ من دَلَّكَ على تعبك، إنما الشيخ من دَلَّك على راحتك.
ونشأ } على يديه رجال، منهم من أقام بالمغرب كأبي الحسن الصقلي وكان من أكابر الصديقين، وعبد الله الحبيبي وكان من أكابر أولياء الله تعالى، ومنهم من أتى معه وهاجر إلى ديار مصر، منهم سيدنا ومولانا حُجَّة الصوفيَّهْ، عليم أهل الخصوصيَّهْ شهاب الدين أحمد بن عمر الأنصاري المرسي }، ومنهم الحاج محمد القُرْطُبِيُّ، وأبو الحسن البجائي، وأبو عبد الله البجائي، والوجهاني، والخراز.
ومنهم من صحبه بديار مصر منهم الشيخ مكين الدين الأسمر، والشيخ عبد الحليم، والشيخ الشرف البوني، والشيخ عبد الله اللَّقَانِي، والشيخ عثمان التوريجي، والشيخ أمين الدين جبريل، ولكل من هؤلاء علوم وأسرار وإسراءات وأصحاب أخذوا عنهم، تركنا تتبع كراماتهم وخصوصياتهم لئلا نخرج عن غرض الكتاب.
وطريقه } تنسب إلى الشيخ عبد السلام بن مشيش، والشيخ عبد السلام ينسب إلى الشيخ عبد الرحمن المدني، ثم واحد عن واحد إلى الحسن بن علي بن أبي طالب }.
وسمعت شيخنا أبا العباس } يقول: «طريقتنا هذه لا تنسب للمشارقة ولا للمغاربة، بل واحد عن واحد إلى الحسن بن علي بن أبي طالب»، وهو أول الأقطاب، وإنما يلزم تعيين المشايخ الذين يستند إليهم طريق الأنساب
من كانت طريقه بلبس الخرقة؛ فإنها رواية تتعين بتعين رجال سندها، وهذه هداية، وقد يجذب الله العبد إليه؛ فلا يجعل عليه منة لأستاذ، وقد يجمع شمله برسول الله >، فيكون آخذًا عنه، وكفى بهذا منة.
ولقد قال لي الشيخ مكين الدين الأسمر }: «أنا ما رَبَّانِي إلا رسول الله >»، وذكر عن الشيخ عبد الرحيم القناوي } أنه كان يقول: «أنا لا منة لأحد عَلَيَّ إلا لرسول الله >، وإذا أراد الله أن يتفضل على عبده ويغنيه عن الأستاذِين حتى لا يكون له فيهم سلف؛ فعل».
وقال مالك لبعض جلسائه: «إني أريد أن أجعلك وزيرًا»، قال: «ليس لي في هذا سلف»، قال: «إني أريد أن أجعلك سلفًا لمن بعدك».
ولتقتصر على هذا القدر؛ فإنه كافٍ في التعريف بقدر الشيخ أبي الحسن }، وما الأمر إلا كما قال القائل:
وَقَدْ وَجَدْتُ مَكَانَ الْقَوْلِ ذَا سَعَةٍ |
* | فَإِنَّ وَجَدْتَ لِسَانًا قَائِلًا فَقُلِ |
وبدأنا بذكر الشيخ أبي الحسن }، وإن كان قصدنا في وضع الكتاب ذكر مناقب شيخنا أبي العباس }، لكن فعلنا ذلك لأمرين؛ أحدهما: أن ذلك تعريف بقدر الشيخ أبي العباس؛ لأن شرف التابع بشرف المتبوع، ولأن الشيخ كان هذا شأنه، ذكر الشيخ والدلالة عليه والإعراض عن ذكر خصائصه هو نفسه، حتى قال له إنسان: يا سيدي نراك تقول: «قال الشيخ. قال الشيخ» وقَلَّ أن تسند لنفسك شيئًا. قال الشيخ: «لو أردت على عدد الأنفاس أن أقول: قال الله. ولو أردت على عدد الأنفاس أن أقول: قال رسول الله >. ولو شئت على عدد الأنفاس أن أقول: قلت أنا. قلت أنا. ولكن أقول: قال الشيخ. وأترك ذكر نفسي أدبًا»، وقد تَمَّ الكلام في الباب الأول، والله سبحانه وتعالى أعلم.
([1]) هو سلطان العلماء وشيخ الإسلام العز بن عبد السلام، ولد في دمشق عام 578هـ، وتزود من كل علوم عصره وبرع فيها، وسافر إلى بغداد من أجل استكمالها، بحيث كان جديرًا بأن تُسند إليه وظائف التدريس والإفتاء والخطابة والقضاء، وبلغ رتبة الاجتهاد في عصره؛ ولذلك تَعَيَّنَت فيه الفتوى، وقد كان في كل هذه الأعمال صوتًا رائعًا من أصوات الحق.
ولقب أيضًا بــ «بائع الملوك والأمراء» وما أحوجنا إلى التعرف على أمثاله من العلماء العاملين.