الباب السابع - في تفسيره لما أشكل من كلام أهل الحقائق
في تفسيره لما أشكل من كلام أهل الحقائق
وحمله لذلك على أجمل الطرائق
قال }: قال سهل بن عبد الله: «لا تكونوا من أبناء الدهور، ولا من أبناء العد والإحصاء, وكونوا من أبناء الأزل, أشقي أو سعيد»، ثم قال }: «يقول أحدهم: صليت كذا وكذا ركعة, ختمت كذا كذا ختمة, حجَجْتُ كذا كذا حجة؛ فهؤلاء أبناء العد والإحصاء فهم إلى عد سيئاتهم أحوج منهم إلى عد حسناتهم، وأما أبناء الدهور فيقول أحدهم: لي في طريق الله سبعون سنة، لي في طريق الله ستون سنة، وكونوا من أبناء الأزل أشقي أو سعيد يعين لاحظوا ما سبق في علم الله, ولا تتكلوا على ما لكم من العلم والعمل, ولكن ارجعوا لوجود الأزل».
وقال }: قال بشر الحافي: «منذ أربعين سنة أشتهي الشواء, فما صفا لي ثمنه»؛ فقال الشيخ:« من ظن أن هذا الشيخ مكث أربعين سنة ما وجد درهما حلالًا يشتري به شواء؛ فقد أخطأ، من أين له في الأربعين سنة ما يأكل وما يلبس! وإنما المعنى في ذلك أن هؤلاء قوم أصحاب مراتب لا يأكلون ولا يشربون، ولا يدخلون في شيء, ولا يخرجون بشيء، ولا يخرجون من شيء، إلا بإذن الله وإشارة، فلو أذن له أكل الشواء لصفا له ثمنه».
وقال }: «قوت القوم على أربعة أوجه؛ مباح: ولا على تركه ثواب، والحلال: ما لم يخطر لك على بال ولا سألت فيه أحدًا من النساء والرجال, والطيب: هو ما أخذه العبد بوصف الفناء؛ إذ لا وصف له مع مولاه، والصافي: هو ما عاينه العبد من المنبع يعني من عين قدرة الله».
وقال }: قال الجنيد: «أدركت سبعين عارفًا, كلها يعبدون الله على ظن ووهم حتى أخي أبا يزيد, ولو أدرك صبيًّا من صبياننا لأسلم على يديه», فقال الشيخ: معنى قوله: «يعبدون على ظن ووهم» لا يريد بذلك ظنًا في المعرفة ووهمًا فيها وكيف تجتمع المعرفة والظن والوهم، وإنما المراد أنهم وصولوا إلى مقامات توهم أن ليس وراءها للموقنين مقام.
فقال الجنيد: «لو أدرك صبيًّا من صبياننا لأسلم على يديه»؛ أي لتبين له أن فوق ذلك المقام مقام إلى ما لا أخر له.
ومعنى «لأسلم على يديه»: أي لانقاد له؛ فالإسلام هو
الانقياد.
وقال }: في قول أبي يزيد: «خضت بحرًا وقف الأنبياء بساحله»: إنما يشكو أبو يزيد بهذا الكلام ضعفه وعجزه عن اللحاق بالأنبياء، ومراده: أن الأنبياء خاضوا بحار التوحيد, ووقفوا من الجانب الآخر على ساحل الفرق، يدعون الخلق إلى الخوض؛ أي فلو كنت كاملًا لوقفت حيث وقفوا.
وهذا الذي فسر الشيخ به كلام أبي يزيد هو اللائق بمقام أبي يزيد، وقدمنا عنه أنه قال: «جميع ما أخذ الأولياء مما أخذ الأنبياء، كزِقٍّ مُلِئَ عسلًا ثم رشحت منه رشاحة, فما في بطن الزِّقِّ للأنبياء، وتلك الرشاحة هي للأولياء.
والمشهور عن أبي زيد التعظيم لمراسم الشريعة، والقيام بكمال الأدب، حتى إنه وصف له رجل بالولاية، فأتى على زيارته، فقعد في المسجد ينتظره، فخرج ذلك الرجل، وتنخم في حائط المسجد؛ فرجع أبو زيد ولم يجتمع به، وقال: «هذا رجل غير مأمون على أدب من أدب الشريعة، كيف يؤمن على أسرار الله!»، وما جاء عن الأكابر أولي الاستقامة مع الله سبحانه من أقوال وأفعال، يستنكر ظاهرها أَوَّلْنَاهَا؛ لِمَا علمناه من استقامتهم وحسن طريقتهم, وقد قال رسول الله >: «لا تظنن بكلمة برزت من امرئ مسلم سوءًا وأنت تجد لها في الخير محملًا».
وقال }: كان الحارث بن أسد المحاسَبِيُّ إذا مَدَّ يده إلى طعام فيه شبهة، تحرك عليه أصبعه، فسال الشيخَ سائلٌ فقال: يا سيدي، قد جاء أن الصديق قدم له لبن, فأكل منه فوجد كدرته في قلبه. فقال: «من أني لكم هذا اللبن؟»، فقال غلام له: «كنت تكهنت لقوم في الجاهلية، فأعطوني ثمن كهانتي»؛ فتقيأه أبو بكر }، ثم قال: «والله لو لم يخرج إلا بمصاريني لأخرجتها», فلم يكن على يد الصِّدِّيقِ عرق يتحرك عليه إذا قُدِّمَ له طعم فيه شبهة، والصديق أولى بكل مزية من سائر الأمة، وقد وزن بالأمة فرجحهم!.
فقال الشيخ }: الصديق } كالوكيل المفوض إليه مطره من البقايا فلا يحتاج إلا الإشارة، والحارث بقيت عليه البقايا؛ فلذلك الذم الإشارة؛ حتى لا يدخل في شيء بنفسه وهواه، وأبو بكر } طهر من النفس والهوى أفلا يحتاج إلى الإشارة!.
واعلم أن من حسن اختيار الله لأبي بكر أن تناول من ذلك اللبن؛ حتى يتكلف طرحه بعد شربه, فيسبه الله على ذلك، وأيضًا ليجعله قدوة للعباد, فيقتدي به من أكل طعامًا فيه شبهة ولم يعلم أن الأولى قيئُه, وليس لقائل أن يقول: قد ضمنه بأكله وقد تناول، أو تناوله وهو غير آثم؛ إذ هو غير عالم, فإن أبا بكر ما سأل عن اللبن إلا حتى وجد له كدرة
في قلبه؛ دَلَّ ذلك على أنَّ الحرام أو الشبهة قد يؤثر في القلب كدرة أو قسوة وإن لم يعلم به, فتناوله وقت تناوله.
وهكذا هم أهل التخصيص، إن وقع منهم أمر مثل هذا ونحوه؛ فهو من حسن اختيار الله لهم، حتى يفتح بهم السبيل للعباد, وكما أن من حسن اختيار الله لآدم أكلَه من الشجرة بعد أن نُهِيَ عنها؛ حتى يتوب من الفعل، فيكون قدوة للتالين، وحتى يتعرف الله بحلمه، فيعلم انه أكرم الأكرمين، يوقفه على وجود ستره ولطفه، فيُعلمه أنه اللطيف اللطيف الخبير بعباده المؤمنين, وليكون أكل الشجرة سببًا في النزول، والنزول سببًا في الخلافة.
فلذلك قال الشيخ أبو الحسن }: «أكرم بها معصية أورثت الخلافة»، وقال: «والله لقد أنزل الله آدم إلى الأرض من قبل أن يخلقه، بقوله:﴿...إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً...﴾ [البقرة:30]، وقد بسطنا القول في هذا الموضع في كتاب «التنوير» فلا نعيده.
وقال }: إنما بدأ القشيري في رسالته بالفضيل بن عياض وإبراهيم بن أدهم؛ لأنهما كانا قد تقدم لهما زمن قطيعة، ثم أقبلا فأقبل الله عليهما؛ فبدأ بذكرهما بسطا لرجاء المريدين الذين كانت تقدمت منهم الزلات وسبقت منهم المخالفات, ثم رجعوا إلى استقراع أبواب العنايات؛ إذ لو بدأ يذكر الجنيد وسهل بن عبد الله التُّسْتَرِيَّ وعتبة الغلام، وأمثالهم ممن نشأ في طريق الله تعالى؛ لقال القائل: ومن يدرك أن هؤلاء لم تسبق لهم زلات، ولم تتقدم منهم مخالفات؟ وقال } في الحكاية المشهورة عن سمنون المحب أنه كان ينشد شعرًا:
وَلَيْسَ لِي فِي سِوَاكَ حَظٌّ |
* | فَكَيْفَ مَا شِئْتَ فَاخْتَبِرْنِي |
فابتلي بعلة الاستبراء -وهي احتباس البول- فتجلد يومً فزاد الألم, فتجلد الثاني فزاد الألم, فتجلد ثالثًا ورابعًا والألم يزيد, فهو في صبيحة اليوم الرابع، وإذا بإنسان من أصحابه قد أتاه, وقال: «يا سيدي سمعت البارحة صوتك عند دجلة, وأنت تستغيث إلى الله، وتسأل رفع ما نزل بك», فجاءه ثانٍ وثالث ورابع ولم يكن هو سأل؛ فعلم أنها إشارة من الله لهم بالسؤال, فصار يدور على صبيان المكاتب, ويقول: «ادعوا لعمكم الكذاب».
فقال الشيخ: يرحم الله سمنونًا، عوض ما قال: «فكيف ما شئت فاختبرني» كان يقول: «فيكف ما شئت فاعف عني» فطلب العفو أولى من طلب الاختبار.
وقال } في الحكاية التي ذكرها الأستاذ أبو القاسم القشيري قال
الجنيد: دخلت على السَّرِيِّ, فوجدته متغيرًا، فقلت له: ما بالك يا أستاذ متغيرًا؟ فقال: دخل عَلَيَّ شاب آنفًا، فقال لي: «ما التوبة؟»، فقلت: «ألَّا تنسى ذنبك»، فقال: «بل التوبة أن تنسى ذنبك»، فما تقول أنت يا أبا القاسم؟ قال: فقلت: القول عندي كما قال الشاب؛ لأني إذا كنت في حال الجَفَاء, ثم نقلني إلى حال الصَّفَاء, فذكر الجفاء في وقت الصفاء جفاء.
فقال الشيخ }: كَلَام السَّرِيِّ أتم من كلامهما؛ لأن كلام السريِّ يدل على مبادئ المقامات, وكذلك القدوة ملزم بالكلام على مقامات العباد بداياتها ونهاياتها, وإنما تأتي النهايات من البدايات، والجنيد لم يكن في ذلك الوقت بمقام أن يكون قدوة, وكذلك الشاب, فتكلما على أحوال أهل الارتقاء في نهايتهم؛ فكلامهما يخص حالهما, وكلام السَّرِي مَهْيَع مورد السالكين، هذا معنى كلام الشيخ.
وقال }: في قول بعضهم: «لا يكون الصوفي صوفيًّا حتى لا يكتب عليه صاحب الشمال شيئًا عشرين سنة», ليس معنى ذلك ألَّا يقع منه ذنب عشرين سنة، ولكن معناه إذا أذنب استغفره منه، والملك الموكل يكتب السيئات، ولا يكتب السيئة حتى ينتظر العبد؛ لَعَلَّ أن يرجع أو يتوب, وكُلَّمَا أراد أن يكتبها قال له مَلَك اليمين: «لا تكتب؛ فعسى أن يتوب» إلى أن يبلغ عددًا إما لسبع وإما لعشر -الشَّكُّ مني- حينئذ يكتبها سيئة؛ فلذلك جاء «صاحب اليمين أمين على صاحب الشمال».