الباب الخامس - في آيات من كتاب الله تعالى تَكَلَّمَ على تبيين معناها وإظهار فحواها
قال الله تعالى: ﴿الحمد لله رب العالمين﴾([1]).
قال الشيخ }: عَلِمَ الله سبحانه عجز خلقه عن حمده؛ فحمد نفسه بنفسه في أزله، فلما خَلَقَ الخَلْقَ اقتضى منهم أن يحمده بحمده، فقال: الحمد لله رب العالمين؛ أي الحمد له الذي حَمِدَ به نفسه هو له، لا ينبغي أن يكون لغيره؛ فعلى هذا يكون الألف واللام عهديتين.
وسمعته يقول في قوله تعالى: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾([2]):
- «إياك نعبد» شريعة، و«إياك نستعين» حقيقة.
- «إياك نعبد» إسلام، و«إياك نستعين» إحسان.
- و«إياك نعبد» عبادة، و«إياك نستعين» عبودية.
- «إياك نعبد» فرق، و«إياك نستعين» جمع.
واعلم -رحمك الله بإقباله عليك بودهْ، وجعلك من الراعين لعهدهْ- أن الله سبحانه وتعالى طلب من العباد أن يعبدوه، واقتضى منهم أن يسجلوا بذلك على أنفسهم نطقًا كما قاموا به عملًا، واقتضى منهم أن يفردوه، واقتضى منهم أن تنتظم للعبادة جميع جوارحهم الظاهرة، وحقائق وجوداتهم الباطنة، واقتضى منهم الرُّجْعَى إليه من دعوى القَيُّومِيَّةِ في العبادة، بصدق التَّبَرِّي من الحول والقوة، فلما قام العبد لله بالعبادة عملًا؛ اقتضى الحق أن يعترف بها نطقًا؛ ليكون ذلك معاهدة بينه وبين الحق سبحانه، حتى إذا تَفَلَّتَتْ نفسه عن القيام بالعبادة له، وثقلت عليها ملازم التكليف؛ قامت الحجة على العبد بما أعطى الله سبحانه من الاعتراف بالعبادة له، وأنه لا يعبد غيره، وبقوله: «إياك نعبد»، واقتضى من العباد أن تستوعب العبادةُ جميع جوارحهم الظاهرة وعوالمهم الباطنة، بإتيانه بالصيغة هكذا: «نعبد»، وإعراضه عن التعبير بالهمزة المنفردة بالتكلم؛ لأنَّ النون إِنَّمَا تكون للواحد المُعَظِّمِ نفسه أو هو غيره، وليس هذا موضع هذين المعنيين؛ إذ العبدُ لا يبتدئ بين يدي الله بِوَصْفٍ عَظَّمَه؛ فلم يَبْقَ إلا أن يكون للواحد ومعه غيره، وذلك ما أشرنا إليه من الجوارح الظاهرة والحقائق الباطنة، وأما إنه اقتضى منهم الرُّجْعَى إليه من دعوى القيومية في العبادة؛ لأنه لَمَّا قال: «إياك نعبد»، فأضاف العبادة إليهم، واقتضى منهم أن يعترفوا بذلك؛ قيامًا بدائرة الفرق التي عليها يترتب التكليف، أردف ذلك بقوله:
«وإياك نستعين»؛ كي لا يَدَّعِي العباد معه أنهم قاموا بالعبادة بأنفسهم، فأراد منهم أن يوفوا الحقيقة حَقَّهَا والشريعة حَقَّهَا؛ فذلك جمع بين الأمرين: القيام بالعبادة لربوبيتهْ، والتَّبَرِّي من الحول والقوة مع إلهيتهْ.
ثم قال سبحانه: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ﴾([3])، قال الشيخ: بالتثبيت فيما هو حاصل، والإرشاد لما ليس بحاصل.
وهذا الجواب ذَكَرَهُ ابن عطية في تفسيره، وبَسَطَهُ الشيخ فقال:
- عموم المؤمنين يقولون: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ﴾؛ أي بالتثبيت فيما هو حاصل، والإرشاد لما ليس بحاصل؛ فإنه حصل لهم التوحيد، وَفاتَهُمْ دَرَجَاتُ الصَّالِحِينَ.
- والصالحون يقولون: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ﴾؛ معناه: نسألك الثَّبَاتَ فيما هو حاصل، والإرشاد لِمَا ليس بحاصل؛ فإنه حَصَلَ لهم الصلاح، وفاتهم درجات الشهداء.
- والشهيد يقول: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ﴾؛ أي بالتثبيت فيما هو حاصل، والإرشاد لِمَا ليس بحاصل؛ فإنه حَصَلَ لهم درجات الشهداء، وفاتهم درجات الصِّدِّيقِيَّةِ.
- والصِّدِّيقُ يقول: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ﴾؛ أي بالتثبيت فيما هو حاصل، والإرشاد فيما ليس بحاصل؛ فإنه حصل لهم درجات الصديقية، وفاتهم درجات القطب.
- والقطب يقول: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ﴾؛ أي بالتثبيت فيما هو حاصل، والإرشاد فيما ليس بحاصل؛ فإنه حصل له علم رتبة القطبانية، وفاته علم ٌإذا شاء الله أن يطلعه عليه اطلعه.
وقال في قوله عز وجل: ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ...﴾([4]): كل موضع ذكر فيه المصلين في معرِض المدح، فإنما جاء لِمَنْ أقام الصلاة، إما بلفظ الإقامة، أو بمعنى يرجع إليها.
قال الله سبحانه وتعالى: ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ...﴾، ﴿رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ...﴾ [إبراهيم:40]، ﴿...وَأَقَامَ الصَّلَاةَ...﴾ [التوبة:18] ، ﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ...﴾ [هود:114]، ﴿...وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ...﴾ [البقرة:277]، ﴿...وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ...﴾ [الحج:35].
ولمَّا ذكر المصلين بالغفلة قال: ﴿فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (٤) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ﴾([5])، ولم يقل: فويل للمقيمين الصلاة.
والإقامة هي أنه إذا صَلَّى المؤمن صلاة فتُقُبِّلَتْ منه، خلق الله تعالى من صلاته صورة في ملكوته، راكعة ساجدة إلى يوم القيامة، وثواب ذلك لصاحب الصلاة.
وقال في قوله سبحانه وتعالى: ﴿...إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً...﴾([6]).
وقال في قوله تعالى: ﴿مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ...﴾([7]).
قيل: إنما وَقَعَ التَّفْصِيلُ في العبادة أدبًا من الله لنا، فأضاف المحاسن إليه، وأضاف المساوئ إلينا، وإن كان فعل العبد كله خَلْقَ الله حسنُه وسيئُه، كما قال: ﴿...فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا...﴾ [الكهف:82]، فأضاف ذلك إلى الله، وقال في السفينة: ﴿...فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا...﴾ [الكهف:79]، ولم يقل: «فأراد ربُّك أن يعيبها»؛ أدبًا في التعبير، وكما قال إبراهيم —: ﴿وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ﴾ [الشعراء:80]؛ فأضاف المرض لنفسه، والشفاءَ لله عز وجل.
ومنهم من قال: إن ذلك داخل في مضمون القول، وإن هذا التفصيل حَكَاهُ الله عنهم، والتقدير: ﴿...فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا﴾ [النساء:78]، في قوله: ﴿مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ...﴾([8])، ورَدَّ عليهم بقوله: ﴿...قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ...﴾ [النساء:78].
وقال رضي الله تعالى عنه في قوله تعالى: ﴿يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ...﴾(3): يولج المعصية في الطاعة، والطاعة في المعصية.
- يطيع العبد الطاعة؛ فيعجب بها، ويعتمد عليها، ويستصغر من لم يفعلها، ويطلب من الله العوض عليها؛ فهذه حسنة أحاطت بها سيئات.
- ويُذْنِبُ الذنب؛ فيلجأ إليَّ فيه، ويعتذر منه، ويستصغر نفسه، ويُعَظِّمُ من لم يفعلْه؛ فهذه سيئة أحاطت بها حسنات، فأيهما الطاعة وأيهما المعصية!.
وقال الفتى: من كسر الصنم؟.
قال الله تعالى: ﴿قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ﴾ [الأنبياء:60].
وقال } في قوله عز وجل: ﴿أَمَّنْ يُجِيبُ المُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ...﴾: «الولي لا يزال مُضْطَرًّا».
ومعنى كلام الشيخ هذا: أن العامة اضْطِرَارُهُم بمُثِيراتِ الأسباب، فإذا زالت زال اضْطِرَارُهُمْ؛ وذلك لغلبة دائِرَة الحِسِّ على مشهدهم، فلو شهدوا قبضة الله الشاملة المحيطة؛ لعلموا أن مُضْطرًا إلى الله دائم، وأن الاضطرار تعطيه حقيقة العبد؛ إذ هو ممكن، وكُلٌّ مضطر إلى مد يمده ومدد يمده، وكما أن الحق سبحانه هو الغني أبدًا؛ فالعبد مضطر إليه أبدًا، ولا يزايل العبد هذا الاضطرار، لا في الدنيا ولا في
الآخرة، ولو دخل الجنة فهو محتاج إلى الله فيها، غير أنه غمس اضطراره في المنة التي أفرغت عليها ملابسها.
وهذا هو حكم الحقائق ألَّا يختلف حكمها لا في الغيب ولا في الشهادة، ولا في الدنيا ولا في الآخرة؛ فالعلم صفته الكشف، أي علمٍ كان وفي أي وقتٍ كان، والإرادة صفتها التخصيص، أي ارداة كانت وفي أي وقت كانت، ومن اتسعت أنواره لم يتوقف اضطرارُه، وقد عتب الله قومًا اضطروا إليه عند وجود أسباب ألجأتهم إلى الاضطرار، فلمَّا زالت زال اضطرارهم، قال الله سبحانه: ﴿وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي البَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى البَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُورًا...﴾([9]).
وقال: ﴿وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ...﴾([10]).
وقال: ﴿قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ البَرِّ وَالبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ...﴾([11]).
إلى غير ذلك من الآيات الواردة في هذا المعنى، ولَمَّا لَمْ تَصِلْ عقول العموم إلى ما تُعطيه حقائق وجوداتهم؛ سلط الحق عليهم الأسباب المثيرة الاضطرار؛ ليعرفوا قَهْرَ ربوبيته وعظمة إلهيته.
ومن الدليل على فخامة رتبة الاضطرار: أنَّ الحق سبحانه أوقف الإجابة عليها، فقال: ﴿أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ﴾ [النمل:62]، وإذا أراد الله تعالى أن يُعطي عبدًا شيئًا وهبه الاضطرار إليه فيه فيطلب بالاضطرار فيعطى، وإذا أراد الله أن يمنع عبدًا أمرًا منعه الاضطرار إليه فيه ثم منعه إياه، وقال: «حجة الله على العبد: لو اضطررت إلينا لأعطيناك؛ فلا يخاف عليك أن تضطر وتطلب فلا تعطى، بل يخاف عليك أن تُحرم الاضطرار فتُحرم الطلب، أو تطلب بغير اضطرار فتُحرم العطاء».
وقال في قوله تعالى: ﴿...كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا المِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾([12]).
ثم قال بعد ذلك: ﴿وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا
جَنِيًّا﴾([13])، ذكر بعض الناس في هذا تأويلًا لا يُرضَى، ولا ينبغي أن يُلْتَفَتَ إليه، وهو أنه كان حبها لله وحده، فلما ولدت انقسم حبها، وليس كما قال هذا القائل؛ لأنها صِدِّيقَةٌ كما أخبر الله عنها: ﴿وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ﴾ [المائدة:75]، والصِّدِّيقُ والصِّدِّيقة لا ينتقلان من حالة إلى أكمل منها، ولكنها كانت في بدايتها مُتَعَرَّفًا إليها بخرق العادة وسقوط الأسباب، فلما تَكَمَّلَ يقينها أُرْجِعَتِ إلى الأسباب، فالحالة الثانية أَتَمُّ من الحالة الأولى.
وقال } الفتوة: الإيمان والهداية، قال سبحانه وتعالى: ﴿...إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آَمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى﴾([14]).
وقال } في قوله تعالى حاكيًا عن الشيطان: ﴿ثُمَّ لَآَتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ﴾([15]): ولم يقل: «من فوقهم ولا من تحتهم»؛ لأن فوق للتوحيد وتحت للإسلام، والشيطان لا يمكنه أن يأتي المؤمن من توحيده ولا من إسلامه.
وقال } في قوله: ﴿...وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا﴾([16]).
قال: سمي خليلًا؛ لأنه خالل سِرُّه محبةَ الله تعالى، وقال الشاعر:
قَدْ تَخَلَّلْتَ مَسْلَكَ الرُّوحِ مِنِّي |
* | وَلِذَا سُمِّيَ الْخَلِيلُ خَلِيلًا |
وَإِذَا مَا نَطَقْتُ كُنْتَ كَلَامِي |
* | وَإِذَا مَا صَمَتُّ كُنْتَ الْغَلِيلَا |
وقال } في قوله: ﴿وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى﴾ [النَّجم:37]، قال: وَفَّى بمقتضى قوله: «حسبي الله».
وقال في قوله تعالى: ﴿وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾([17])، قال: من طاعاتِهم وأعمالهم التي قاموا بها لله في ليلهم: أن يشهدوها من أنفسهم.
ودليل ما قاله الشيخ: أن الله سبحانه وصفهم قبل ذلك بقوله: ﴿كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ﴾([18])، ثم قال: ﴿وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾؛ فلم يتقدم منهم في ليلهم ذنوبٌ يكون استغفارهم منها، وقد جاء في الحديث الصحيح: أن النبي > كان إذا سَلَّمَ من صلاته استغفر الله ثلاثًا.
وقال الواسطي: «العبادات إلى طلب العفو عنها، أقرب منها إلى طلب الأعواض عليها».
وقال } في قوله: ﴿قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾([19]): أي من طاعاتهم وأعمالهم، ومثل ذلك: ﴿وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾ [الزخرف:32].
قال في قوله سبحانه: ﴿...الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ...﴾([20]): ولم يقل «بنبيه» ولا «برسوله»، وهو نبيُّه ورسوله، وإنما كان كذلك؛ لأنه أراد أن يفتح باب السَّرَيَانِ للأتباع، فأعلمنا أن الإسراء من بِساط العبودية، والنبي > كان له كمال العبودية فكان له كمال الإسراء، أسرى بروحه وجسمه وظاهره وباطنه، والأولياء لهم قسط في العبودية؛ فلهم قسط من الإسراء بأرواحهم لا بأشباحهم.
وسمعته يقول في قوله تعالى: ﴿إِنَّ المُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (٥٤) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ﴾([21]): إن المتقين في جنات ونهر في هذه الدار وفي تلك الدار، في الدنيا: في جنات العلوم وأنهار المعارف، وفي الآخرة: في الجنة التي وُعِدُوا بها، في مقعد صدق في هذه الدار وفي تلك الدار، عند مليك مقتدر في هذه الدار وتلك الدار.
وبسط كلام الشيخ: هو أن نعيم الجنة الكائن فيها تكون رقائقه مُعَجَّلَةً للمتقين في هذه الدار، فما كان لهم في الجنة حِسًّا يكون لهم في هذه الدار معنى.
ومثل هذه الآية قوله: ﴿إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ﴾([22])؛ أي في هذه الدار وفي تلك الدار، وفي الدنيا في نعيم الشهود، وفي الآخرة في نعيم الرؤية.
وكذلك قوله: ﴿وَإِنَّ الفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ﴾([23])؛ أي في هذه الدار وفي تلك الدار، في هذه الدار في جحيم القطيعة، وفي تلك الدار في جحيم العقوبة.
وقوله ﴿...فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ...﴾؛ أي في هذه الدار وفي تلك الدار، وفي هذه الدار مقعد صدق العبودية، وفي تلك الدار في مقعد صدق الخصوصية.
﴿...عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ﴾ في هذه الدار وفي تلك الدار، في هذه الدار لهم عِنْدَيَّة الأمداد، وفي تلك الدار لهم عندية الأشهاد.
وقال في قوله تعالى: ﴿...مَا خَلَقَ اللهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالحَقِّ...﴾([24]): الحق الذي خلق به كل شيء كلمة «كن»، قال الله سبحانه: ﴿...وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ
فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ...﴾([25])، وقال في قوله سبحانه: ﴿...أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ...﴾([26])، إنما قرن شكره بشركهما لأنهما أصل في وجودك.
وقال في قوله: ﴿وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى (١٧) قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآَرِبُ أُخْرَى...﴾([27]) إلى قوله: ﴿...سِيرَتَهَا الأُولَى﴾([28])، يقال للولي: «وما تلك بيمينك أيها الولى؟»، قال: «هي دنياي أتوكأ عليها وأهش بها على غنمي -وغنمه أعضاؤه- ولى فيها مآرب أخرى».
فيقال له: «ألقِهَا» فناء عنها؛ فألقاها فيكشف له عن حقيقتها ﴿...فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى﴾([29])، ثم يقال له: «خُذْهَا ولا تَخَفْ» ولا يَضُرُّه أخذها حين أخذها؛ لأنه أَخَذَها بإذن كما ألقاها بإذن، فأخذها من الوجه الذي به ألقاها، فأطاع الله في أخذها كما أطاع اللهَ في إلقائها.
وقال في قوله: ﴿وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالغَمَامِ وَنُزِّلَ المَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا (٢٥) المُلْكُ يَوْمَئِذٍ الحَقُّ لِلرَّحْمَنِ...﴾([30]): إنما قال «للرحمن» ولم يقل: «للقهار» ولا «للعزيز»؛ لأن تشقق السماء بالغمام وتنزل الملائكة مظهران من مظهر القهر والسطوة، فلو قال: «للقهار» أو «للعزيز» لم يُطِقِ العباد ذلك وتفطرت قلوبهم، فرفق بهم أن قال: ﴿المُلْكُ يَوْمَئِذٍ الحَقُّ لِلرَّحْمَنِ﴾، وهكذا قوله: ﴿يَوْمَ نَحْشُرُ المُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا﴾([31])، ولم يقل «القهار» ولا «العزيز»؛ لأن الحشر وهول المطلع شديد؛ فَلَاطَفَهُم برحمانيته في ظهور سلطان قهره.
وقال وقد سئل عن قوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾([32]).
فقال القائل: من أين للعبد أن يتقي الله حق تقاته؟! ومن أين له أن يموت إلا وهو مسلم؟! فقال الشيخ }: أقول: إن هذه الآية منسوخة بقوله: ﴿فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ...﴾([33])؛ فكانوا قد خوطبوا أولًا بتقوى الله حق تُقَاتِهِ، وهو: أن يطاع فلا يُعْصَى، ويُذْكَرَ فلا يُنْسَى، ويُشْكَرَ فلا يُكْفَرُ، ثم
خَفَّفَ عنهم بقوله: ﴿فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ...﴾، قال: ويمكن الجمع بين الآيتين: ﴿فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ...﴾؛ أي في جانب الأعمال، وقوله تعالى: ﴿...اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ...﴾([34])؛ أي في جانب التوحيد، وقوله: ﴿...فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾([35])؛ أي لا تتعاطوا من الأعمال إلا أعمالًا إذا مِتُّمْ عليها مِتُّمْ مسلمين.
وقال }: صَلَّيْتُ خلف الشيخ صلاة الصبح, فقرأ بــ ﴿حمٓ (1) عٓسٓقٓ﴾ [الشورى:1-2]، فلما انتهى إلى قوله: ﴿يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا﴾ [الشورى:49] فخطر لي أنها الحسنات، ﴿وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ﴾ [الشورى:49] فخطر لي أنها العلوم، ﴿أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا﴾ [الشورى:50] علومًا وحسنات، ﴿وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا﴾ [الشورى:50] لا علم ولا حسنة.
فلما سلم الشيخ من الصلاة استدعاني, وقال: لقد وجدت فهمك في الصلاة: ﴿يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا﴾ [الشورى:49] الحسنات, ﴿وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ﴾ [الشورى:49] العلوم، ﴿أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا﴾ [الشورى:50] علومًا وحسنات، ﴿وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا﴾ [الشورى:50]، لا علم ولا حسنة.
فتعجبت من اطِّلَاعِ الشيخ على ذلك، فقال: أتعجب من اطلاعي على فهمك في الصلاة! قد فهم فلان كذا، وفهم فلان كذا... حتى عد أفهام الجماعة الذين خلفه.
وقال في قوله تعالى: ﴿إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ...﴾([36]):
ففهم قوم من هذا الخطاب أنهم أمروا بعداوة الشيطان؛ فشغلهم ذلك عن مَحَبَّةِ الحبيب، وقوم فهموا من ذلك أن الشيطان لكم عدو؛ أي وأنا لكم حبيب، فاشتغلوا بمحبته، فكفاهم مَن دونه.
قيل لبعضهم: كيف صُنْعُكَ مع الشيطان؟ فقال: وما الشيطان؟ نحن قوم صرفنا هِمَمَنَا إلى الله؛ فكفانا من دونه.
وقال }: قرأت مرة ﴿وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ﴾ [التين:1]، إلى أن انتهيت إلى قوله تعالى: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيم (٤) ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ﴾([37]).
فَكَّرْتُ في معنى هذه الآية، فكشف لي من اللوح المحفوظ فإذا مكتوب فيه: «لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم روحًا وعقلًا، ثم رَدَدْنَاهُ أسفل سافلين نفسًا وهوًى».
وقال في قوله: ﴿وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا
أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ...﴾([38]): هَمَّتْ به هَمَّ إرادة، وهَمَّ بِهَا هَمَّ مَيْلٍ لا هَمَّ إرادة.
وقال في قوله تعالى: ﴿لَقَدْ تَابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ...﴾([39]), إلى قوله: ﴿...تَابَ عَلَيْهِمْ...﴾, فقال عن شيخه أبي الحسن: ذكر توبة من لم يذنب لِئَلَّا يستوحش من أذنب؛ لأنه ذكر النبي والمهاجرين والأنصار ولم يُذنبوا، ثم قال: ﴿وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا...﴾ [التوبة:118]، فذكر من لم يذنب ليؤنس من قد أذنب, فلو قال أولًا: «لقد تاب الله على الثلاثة الذين خُلِّفُوا»؛ لتفطرت أكبادهم.
وقال }: التقوى في كتاب الله تعالى أقسام:
- تقوى النار: قال الله تعالى: ﴿واتقوا النار...﴾([40]).
- وتقوى اليوم: قال تعالى: ﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا...﴾([41]).
- وتقوى الربوبية: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ...﴾([42]).
- وتقوى الألوهية: ﴿واتقوا الله...﴾([43]).
- وتقوى إليه: ﴿...وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الأَلْبَابِ﴾([44]).
وقال } في قوله تعالى: ﴿سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ...﴾([45]), نزلت في اليهود ومن كان من فقراء هذا الزمان مؤثرًا للسماع لهواه، آكلًا مما أخرجه مولاه، فهي نزعة يهودية؛ لأنَّ القوال يذكر العشق وما هو بعاشق، والمحبة وما هو بمحب، والوَجد وما هو بمتواجد؛ فالقوال يقول الكذب، والمستمع سَمَّاعٌ له، ومن أكل من الفقراء طعام الظلمة حين يدعى إلى السماع؛ فهو يصدق عليه قول الله: ﴿سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ...﴾.
وقال }: عَبَرَ بعض الصحابة على بعض اليهود, فسمعهم يقرءون التوراة فتَخَشَّعُوا, فلما دخلوا على رسول الله > نزل عليه جبريل فقال:«اقرأ! قال: وما أقرأ؟([46]) قال: اقرأ: ﴿أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ...﴾([47])»، فعوقبوا إذ تَخَشَّعُوا من غيره, وهم قَلَّمَا
تخشعوا من التوراة وهي كلام الله, فما ظنك بمن أعرض عن كتاب الله وتخشع بالملاهي والغناء!.
وقال } وقد سأله سائل: يا سيدي، لِمَ قال عيسى —: ﴿إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ [المائدة:118]، ولم يقُل«الغفور الرحيم»؟.
قال: لأنه لو قال: «الغفور الرحيم»؛ لكان شفاعة من عيسى — لهم في المغفرة، لا شفاعة في كافر، ولأنه عَبَدَ من دون الله، فاستحى من الشفاعة عنده وقد عَبَدَ معه.
وقال } في قوله: ﴿لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا القُرْآَنَ عَلَى جَـبَــلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللهِ...﴾([48])، في هذه الآية مَدْحٌ لسيد المرسلين >؛ أي إنَّ هذا القرآن لا تثبت له الجبال لو أنزل عليها, وأنت يا محمد تثبت لنزوله؛ للقوة الربانية التي أودعناك إياها, وفيه ذَمٌّ للكافرين أي إن هذا القرآن لو أنوزل على جبل لخشع وتصدع، وأنتم ما خشعتم ولا تصدعتم.
فائدة: اعلم أن تفسير هذه الطائفة لكلام الله وكلام رسوله > بالمعاني الغريبة كما مضى من فهم الشيخ قوله: ﴿...يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا...﴾ الآية [الشورى:49]، وقوله: ﴿...إِنَّ الله يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً...﴾ [البقرة:67]، وكما سيأتي في تفسير الأحاديث, فذاك ليس إحالة للظاهر عن ظاهره, ولكن ظاهر الآية مفهوم منه ما جلبت الآية له، ودَلَّتْ عليه في عُرف اللسان, وثَم أفهام تُفْهَمُ عند الآية والحديث لمن فتح الله قلبه.
وقد جاء أنه عليه الصلاة والسلام قال: «لكل آية ظاهر وباطن وحد ومطلع», فلا يصدنك عن تلقي هذه المعاني منهم أن يقول لك ذو جدل ومعارضة: «هذا إحالة لكلام الله عز وجل وكلام رسول الله >», فليس ذلك بإحالة.
وإنما كان يكون إحالة لو قالوا: «لا معنى للآية إلا هذا»، وهم لم يقولوا ذلك، بل يُقِرُّونَ الظواهرَ على ظواهرها مرادًا بها موضوعاتها، ويفهمون عن الله ما أفهمهم وربما فهموا من اللفظ ضِدَّ ما قصده واضعه. كما أخبرنا الشيخ الإمام مفتي الأنام تقي الدين محمد بن علي القشيري، قال: كان ببغداد فقيه يقال له الجوزي، يقرأ اثني عشر علمًا، فخرج يومًا قاصدًا إلى مدرسة فسمع منشدًا ينشد شعرًا:
إِذَا الْعِشْرُونَ مِنْ شَعْبَانَ وَلَّتْ |
* | فَوَاصِلْ شُرْبَ لَيْلِكَ بِالنَّهَارِ |
وَلَا تَشْرَبْ بِأَقْدَاحٍ صِغَارٍ |
* | فَقَدْ ضَاقَ الزَّمَانُ عَنِ الصِّغَارِ |
فخرج هائمًا على وجهه حتى أتى مكة, فلم يزل مجاورًا بها حتى مات.
وقرئ على الشيخ مكين الدين الأسمر قوله قائل:
لَوْ كَانَ لِي مُسْعِدٌ بِالرَّاحِ يُسْعِدُنِي |
* | لَمَا انْتَظَرْتُ بِشُرْبِ الرَّاحِ إِفْطَارَا |
الرَّاحُ شَيْءٌ شَرِيفٌ أَنْتَ شَارِبُهُ |
* | فَاشْرَبْ وَلَوْ حَمَّلَتْكَ الرَّاحُ أَوْزَارَا |
يَا مَنْ يَلُومُ عَلَى صَهْبَاءَ صَافِيَةٍ |
* | كُنْ فِي الجِنَانِ وَدَعْنِي أَسْكُنِ النَّارَا |
فقال إنسان هناك: لا يجوز قراءة هذه الأبيات، فقال الشيخ مكين الدين للقارئ: اقرأ هذا رجل محجوب، ويكفيك في هذا أن ثلاثة سمعوا مناديًا يقول: «ياسع ترى بري», ففهم كل منهم عن الله مخاطبة خوطب بها في سره:
- سمع الواحد: «اسْعَ تَرَ بِرِّي».
- وسمع الآخر: «الساعة ترى بري».
- وسمع الآخر: «ما أوسع بري!».
فالمسموع واحد واختلفت أفهام السامعين، كما قال سبحانه, ﴿...يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ...﴾([49]), وقال سبحانه: ﴿...قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ...﴾([50]).
فأما الذي سمع «اسعَ تَرَ بري» فمريد دل على النهوض إلى الله بالأعمال ليستقبل الطريق بالجدل, وقيل له: «اسع إلينا بصدق المعاملة؛ تَرَ بِرَّنَا بوجود المواصلة.
وأما الثاني: فكان سالكًا إلى الله، طاولته الأوقات؛ فخاف أن تفوته الوصلة، فقيل له -ترويحًا على قلبه- لمَّا أحرقته نار الشغف: «الساعةَ تَرَ بِرِّي».
وأما الأخر: فعارف كَشِفَ له عن وسع الكرم, فخوطب من حيث أُشْهِدَ، فسمع: «ما أوسع بري!».
وقال الشيخ محيي الدين ابن عربي: دعانا بعضُ الفقراء إلى دعوة بزُقاق القَنَادِيلِ بمصر, فاجتمع بها جماعةٌ من المشايخ، فقُدِّمَ الطعام، وعجز الأوعية، وهناك وعاء زجاج جديد قد اتُّخِذَ للبول, ولم يُسْتَعْمَلْ بعد، فغرف فيه ربُّ لمنزل الطعام, فالجماعة يأكلون وإذا الوعاء يقول: «أكرمني الله بأكل هؤلاء السادة مني, ولا أرضى لنفسي أن أكون بعد ذلك محلًّا للأذى», ثم انكسر نصفين، قال ابن عربي: فقلت للجميع: سمعتم ما قال الوعاء؟ قالوا: وما هو؟ قلت: قال: كذلك قلوبكم قد أكرمها الله بالإيمان فلا ترضَوْا بعد ذلك أن تكون محلًّا لنجاسة المعصية وحب الدنيا، جعلنا الله وإياك من أولي الفهم عنه والتلقي منه.
([46]) رواه أبو نعيم في («دلائل النبوة»، 1/69), والسيوطي في («الدر المنثور»، 6/368), وابن أبي شيبة في («مصنفه»، 14/292).