الباب الثاني - في شهادة الشيخ له أنه الوارث للمقام
في شهادة الشيخ له أنه الوارث للمقام والحائز قصب السَّبْقِ بالتمام، وإخباره هو عن نفسه بما مَنَّ الله به عليه من النِّعَمِ الجِسَام، وشهادة الأولياء له أنه بلغ من الوصول إلى الله تعالى لأفضل مرام
ولنتقدم أمام ذلك مقدمة.
اعلم أنَّ الوارث للرجل هو الظاهر بعلمه وحاله، وهو الذي يظهر طريق الموروث على يديه؛ يفسر مجملها، ويبسط مختصرها، ويرفع منارها، ويَبُثُّ أنوارها، يُعَرِّفُ الناس بما كان ذلك الرجل الكبير عليه من العلم بالله تعالى، والمعرفة والنفوذ إليه والاحتظاء من نوره، حتى إذا فرط الناس في محبة ذلك الرجل الكبير وتعظيمه في حال حياته، استدركوا ذلك بعد وفاته؛ لأن كل مقدور عليه مزهود فيه، وكل معجوز عنه مُتَطَلَّعٌ إليه بشغف.
حتى لقد سمعت الشيخ أبا العباس يقول: «يكون الرجل بين أَظْهُرِهِمْ فلا يُلْقُونَ إليه بالًا، حتى إذا مات قالوا: كان فلان. وربما دخل في طريق الرجل بعد وفاته أكثر مما دخل فيها في حياته»، والذي ظهر بهذه الأوصاف هو الشيخ أبو العباس الذي بث علوم الشيخ أبي الحسن، ونشر أنوارها وأبدى أسرارها، وسار الناس إليه من أقاصي البلاد، وأقبلوا مُسْرِعِينَ إليه من كل ناد، فنشأت على يديه الرجال، بَصَّرَهَا وأظهرها بالمقال والفعال، حتى انتشرت في الآفاق الأصحاب وأصحاب الأصحاب، وظهرت علوم الشيخ في مَظْهَرَيْ لسان وكتاب.
وأخبرني الشيخ الصالح الأمين، العدل زكي الدين الأُسْوَانِيُّ قال: قال لي الشيخ أبو الحسن }: «يا زكي، عليك بأبي العباس فواللهِ إنه ليأتيه البدوي يبول على ساقيه، فلا يمس عليه الماء، إلا وقد وصله إلى الله، يا زكي عليك بأبي العباس، فوالله ما من ولي لله كان أو هو كائن، إلا وقد أظهره الله عليه، يا زكي، أبو العباس هو الرجل الكامل».
وسمعت الشيخ أبا العباس } يقول عن نفسه: «واللهِ ما سار الأولياء والأبدال من (ق) إلى (ق)، حتى يلقوا واحدًا مثلنا، فإذا لقوه كان بُغْيَتَهُمْ».
ثم قال: «واللهِ الذي لا إله إلا هو، ما من ولي لله كان أو هو كائن، إلا وقد أطلعني الله عليه وعلى اسمه ونسبه، وكم حظه من الله تعالى».
وبلغني عن الشيخ أبي الحسن أنه كان يقول: «أبو العباس شمسٌ، وعبد الحكيم قمرٌ»، وعبد الحكيم هذا ولي كبير من أصحاب الشيخ أبي الحسن، وقد تقدم ذكره.
وسمع الشيخ أبا العباس يقول: «قال الشيخ أبو الحسن: سمعت يقال لي: لن تهلك أمة فيها أربعة: إمام، وولي، وصِدِّيقٌ، وسخي». قال الشيخ أبو الحسن: «الإمام هو أبو العباس».
وسمعت الشيخ أبا العباس يقول: «ليس الشأنُ من مَلَكَ، الشأن من مَلَكَ ومَلَكَ أن يُمَلَّكَ، وأنا والله مَلَكْتُ، ومَلَكْتُ أن أُمَلَّكَ من ستٍّ وثلاثين سنة».
وسمعته يقول: «الولي إذا أراد أغني»، وسمعته يقول: «والله ما بيني وبين الرجل إلا أن أنظر إليه نظرة وقد أغنيته».
وسمعته يقول: «قال الشيخ أبو الحسن: يا أبا العباس، ما صحبتك إلا لتكون أنت أنا وأنا أنت» وسمعته يقول: «قال لي الشيخ: يا أبا العباس، فيك ما في الأولياء، وليس في الأولياء ما فيك».
وأخبرني بعض أهل الْبَهْنَسَا، قال: قدم علينا الشيخ أبو العباس فقال: «لي خمس وعشرون سنة ما حُجِبْتُ فيها عن الله طرفة عين»، ثم قال: غاب عنا خمس عشرة سنة ثم قدم علينا فقال: «لي الآن أربعون سنةً ما حُجِبْتُ عن الله طرفة عين»، وقال يومًا: «والله لو حُجِبَ عني رسول الله >، ما عَدَدْتُ نفسي مع المسلمين»، وأخبرني بعض أصحابه قال: دخل عليه بدمنهور إنسان، فلما أراد أن يخرج قال: «يا سيدي، صافحني فإنك قد لقيت عبادًا وبلادًا»، فلما خرج قيل: «ما الذي يعني ببلاد وعباد؟» فقال إنسان: «يريد أنك صافحت عبادًا وسلكت بلادًا اكتسبت بركاتها، فإذا صافحك حصل له منك بركة»، فضحك الشيخ ثم قال: «والله ما صافحت بهذه اليد إلا رسول الله >».
وكان بنشيل القناطر رجل يقال له خليل، وهو الآن مدفون بها، وكان من أولياء الله تعالى، قال: دخل عليَّ الشيخ أبو الحسن الشاذلي } فتوضأ عندي، ثم أخذ قوسًا لي فَجَرَّهَا ثلاثًا، فقلت له: «يا سيدي من هو الخليفة بعدك؟»، فقال: «من يأتيك إلى ها هنا، ويتوضأ نحو وضوئي هذا، ويجر هذا القوس ثلاثًا فهو الخليفة بعدي».
قال: فدخل عليَّ أصحاب الشيخ أجمعهم وأنا أترصد هل يفعل ذلك أحد؟ فلم يتفق، حتى دخل الشيخ
أبو العباس } عليَّ في ذلك الوقت، وتوضأ نحو وضوء الشيخ، ورفع بصره فوجد القوس معلقًا، فقال: «ناولني تلك القوس» فناولته إياها، فَجَرَّهَا ثلاث مرات، ثم قال: «يا خليل، جاءك وعد الشيخ»، وبلغني عن الشيخ أبي الحسن أنه قال: «هذا أبو العباس مُذْ نفذ إلى الله لم يُحْجَبْ، ولو طَلَبَ الحجاب لم يَجِدْهُ».
وقال الشيخ أبو العباس: كنت ليلة من الليالي جالسًا بالإسكندرية أكتب كتابًا ببعض أصحابنا، وإذا بالشيخ خليل هذا في الهواء، فقلت له: «إلى أين انتهيت في سياحتك في هذه الليلة؟»، فقال: «خرجت من نشيل، وانتهيت إلى جبال الزيتون بالمغرب الأقصى، وأنا أريد أن أذهب إلى بيت المقدس وأعود إلى بلدتي، ولو بسطت لي أكثر من ذلك لانبسطت».
قال الشيخ: فقلت له: «ليس الشأن أن تذهب إلى جبال الزيتون وتعود من ليلتك، ولكن أنا الساعة لو أردت أن آخذ بيدك وأضعك على «ق» وأنا ها هنا فعلت».
وأخبرني أبو عبد الله بن سلطان -وكان من أولياء الله- قال: أردت أن أرسل إلى الشيخ أبي العباس عسلًا، فقلت لبعض أصحابي، فقال لي: عندي نصفيتان عسل فراخ -أي جرتان صغيرتان- فأتى إليَّ بهما فسددتهما، وكتبت عليهما: «وديعة الشيخ أبي العباس المرسي»، وأتيت بهما إلى بحر تونس فأدليتهما، فجاءني الخبر من عنده أنهما وصلا إليه.
وأخبرني بعض أصحابه قال: كان الشيخ جالسًا يومًا، فقال لبعض أصحابه: «قم بنا»، فأتى إلى بحر السلسلة، وأدلى يده فأخرج الجَرَّتَيْنِ.
وأخبرني عبد العليم بن الشيخ ماضي -وماضي هذا أحد أصحاب الشيخ أبي الحسن، وهو أخو عبد الله بن سلطان- قال: صليت ليلة عند الشيخ أبي العباس قيام شهر رمضان، فلما فرغ من الصلاة قال لولد: «خذ ابن عمك، واصعد به إلى فوق»، قال: فطلعنا عند الشيخ، فوضع لنا قطائف وعسلًا لله، وقال: «هذا العسل من عند عمك»، فلما ذهبت إلى والدي قال لي: «أبطأت الليلة لقد شغلت قلبي!»، قلت: «كنت عند الشيخ أبي العباس وأطعمني قطائف وعسلًا، وقال: هذا العسل من عند عمك»، فقال أبي: «عجب هذا! لي في ديار مصر عشرون سنة، ما أرسل إِلَيَّ أخي شيئًا قط»، حتى بلغه بأن وصول العسل كان على الوجه الذي تقدم.
وكان يقول: «والله لو حُجِبَتْ عني جَنَّةُ الفردوس طرفة عين، ما عَدَدْتُ نفسي مع المسلمين».
وسمعته } يقول إذا أوذيت من بعض أصحابه: «اصبر؛ فوالله ما هي إلا لك»؛ أي ما الوراثة إلا لك.
ووجدت بخط الشيخ ابن ناشي: أخبرنا الشيخ جلال الدين عن الشيخ أبي الحسن الشاذلي }، أنه قال: «ألبس اليوم أبو العباس ثياب البدلة حين مجيئهم من الحجاز بالمراس بالجدير» قال ابن ناشي: فكتبت إلى شيخي أبي العباس } في ذلك شعرًا:
عَلى ذَلِكَ الْوَجْهِ الْجَمِيلِ تَحِيَّتِي |
* | فَيَا رَبِّ بَلِّغْنِي إِلَى بَابِ قُدْوَتِي |
أُقَبِّلُ أَقْدَامًا سَعَتُ نَحْوَ خَلْوَةٍ |
* | بِهَا خَلْوَةُ لِلشَّيْخِ أَعْظَمَ خَلْوَةِ |
فَأَخْرُجَ مِنْ ضِيقِ الضَّلَالِ إِلَى الْهُدَى |
* | وَصَحِّحْ لِي عَقْدِي وَعَهْدِي وَنِيَّتِي |
وَأَشْرَقَتِ الْأَنْوَارُ مِنْ كُلِّ وِجْهَةٍ |
* | بِتَلْقِينِهِ الْأَوْرَادَ فِي كُلِّ زَوْرَةِ |
وَأَبْصَرْتُ مَا أَبْصَرْتُ مِنْ ذَلكَ الَّذِي |
* | فَلَا تَسْأَلُوا يَا َقْوُم عَنْ تِلْكُمُو الَّتِي |
أَنُوحُ عَلَيْهَا لَا أَبُوحُ بِبَعْضِهَا |
* | وَلَكِنَّنِي إِنْ بُحْتُ بُحْتُ بِعَبْرَةِ |
فَسُبْحَانَ مَنْ أَعَمَى الْقُلُوبَ عَنِ الَّذِي |
* | تَصَرَّفَ فِي سِرِّ الْقُلُوبِ بِهِمَّةِ |
وَمَنْ ذَا الَّذِي رُبِّيْ بِحَضْرَةِ شَيْخِهِ |
* | فَأَكْرِمْ بِهَا مِنْ حَضْرَةٍ بَعْدَ حَضْرَةِ |
وَكَانَ جَدِيرًا فِي الْجَدِيرِ بِحُلَّةٍ |
* | غَدَتْ حُلَّةَ الْأَبْدَالِ أَوَّلَ سَفْرَةِ |
كَذَلِكَ قَالَ الشَّيْخُ وَهْوَ مُسَافِرٌ |
* | بِلَا وَقْفَةٍ لِلرَّكْبِ فِي عَامِ وَقْفَةِ |
أَفِي الْوَقْتِ رَبَّانٌ كَأَحْمَدٍ الَّذِي |
* | أَتَانِي فَرَبَّانِي عَلَى حِينِ فَتْرَةِ |
وَمَدْحِي لَهُ مَدْحٌ لِأَحْمَدٍ الَّذِي |
* | عَلَا فِي الْعُلَا أَعْلَى مَقَامِ الْمَحَبَّةِ |
فَصَلَّى عَلَيْهِ اللهُ مَا سَارَ سَائِرٌ |
* | إِلَى قَبْرِهِ بَعْدَ الْقِيَامِ بِحُجَّةِ |
وأخبرنا الشيخ الإمام العارف نجم الدين عبد الله الأصفهاني نزيل مكة، قال: قال لي شيخ صحبته وأنا ببلاد العجم: «إنك ستلقى القطب بديار مصر»؛ فخرجت من بلادي قاصدًا لذلك، فأنا في بعض الطريق وإذا بجماعة من التتار، فأمسكوني وقالوا: «هذا جاسوس»، فكتفوني ثم تشاوروا فيَّ؛ فقال بعضهم: «نقتله»، وقال آخرون: «لا نقتلهۚ»، فبِتُّ مكتوفًا ففكرت في أمري، فقلت: «خرجت من بلادي أريد لقاء من يعرفني بالله، واللهِ ما جزعي من الموت ولكن
كيف أموت قبل أن أنال ما قصدت؟»، فعملت أبياتًا ضمنت فيها شعر امرئ القيس منها:
وَقَدْ أَوْطَأْتُ نَعْلِي كُلَّ أَرْضٍ |
* | وَقَدْ أَتْعَبْتُ نَفْسِي بِاغْتِرَابِي |
وَقَدْ طَوَّفْتُ فِي الْآفَاقِ حَتَّى |
* | رَضِيتُ مِنَ الْغَنِيمَةِ بِالْإِيَابِ |
فما اسْتَتْمَمْتُ الإنشاد إلا وأنا أرى رجلًا كَثَّ اللِّحية ظاهر الهيبة، أتى إليَّ كالبازي إذا انْقَضَّ على الفريسة، فحَلَّ كتافي، وقال: «قم يا عبد الله فأنا مطلوبك»، ثم إني قدمت ديار مصر، فقيل لي: «ها هنا رجل يقال له أبو العباس المرسي»، فذهبت إليه فإذا هو ذلك الرجل الذي حَلَّ وثاقي، وقال لي: «لقد أعجبني تضمينك ليلة أُسِرْتَ وقولك...»، وذكر الأبيات إلى آخرها.
وأخبرني الشيخ نجم الدين أيضًا، قال: قال لي شيخي: «إذا لقيت القطب فلا تُصَلِّيَنَّ وهو وراءك»، فجئت يومًا إلى أبي العباس وهو بالإسكندرية عند صلاة العصر، فلما دخلت عليه قال: «أصليت العصر؟»، قلت: «لا»، قال: «قُم فَصَلِّ»، وفي المكان الذي هو فيه إيوانان قبلي وبحري، وكان الشيخ جالسًا في البحري، فلما قمت لأصلي ذكرت ما قاله شيخي: «إذا لقيت القطب فلا تُصَلِّيَنَّ وهو وراءك»، وعلمت أني إذا صليت كان الشيخ وراء ظهري، فأقام الله بقلبي حالة، وقلت: «حيثما كان الشيخ هناك القبلة»، فتوجهت لناحية الشيخ، وأردت أن أُكَبِّرَ، فقال الشيخ: «لا، هو لا يرضيه خلاف السنة».
وقال }: «ماذا أصنع بالكيمياء؟ والله لقد صحبت أقوامًا ما يعبر أحدهم على الشجرة اليابسة، فيشير إليها فتثمر إيانا للوقت، فمن صحب هؤلاء الرجال ماذا يصنع بالكيمياء!».
وأخبرني بعض أصحابنا، قال: «كنت أصحب بمدينة قُوص الشيخ أبا عبد الله البجائي أحد أصحاب الشيخ أبي الحسن الشاذلي، فكان يقع لي الأمر، فأسأل عنه الشيخ أبا عبد الله فيقول: «ليس هذا الأمر لي، ولكن إن جمع الله بينك وبين أبي العباس المرسي تجد عنده ما تريد».
وقال: رأيت في المنام كأن معي طبقًا فيه بُسْرٌ وحُوَّارَى يأكل منه فعبرته، فقيل: «هذا رجل كبير، لك على يديه علوم، بعدما أتى وقتها»، فلما ورد الشيخ أبو العباس إلى مدينة قوص، دخلت عليه فسألته عَمَّا كان يقع لي، فأجابني عن ذلك، وقال: تذكر رؤياك البُسْر والحوارى يأكل منه، أنا ذلك الحوارى.
وتجاريت الكلام يومًا مع الشيخ مكين الأسمر }، فقلت له عن الشيخ أبي العباس: قال الشيخ كذا، وقال كذا، إلى أن قال: «نقول لك الحق، ما عرفنا الشيخ أبا العباس» فهذا اعتراف من الشيخ مكين الدين بعظيم شأن الشيخ أبي العباس وأنه لم يعرفه، مع أن الشيخ أبا الحسن الشاذلي شهد الشيخ مكين الدين الأسمر أنه من السبعة الأبدال.
وكنت يومًا عند الشيخ أبي العباس الدمنهوري، وعنده إنسان من أصحاب أبي العباس، فقال له إنسان: «يا سيدي، هذا من أصحاب أبي العباس المرسي»، فقال الشيخ أبو العباس الدمنهوري: «سيدي أبو العباس المرسي مَلِكٌ من ملوك الآخرة».
وأخبرني سليمان الباخس، قال: دخلت على الشيخ أبي العباس الدمنهوري، فسمعته يقول: «يا رب هذاك أبو العباس، وأنا أبو العباس»، ويكرر ذلك؛ فقلت: «يا سيدي، من أبو العباس؟»، قال المرسي: «يا بني، ما من أسوان إلى الإسكندرية رجل مثله»، ثم قال: «ما من أسوان إلى دِمْيَاط إلى الإسكندرية رجل مثله».
وأخبرني سليمان هذا، قال: لقيت يومًا الشيخ أبا العباس المرسي وقد خرج من الحمام، فعزمت عليه؛ فطلع عندي، فقدمت له من البطيخ الصالحي، وهو في أثناء أكله سألته عن رجل كان كثير الشهرة، يرحل بالخلق الكثيرين والرايات، ولا يحضر صلاة الجمعة، فلما ذكرته للشيخ تَغَيَّرَ وقال: «واللهِ لو علمتُ أنك تذكره لي ما طلعت عندك، تذكرون بين يَدَيْ الأبدالِ والأولياءِ أهلَ البدع!».
وسمعته يقول: «واللهِ ما كان اثنان من أصحاب هذا العلم في زمن واحد قط، إلا واحد عن واحد إلى الحسن»، وأخبرني جماعة من أهل أَشْمُوم، قال: قدم علينا الشيخ أبو الحسن الشاذلي، فكان يتكلم علينا فيعجبنا كلامه، فإذا رأى إعجابنا بذلك، قال: «كيف لو رأيتم الشيخ أبا العباس المرسي، لو أطلق أبو العباس لساني لتكلمت بالعلم الغريب».
وسمعته يقول: «كان يتكلم في هذا العلم ثلاثة: الشيخ أبو الحسن، وصاحبه أبو الحسن الصقلي، وأنا، توفي الشيخ } وتوفي الصقلي، ولا أعلم اليوم على وجه الأرض أحدًا يتكلم في هذا العلم غيري»، وكنت أنا حين توفي الشيخ أبو العباس بالقاهرة، فدخلت يومًا زاوية الشيخ صفي الدين بن أبي المنصور فجلست فيها، فقال واحد من الفقراء يخاطب
آخر: «يا أخي، لقد مات رجل كبير»، فقال له الآخر: «من هو؟»، قال: «الشيخ أبو العباس المرسي»، وهما لا يعلمان أني من أصحاب الشيخ، «أتدري ما اتفق مع شيخنا صفي الدين؟» قال: «لا»، قال:« سمع الشيخ ليلة هنا ذكر ألا يعهده»، فقال لي: «اذهب فانظر من هذا؟»، فذهبت فإذا هو أبو العباس وأصحابه فرجعت إلى الشيخ صفي الدين فأخبرته، فقال: «يأتي هذا الرجل هنا ولا يزورنا! ما هذا إلا أمر عجيب!»، ثم أصبح الشيخ صفي الدين فقال لأصحابه: «رأيت البارحة كأني في فلاة من الأرض، وأبو العباس في موضع مرتفع، وهو يقول لي: يا أخي، يأبى الله أن نجتمع إلا هكذا».
وقال الشيخ أبو عبد الله النعمان: «الشيخ أبو العباس المرسي وارث علم الشاذلي حقيقة»، وأخبرني بعض أهل البهنسا، قال: قال لي الشيخ أمين الدين جبريل: «تريد أن أريك وليًّا من أولياء الله تعالى؟» قلت: «نعم»، قال: «امضِ بنا»، فأتى بي إلى الشيخ أبي العباس، وقال: «هو هذا».
وأخبرني بعض أصحابه، قال: عزم على الشيخ إنسان، فقدم إليه الطعام يختبره؛ فأعرض عنه ولم يأكله، ثم التفت إلى صاحب الطعام، وقال: «إن كان الحارثُ بن أسد المحاسبي في أصبعه عرق، إذا مَدَّ يده إلى طعام فيه شبهة تَحَرَّكَ عليه؛ فأنا في يدي ستون عرقًا تتحرك عليَّ، إذا كان مثل ذلك»، فاستغفر صاحب الطعام واعتذر للشيخ.
ومن المشهور بين أصحاب الشيخ أبي العباس وغيرهم: أن الشيخ كان يومًا بالقاهرة في دار الزكي السَّرَّاج، وكتاب «المواقف» للنفري يقرأ عليه.
فقال: «أين أبو العباس؟»، فلما جاء قال: «تكلم يا بني بارك الله فيك، تكلم ولن تسكت بعدها أبدًا»، فقال الشيخ أبو العباس: «فأعطيت في ذلك الوقت لسان الشيخ»، ولقد كان علماء الزمن يسلمون له هذا الشأن، حتى كان شيخنا الإمام العلامة سيف المناظرين حُجَّة المتكلمين شمس الدين الأصفهاني، والشيخ العلامة شمس الدين الأيكي، يجلسان بين يديه جلوس المستفيد، آخذين عنه ومتعلقين ما يبديه، حتى سأله أحدهما عن بعض المشايخ الظاهرين في الوقت: «يا سيدي، أتعرفه؟»، فقال الشيخ: «أعرفه هنا»، وأشار إلى الأرض، «ولا أعرفه هناك»، وأشار إلى السماء.
وسأله أحدهما عن إنسان كان بدمشق، الغالب عليه السُّكْرُ والغيبة، فقال الشيخ }: «كل من لا يكون له في هذه الطريقة شيخ لا يفرح به».
وكان من مذهبه } أنه لا يلزم أن يكون القطب شريفًا حَسَنِيًّا، بل قد يكون من غير هذا القبيل.
وتكلم يومًا في القطب وأوصافه، ثم قال: «وما القطبانية بعيدة من بعض الأولياء» وأشار إليه نفسه.
وأخبرني بعض أصحابه قال: استلقى الشيخ يومًا على ظهره وأمسك بلحيته وقال: «لو علم علماء العراق والشام ما تحت هذه الشعرات لأَتَوْهَا، ولو سَعَوْا على وجوههم».
وكان يقول: «والله ما نطالع كلام أهل الطريق إلا لنرى فضل الله علينا».
وقال في الإمام أبي حامد الغزالي }: «لنشهد له بالصديقية العظمى».
وكان الشيخ أبو الحسن يقول: «إذا عرضت لكم إلى الله حاجة؛ فتوسلوا إليه بإيمان أبي حامد الغزالي».
وكان يقول عن شيخه أبي الحسن: كتاب «الإحياء» يورثك العلم، وكتاب «القوت» يورثك النور.
وكان يقول عن الشيخ أبي الحسن: عليكم بــ «القوت» فإنه قوت.
وكان هو والشيخ أبو الحسن كل منهما يعظم الإمام الرباني محمد بن علي الترمذي، وكان لكلامه عندهما الحَظوة التامة، وكان يقول عنه: «إنه أحد الأربعة الأوتاد».
ودخلت عليه يومًا، فوجدته مغموسًا في واردٍ وَرَدَ عليه.
فقال: سمعت البارحة يقال لي: «السلام عليكم يا عبادي»، ثم قال وهذا قد سمعته في السنة مرة أو مرتين، وهذا من الحديث الذي قال فيه أبو العباس بن العَرِيفِ شعرًا:
بَدَا لَكَ سِرٌّ طَالَ عَنْكَ اكْتِتَامُهُ |
* | وَلَاحَ صَبَاحٌ كُنْتَ أَنْتَ ظَلَامَهُ |
فَأَنْتَ حِجَابُ الْقَلْبِ عَنْ سِرِّ غَيْبِهِ |
* | وَلَوْلَاكَ لَمْ يَطْبَعْ عَلَيْهِ خِتَامَهُ |
فَإِنْ غِبْتَ عَنْهُ حَلَّ فِيهِ وَطَنَّبَتْ |
* | عَلَى مَوْكِبِ الْكَشْفِ الْمَصُونِ خَيَامُهُ |
وَجَاءَ حَدِيثُ لَا يُمَلُّ سَمَاعُهُ |
* | شَهِيٌّ إِلَيْهِ نَشْرُهُ وَنِظَامُهُ |