في رحاب أهل الله
درجات العارفين:
والعارفون كما قدمنا درجات: ﴿هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللهِ﴾ [آل عمران:163]، ﴿وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا﴾ [الأنعام:132]، ﴿وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ﴾ [الصَّفات:164]. والعلم بهذه الدرجات ليس مشاعًا ولا مباحًا، ولكنه مخصوص بأهله، أهل الكشف والشهود، وهم قلة نادرة، شأنها الأدب مع الله بالكتمان، والقيام بين مرتبتي الخوف والرجاء، بلا دعوى ولا دعايات: ﴿وَلَلْآَخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا﴾ [الإسراء:21]. وإنما صاحب العلم بالدرجات مانحها ومعطيها ربنا سبحانه، والتهجم على علمه المكنون سوء أدب، والحكم على غير معروف دعوى زور، وشهادة على الله بغير يقين.
ومن هنا وجب التحفظ والاحتياط، كل التحفظ والاحتياط في القول بتفضيل شيخ على شيخ، أو ولي على ولي إلا بعلم يقين. وهيهات هيهات، فقد يوجد اللؤلؤ في المحار، ولا يوجد في بطن الحوت الجبار: ﴿وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا﴾ [الإسراء:20].
ثم قارن بين مشهورية موسى ومغمورية العبد الصالح، وأيهما كان التابع يومًا، وأيهما كان المتبوع وأيهما كان الطالب يومًا وأيهما كان المطلوب، ثم اعقد المعادلة الفاصلة بين مغمورية إليسع ومشهورية إبليس، وقل: اللهم علمنا الأدب، فالرجال كنوز مستورة، لا أسماء مشهورة.
ومن هنا وجب حسن الظن بجميع أولياء الله، وحسن الظن بالناس من حسن الظن بالله، وهو ثمن الجنة، وكما لا يجوز التفريق بين أحد من الرسل لا يجوز التفريق بين أحد من الأولياء الذين عرفوا بالولاية، شهروا أم لم يشهروا.
فَأَحْبِبْ أشياخَكَ ما شاء الله، وقدمهم وقدرهم وعظمهم ما شاء الله، ولكن لا تحتقر غيرهم، ولا تستصغر شأن من لم تنسب إليه منهم، ولا تحرم نفسك مدد التبرك بهم، ولا تحكم على فضل الله بما ليس لك به علم، وتأمل قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا﴾ [الإسراء:20]. وهو الذي يهب من يشاء إناثًا ويهب لمن يشاء الذكور، أو يزوجهم ذكرانًا وإناثًا ويجعل من يشاء عقيمًا، سواء في ذلك عطاء الحس والمعنى، وعطاء الظاهر وعطاء الباطن، من مفهوم الحقيقة والمجاز: ﴿وَلَوِ اتَّبَعَ الحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ﴾ [المؤمنون:71].
وأهل الله العارفين به كثير كثير، أنماط وألوان ورتب، مشهور ومستور، وكم من مستور خير من ألف مشهور، مدام على الأرض كتاب وسنة، ويوم تخلو منهم الدنيا فقد آذنت الدنيا بالفناء الأعظم.
وهذه نماذج من علامات الأولياء في الحديث الشريف:
روى النسائي: ثلاث من كن فيه استحق ولاية الله:
1- حلم أصيل يدفع به سفه السفيه.
2- ورع صادق يحجزه عن محارم الله.
3- وخلق حسن يداري به الناس([1]).
وروى أحمد: إذا أحب العبد لله، وأبغض لله فقد استحق ولاية الله.
وروى ابن أبي الدنيا في الأولياء حديثًا قدسيًا: إن أوليائي من عبادي من يُذْكَرُونَ بِذِكْرِي، وأُذْكَرُ بذِكْرِهِم([2]).
وروى الحكيم الترمذي: إن بدلاء أمتي لم يدخلوا الجنة بكثرة صوم ولا صلاة، ولكن دخلوها برحمة الله وسلامة الصدور، وسخاوة الأنفس([3]).
طريق الاجتباء وطريق الاهتداء:
يقول الحق تبارك وتعالى: ﴿اللهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ﴾ [الشُّورى:13]، ويقول: ﴿وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا﴾ [مريم:58].
فالسلوك أو الهجرة أو الفرار إليه تعالى مكون من وجهين:
الأول: طريق الاجتباء: وهو من فيوضات الفضل الإلهي، وهو تعالى لا يُسأل عما يفعل، ولكل شيء منه تعالى حكمته، والاجتباء معناه الاصطفاء والاختيار، فهو تعالى يصطفي من عباده من يشاء كما يشاء على ما يشاء، فيفيض عليه ما يشاء من فضله في ظلال قوله تعالى: ﴿إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ﴾ [الزُّخرف:59].
والاجتباء مقام (المحبوبية)؛ لأنه يبدأ منه تعالى تكرمًا على عبده المجتبى، فهو من أهل آية: ﴿يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ﴾ [المائدة:54]. أي يحبونه تعالى بحبه لهم، إذ كان البدء هنا من مقام الرضا: ﴿رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ﴾ [المائدة:119]. والرضا من منابع الحب بدءًا من الأعلى ليستقر حيث يشاء الله في الأدنى.
وهذا المقام من أعلى المقامات عند الصوفية؛ لأن صاحبه أغلب ما يكون في رحاب البسط والرجاء على بساط المواهب والعطايا والنظرة والمدد، وكل الأنبياء من مقام الاجتباء والاصطفاء، فهو من مواريث النبوة الغالية.
الثاني: مقام الاهتداء: وهو مقام العموم وإلى أهله يتوجه خطاب الأمر والنهي، والترغيب والترهيب، والسلوك إلى الله فيه من باب العمل والجهد، والرياضة، والانضباط، والمراقبة، والذكر والفرار، ولأنه يبدأ من العبد، أي من أدنى فصاحبه من أهل آية: ﴿وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا للهِ﴾ [البقرة:165] ولهذا أغلب ما يكون صاحب هذا المقام على بساط الخوف، والقبض، والتوقع والاحتياط، فإن باب الهداية هو الإنابة، كما جاء في الآية: ﴿وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ﴾ [الشُّورى:13]. والإنابة: عمل، والتزام، وعزيمة. وقد يصل العبد من طريق الاهتداء إلى رحاب الاجتباء، فيجمع له بين فضيلتين، ويذوق حلاوة: ﴿وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ﴾ [البلد:10]، وهذا هو مقام (الحِبِّيَّةِ)، مقام: ﴿وَقُلِ اعْمَلُوا﴾ [التوبة:105]، و﴿وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا﴾ [التغابن:16].
والعبد في مقام (الحبية والمحبوبية) يمضي في ظلال: ﴿نِعْمَ العَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ﴾ [ص:30]، فمن لم يكن هنا أو هنالك فهو هالك مع الهالك، وليس ذلك كذلك، وهكذا نجد جميع أهل الله بين طرفي إرادة الاجتباء والاهتداء، والله يفعل ما يشاء.
([2]) أخرجه ابن أبي الدنيا في «الأولياء» (ص15 رقم 19)، والطبراني في «الأوسط» (1/203 رقم 651) عن عَمْرو بن الحمق.
([3]) أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (7/439 رقم 10892) مرسلًا عن الحسن البصري، ورقم (10893) موصولًا عن أبي سعيد الْخُدْرِيّ.
قضية الأقطاب