توجيه حديث افتراق الأمة
بقي الكلام على الحديث الذي لايزال يلغط به بعضهم، ابتغاء تطبيقه على الجماعات الصوفية افتئاتًا على الله، أو جهلًا بالمراد. وللحديث ألفاظ مختلفة منها: افترق اليهود والنصارى إلى كذا فرقة، وستفترق أمتي إلى كذا فرقة كلهم في النار إلا ما عليه أنا وأصحابي.
وقد تكلم المحدثون في سند هذا الحديث ومتنه، وأَعَلُّوهُ تمامًا فلم يصل عندهم إلى رتبة الصحة التي يسوغ معها الاحتجاج العلمي القاطع به، ومع هذا فلا يزال يجترونه اجترارًا عَدْوًا بغير علم، وتقليدًا ببغاويًا للتعصب السلفي المقيت الكريه.
ونحن، على تقدير صحته، قد بينا لك من نصوص القرآن، ثم من المسلمات البديهية أن تعدد السبل إلى المقصود الواحد أمر طبيعي وشرعي، فلا ينسحب عليه حكم (تعدد الفرق)؛ لأنه التي يطلق عليها تجاوزًا أو مجازًا اسم (الفرق) الآن في الإسلام كلها دائرة في فلك الكتاب والسنة، فهي على ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم هو وأصحابه، فهي مذاهب أو مشارب تبتدئ من الشاهدتين، وتنتهي عند حقها وأثرهما.
فالسادة: المالكية، والأحناف، والشافعية، والحنابلة، والزيدية، والظاهرية، والإباضية، والإمامية، والهادوية، والصوفية، والسلفية، والأشعرية، والماتريدية، والمعتزلة المعتدلين كل هؤلاء وأمثالهم يسيرون في طريق واحد على أساليب مختلفة من الفهم، والاستنباط، والمقارنة، والبحث، هذه الأساليب هي السبل الشرعية التي هداهم الله إليها بقوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا﴾ [العنكبوت:69]، والتي سمها الله تعالى: ﴿سُبُلَ السَّلَامِ﴾ [المائدة:16] كما جاء على لسان الأنبياء في القرآن قولهم: ﴿وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا﴾ [إبراهيم:12].
ويلحق بهؤلاء جميعًا سائر الهيئات، والجماعات، والجمعيات الإسلامية السليمة المنتشرة في بقاع الأرض، وهي ألوف لا تحصى.
وإنما ينطبق الحديث، على فرض صحته، على غلاة الخوارج، والباطنية، والقرامطة، والبهائية، والقاديانية، ونحو هؤلاء من الفرق التي ذكرها أصحاب الملل والنحل ممن خالفوا الأصول عمدًا، وأنكروا الملعوم من الدين بالضرورة، وليس في طوائف الصوفية خاصة وبقية الطوائف الإسلامية عامة من خالف الأصول عمدًا، أو أنكر المعروف من الدين بالضرورة، وإن تطرف أو تغالٍ.
ربما كان فيهم المقصرون، أو المنحرفون، أو العصاة، وهذا لا يحرمهم من الدين، ولا يسحب عليهم حكم الفرق الكافرة، فبعض الفرق أشد غلوًا وانحرافًا وتطرفًا وانجرافًا، ومع هذا فهي مسلمة، فالمعصية شيء، والردة شيء آخر.
فتوى شيخ الأزهر:
وقد سئل الإمام الأكبر شيخ الجامع الأزهر الشيخ جاد الحق علي جاد الحق عن هذا الحديث، فأجاب بما نصه:
الأحاديث الواردة في افتراق الأمة على ثلاث وسبعين فرقة اختلف العلماء في ثبوتها وعدم ثبوتها كلًا أو بعضًا، كما اختلفوا في حقيقة العدد، هل هو لمجرد التكثير، أو أن العدد هنا لا حقيقة له أو لا مفهوم له، ويجوز أن تزيد الفرق عليه، وإن لم يجز النقص، أو أن الفرق أصول الفرق دون فروعها؟
ومن العلماء من تكلفوا حصر العدد في فرق خاصة، ومع هذا لم يتفقوا على الفرق التي يستغرقون بها هذا العدد.
ومن صيغ هذا الحديث ما جاء في سنن ابن ماجه في باب افتراق الأمم من حديث أبي هريرة رضى الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تَفَرَّقَتِ الْيَهُودُ عَلَى إِحْدَى وَسَبْعِينَ فِرْقَةً وَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى ثَلاَثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً»([1]).
وإسناد آخر عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: «افْتَرَقَتِ الْيَهُودُ عَلَى إِحْدَى وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، فَوَاحِدَةٌ فِي الْجَنَّةِ وَسَبْعُونَ فِي النَّارِ. وَافْتَرَقَتِ النَّصَارَى عَلَى ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، فَإِحْدَى وَسَبْعُونَ فِي النَّارِ وَوَاحِدَةٌ فِي الْجَنَّةِ. وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَتَفْتَرِقَنَّ أُمَّتِي عَلَى ثَلاَثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، فَوَاحِدَةٌ فِي الْجَنَّةِ وَثِنْتَانِ وَسَبْعُونَ فِي النَّارِ». قِيلَ يَا رَسُولَ الله: مَنْ هُمْ؟ قَالَ: «الْجَمَاعَةُ»([2]).
وهناك روايات في سنن أبي داود، والحاكم، والبيهقي، وقد تكلم علماء الحديث في أسانيدها، وبيان هذه الفرق قد واجهه العلماء في مؤلفات خاصة، وكل ما يجب على المسلم اعتقاده والعمل به التمسك بالدين عقيدة وشريعة، والبعد عن الأهواء، والبدع، وزيغ العقيدة، وتأييد شريعة الإسلام، وإباحة ما أباحه الله ورسوله، وترحيم ما حرم الله ورسوله، فمن كان من هذا الفريق كان من جملة الفرق الناجية إن ختم الله له بها صوفيًا كان أو غير صوفي، اللهم ﴿صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ﴾ [الفاتحة:7] آمين، والله سبحانه وتعالى أعلم. انتهى.
من هم أهل السنة؟ أهل السنة هم كل أهل القبلة