مشروعية اتخاذ السبحة
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعقد الذكر ويعده بأنامله على الطريقة التي كانت شائعة في العرب أيامئذ، ولكنه لم يكن يمنع عد الذكر بالأداة التي تيسر ذلك، فإن العد بالأنامل منه صلى الله عليه وسلم لم يكن ليشغل قلبه عن سر الذكر، وليس كذلك غيره.
وقد أخرج الترمذي، والحاكم، والطبراني عن أم المؤمنين صَفِيَّة رضي الله عنها قَالَت: دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم وَبَيْنَ يَدَيَّ أَرْبَعَةُ آلاَفِ نَوَاةٍ أُسَبِّحُ بِهنَّ([1]).
وروى أبو داود، والترمذي عن سعد بن وقاص رضى الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل على امْرَأَةٍ -لعلها صفية بنت حيي- وَبَيْنَ يَدَيْهَا نَوًى أَوْ حَصًى تُسَبِّحُ بِهِ([2]).
وأخرج ابن سعد عن أبي هريرة: أنه كان يسبح بالنوى المجزع. أي ما فيه سواد وبياض.
وكذلك أخرج ابن أبي شيبة عن أبي سعيد الخدري: أنه كان يسبح بالحصى.
وكذلك صح أنه كان لأبي هريرة -أيضًا- خيط فيه ألفا عقدة، فلا ينام حتى يسبح به([3]).
وصح أنه كان لفاطمة بنت الحسين خيط معقود تسبح به. وكذلك كان لسعد بن أبي وقاص، وأبي صفية مولى النبي صلى الله عليه وسلم، وأبي الدرداء أكياس من النوى يسبحون بها([4]).
والآثار في هذا الجانب كثيرة جمعها الإمام السيوطي في رسالة سماها (المنحة) ضمن كتابه (الحاوي).
ومن مجموع هذه الآثار نجد أصل اتخاذ السبحة قائم في الإسلام لإحصاء الذكر، وإنما تطور النوى والحصى، وتطورت العقد في الخيط إلى حبات مثقوبة على صورة العقد يجمعها خيط، يحملها العابد فتذكره بربه وبورده، كما جاء في (مسند الفردوس) للديلمي عن علي مرفوعًا: نِعْمَ المذكر السبحة.
وذكر ابن خلكان عن أبي قاسم الجنيد أنه سئل عن السبحة، فقال: طريق وصلت به إلى ربي فلا أفارقه.
وسئل فيها الحسن البصري فقال: أحب أن أذكر الله بقلبي، ويدي، ولساني، وكلي.
وكان كذلك السري السقطي، ومعروف الكرخي، وبشر الحافي، ومن والاهم، بلا نظر إلى لغط المصابين بحب مخالفة أهل الله.
قال السيوطي: وقد اتخذ السبحة سادات يشار إليهم ويؤخذ عنهم، ويعتمد عليهم، فلو لم يكن في اتخاذها غير موافقة هؤلاء السادة، والدخول في سلكهم لكفى.
وقد قيل لبعضهم: أتعد على الله؟ قال: لا، ولكني أعد له.
وأما القول بأن السبحة منقولة عن الأديان أو الأوطان الأخرى، فغير صحيح بعد ما قدمنا من نشوئها وتطورها في الوسط الإسلامي، فإن اتفق وجه شبه بين هذا وهذا فليس معناه النقل والتلقيد، ولكنه نوع من توارد الخواطر والأفكار، علمًا بأنه ليس كل نقل أو تقليد حرام.
ولو اتخذ السبحة من نوع جيد بنية تعظيم الذكر والمذكور سبحانه كان لا بأس به ولا حرج عليه، فإن اتخذها من نوع غالٍ بنية المفاخرة، والشهرة، ولفت النظر كانت حرامًا، واتخاذ المسبحة الكاملة أفضل من اتخاذ الثلث قولًا واحدًا.
كما يحرم اتخاذ السبحة للهو، واللعب، والمفاخرة، ومجرد إشغال اليد؛ لأنها أداة عبادة. كما يحرم العد عليها من غير ذكر؛ لأنه تشبه كاذب وعبث. كما أفتى بذلك الإمام ابن الحاج رضى الله عنه.
وقد أفتى الإمام العُدْوِي بعدم اتخاذ السبح الكبار اللافتة للأنظار ووضعها في العنق أو نحو ذلك. نقول: لما في ذلك من طلب الشهرة، والرياء، وحب زعم الولاية، واستغلال السذج، واستغفال العامة، والله الموفق للصواب.
هذا وقد رأيت بعيني رأسي -والله شهيد- أن كبار الذين كانوا ينكرون حمل المسبحة، وقد أصبح يلازم حمل أنواع مما يسمى (الثلث) يعبث به هكذا وهكذا.
وقد أكد مشايخنا رضى الله عنه على ألا يُظْهِرُ المريد مسبحته إلا في داره، أو بين إخوانه في الله، أو في المسجد، حتى لا تدخله شبهة الرياء أو نحوها، وأن يجعل يده مع المسبحة في جيبه إن شاء أن يعد بها وهو بين الناس.
([1]) أخرجه الترمذي: (3554) وقال: هذا حديث غريب، والحاكم في المستدرك: (1/732) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه.
حكمة الله في تعدد الطرق الشرعية إليه