ما هو الحديث الضعيف؟ وما موقف الصوفية منه؟
1- تمهيد:
من البدع المستهجنة التي تجري بكل بساطة على ألسنة كثير من المغرمين بالانتساب إلى السنة والتوحيد والتجديد مجازفتهم بالقول بضعف الحديث على معنى أنه باطل مكذوب، ويعتبر العمل به رجسًا وفسقًا.
وليس كذلك العلم، فإن للحديث الضعيف مجالًا شرعيًا يدور فيه، ومن ظلم العلم والدين أن يؤخذ الحديث الضعيف بحكم الحديث المكذوب، ذلك أن الحديث الضعيف لم تستكمل فيه شروط الصحة، أي أن فيه صحة لكنها غير كاملة؛ ولهذا عده العلماء من قسم المقبول، فهو ليس من قسم المرفوض على أي حال، ولهذا استحب بعض العلماء العمل به في موضعه.
وأنا أعلم أن هذا الكلام لن يرضي بعض الناس، ولكن إرضاء الحق متعين ولو غضب كل الناس.
2- الكتب الصحاح كثيرة:
إن الأحاديث ليست هي وحدها ما جمعها كتاب الإمام البخاري أو الإمام مسلم -فقط-، ولا أعرف في دين الله نصًا ولا إشارة تدل على حصر الصحيح فيهما بالتحديد، فالتحدي بهما نوع من العصبية والإيهام بالعلم بلا علم.
جاء في (هدي الأبرار على طلعة الأنوار)، وفي (إضاءة الحالك) للإمام ابن الحاج العلوي، وفي (الجامع) لصفي الدين الهندي، وما حرره صاحب (المنهل اللطيف) وغيره ما جملته: إن الكتب التي كل ما يعزى إليها صحيح باتفاق جمهور المحدثين هي:
أ - البخاري.
ب- مسلم.
ج- الموطأ لمالك.
د - المنتقى لابن الجارود.
هـ- صحيح ابن خزيمة.
و- صحيح أبي عوانة.
ز- صحيح ابن السكن.
ح- صحيح ابن حبان.
ط- مستدرك الحاكم بعد استظهار الذهبي والعراقي، وإن كان في استظهار الذهبي إغراق واضح. وأضاف بعضهم مسند أحمد.
ثم المستخرجات وهي معروفة للعلماء.
فهذه الكتب المعروفة للعلماء ليس فيها إلا الصحيح، وأما ما عدا هذه الكتب ففيها الصحيح، وحسن، والضعيف.
والقاعدة: ألا يُقَدَم أحد على البخاري في العزو، وإن كان الحديث فيه وفي مسلم، ساقوا حديث مسلم لمبالغته في تحري اللفظ النبوي.
فالتحدي بلزوم ما جاء في البخاري ومسلم وحدهما على أن الصحيح ما فيهما -فقط- ليس من العلم ولا من الدين.
3- أقسام الحديث:
واتفق أهل هذا العلم على أن أهم أقسام الحديث ثلاثة:
أ- الحديث الصحيح، وهو أعلاها.
ب- الحديث الحسن، وهو أوسطها.
ج- الحديث الضعيف، وهو أدناها؛ لأنه اختل فيه شرط من شروط الحسن.
أما الحديث الموضوع المكذوب فهو خارج عن الدائرة التي نتحدث فيها الآن؛ لأنه رجس ساقط بالحكم وبالذات قولًا واحدًا.
والضعيف قسمان:
القسم الأول: ينجبر ضعفه لاعتضاده بوروده من طرق أخرى، إذا كان الرواي ضعيف الحفظ، أو كان الضعف للإرسال أو الستر، فيرتفع إلى درجة الحسن لغيره، ويكون من جملة المقبول، ويحتج به حتى في الاحكام.
القسم الثاني من الضعيف: ما لا ينجبر ضعفه وإن كثرت طرقه، وهو الواهي، إذا كان الرواي فاسقًا أو متهمًا بالكذب. قال علماؤنا: إن مثل هذا الحديث إذا اعتضد وكانت له شواهد ومتابعات أخرى فإنه يرتقي من رتبة الحديث المنكر أو ما لا أصل له، وعندئذ يجوز العمل به في فضائل الأعمال، إي فيما عدا:
أ- العقائد.
ب- الأحكام.
وأضاف بعض العلماء:
ج- التفسير -أيضًا-.
فيجوز إذن اعتبار الحديث الضعيف في كافة أنواع الترغيب والترهيب، والآداب، والتواريخ، والمناقب، والمغازي ونحوها. وهو ما نقل الإجماع عليه الإمام النووي، وابن عبد البر وغيرهما، بل نقل النووي استحباب العمل به، والاستحباب من جملة أمور الدين وأحكام الشرع الشريف.
قلنا: ولكن بشرط ألا يشتد ضعفه، وأن يكون أساسًا مندرجًا تحت عموم قاعدة شرعية كلية، وألا يعارضه حديث صحيح. وهو رأي ابن حجر والسخاوي وغيرهما.
4- مزيد من البيان:
روى أبو الشيخ ابن حبان في كتاب (النوائب) عن جابر مرفوعًا: «من بَلَغَهُ عن الله
-عز وجل- شيء فيه فضيلة فأخذ به إيمانًا به، ورجاءً لثوابه، أعطاه الله ذلك، وإن لم يكن كذلك».
وهذا الحديث أصل كبير في أحكام الحديث الضعيف.
وقد نقلوا عن الإمام أحمد أنه كان يأخذ في الأحكام بالحديث الضعيف إذا جُبِرَ بالشهرة، كما كان يقدم الحديث الضعيف على الرأي.
وكذلك الأحناف يقدمون الحديث الضعيف على الرأي. كما نقله الزركشي، وابن حزم وغيرهما.
ومذهب أبي داود هو مذهب الأحناف والحنابلة في تفضيل الحديث الضعيف على الرأي إذا لم يكن في الباب غيره.
ولم يخالف في الإجماع على العمل بالضعيف إلا ابن العربي، على ما نقله ابن الصلاح، ولمخالفته هذه وجوه يرد عليه منها أو يحمل قوله عليها، فلا تعارض بينه وبين الإجماع بجواز واستحسان العمل بالضعيف في موضعه.
5- الصحيحان والضعيف والمُضَعَّفُ:
وهناك قسم من الحديث يقال له (المُضَعَّف)، وهو الذي ضَعَّفَ رجالَه قومٌ ووثقهم آخرون. وهذا القسم من الأحاديث يقع بين الصحيح والضعيف، أي أنه دون الصحيح وفوق الضعيف، فهو أخو الحسن، أو هو نوع عالٍ منه، ولهذا أجاوزا دخلوه الكتب الصحيحة. وإنما تذكر هذه الأحاديث المضعفة في الصحاح على سبيل المتابعة والاستشهاد، أو على الإسناد في الأعم الأغلب.
وقد انفرد البخاري بالإخراج دون مسلم لأربعمئة وبضعة وثمانين رجلًا، تكلم بالضعف في ثمانين منهم، وأما رجال مسلم فستمئة وعشرون رجلًا، تكلم في مئة وستين منهم، وكل هؤلاء وثقهم آخرون كثيرون.
قال ابن الصلاح: يقطع بصحة ما أسنداه البخاري ومسلم أو أحدهما، سوى أحرف يسيرة تكلم عليها بعض أهل النقد لا كلهم.
قلنا: فهذه الأحرف من قسم المضعف الذي يجوز دخوله الكتب الصحاح بلا معابة كما بينا.
ثم إن الحكم على الحديث بالصحة أو الحسن أو الضعف إنما هو الظاهر الإسناد لا لما هو في نفس الأمر، فنفس الأمر هو اليقين المطلق الذي لا يعلمه إلا الله وحده، ولذلك قالوا: كم من الحديث الصحيح هو في نفس الأمر ضعيف، وكم من حديث ضعيف هو في نفس الأمر صحيح. وإنما علينا التحري والاجتهاد. قالوا: لأنه يجوز الخطأ والنسيان على العدل الصدوق كما يجوز على غيره، فاليقين هنا اعتباري محض.
ورواية العدل عن الضعيف تعديل له عند الأصوليين.
قال صاحب المنهل: وقياسه أنه تصحيح له –أيضًا- عندهم.
6- السادة الصوفية والحديث الضعيف:
ولعل إخواننا الكتاب والمرشدين بعد هذا يتورعون من حمل المجازفة بإطلاق حكم الضعف على الحديث يريدون بذلك أنه موضوع مكذوب مفترى لا ينبغي الانتفاع به، ولا احترامه، ولا تناقله، ولا الاستئناس بلفظه ولا معناه، وأنكر المنكر ألا تتخفف أزمة هؤلاء الإخوة إلا حين يتهمون الصوفية بالاقتصار على الأخذ بالضعيف حتى في المقامات التي أجمع على استحبابها علماء الحديث في المشارق والمغارب. ومن كبار علماء الحديث عدد كبير من الصوفية المرشدين.
قال ابن عبد البر: أحاديث الفضائل لا نحتاج فيها إلى من يحتج به([1]).
ولفظ ابن مهدي في المدخل: إذا روينا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحلال والحرام والأحكام شددنا في الأسانيد وانتقدنا الرجال، وإذا روينا في الفضائل والثواب والعقاب تساهلنا في الأسانيد، وتسامحنا في الرجال([2]).
ويقول الإمام الرملي: الأحاديث الشديدة الضعف -يعني الواهية- إذا انضم بعضها إلى بعض يحتج بها في هذا الباب، يعني: الفضائل، والرقائق، والمواعظ، والمناقب، والتواريخ ونحوها، وبهذا أخذ المنذري في الترغيب والترهيب وسائر المحققين.
وهذا الذي أخذ به سلف المتخصصين في علم الحديث هو ما أخذ به بعض الفقهاء والصوفية، وبه نأخذ، فكثيرًا ما نجد في متن الحديث الضعيف حكمًا، ومعارفَ، ورقائقَ، وآدابًا تحمل كلها روائح النبوة. والحكمة ضالة المؤمن.
وهذا ما جاء عن السلف كما قدمنا كالثوري، وابن الصلاح، وابن عيينة، وابن حنبل، وابن المبارك، وابن مهدي، وابن معين، والنووي، وبوب له ابن عدي في الكامل، والخطيب في الكفاية([3]).
وفي عصرنا هذا رأينا، مع الألم الشديد، من يرفض أحاديث البخاري لأنها لا تتفق مع مفهومه، ولا تتناسب مع مزاجه باسم الانتصار للسنة، بل رأينا من ألف هذا الباب، وليس هو من أهله، وقد وجد من أعداء الإسلام من يعينه على طباعة كتابه هذا وتوزيعه بالمجان في كل مكان رغم ضخامة تكاليفه التي تنادي بالعمالة وسوء النية.
ولولا لطف الله ووقفة مجلة (المسلم) وبعض علماء الحديث لدخل الشك في كل ما روى البخاري فضلًا عن غيره، ولأشرفت السنة الشريفة الثابتة علميًا على فتنة وقاها الله إياها، من جانب أدعياء الانتصار للسنة ومحتكري العلم بها دون خلق الله.
هذا وقد خَرَّجَ النسائي في السنن الصغرى والكبرى لكل من لم يجمع على تركه، أي من لا يروي الحديث إلا من جهته، ما لم يكن كذابًا.
وليس فيما وقع لنا مما يرويه السادة الصوفية سند فيه رجل كذاب، ووكفى بهذا دليلًا على جواز العمل بالضعيف في موضعه، موقف السادة الصوفية منه.
ونستغفر الله ونتوب إليه، وهو الموفق المستعان.
معلومات مبدئية عن الطريقة المحمدية