أفضل الكرامات وأَجَلُّ القُرُبَات
أفضل الكرامات وأَجَلُّ القُرُبَات(*)
فقد تبين لك من هذا أنَّ التدبير والاختيار من أشد الذنوب والأوزار، فإذا أردت أن يكون لك من الله اختيار فأسقط معه الاختبار، وإن أردت أن يكون لك حسن التدبير فلا تَدْعُ معه وجود التدبير، وإن أردت الوصول إلى المراد فذلك بِأَلَّا يكون([1]) معه مراد؛ ولذلك لما قيل لأبي يزيد([2]) ما تريد؟ قال: «أريد ألَّا أريد». اهـ.
فلم تكن أمنيته من الله ولا طلبته منه إلا سقوط الإرادة معه؛ لعلمه أنَّها أفضل الكرامات وأَجَلُّ القربات، وقد يتفق للمخصص الكرامات الظاهرة، وبقايا التدبير كامنة فيه.
فالكرامة الكامنة الكاملة الحقيقية إنما هي: ترك التدبير مع الله، والتفويض لحكم الله؛ ولذلك قال الشيخ أبو الحسن -رحمه الله تعالى-: «إنما هما كرامتان جامعتان محيطتان».
كرامة الإيمان: لمزيد الإيقان، وشهود العيان، وكرامة العمل على الاقتداء والمتابعة ومجانبة الدعاوى والمخادعة؛ فمن أعطيهما ثم جعل يشتاق إلى غيرهما فهو عبد مفترٍ كذاب أو ذو خطأ بالعلم والعمل بالصواب، وكل كرامة لا يصحبها الرضا من الله تعالى وعن الله فصاحبها مستدرج مغرور، أو ناقص، أو هالك مثبور» اهـ.
فاعلم أنَّ الكرامة لا تكون كرامة حتى يصحبها الرضا عن الله، ومن لازم الرضا عن الله ترك التدبير معه، وإسقاط الاختيار بين يديه، واعلم أنه قد قال بعضهم: «إنَّ أبا يزيد -رحمه الله- لما أراد ألا يريد فقد أراد». اهـ.
وهذا قول من لا معرفة عنده وذلك؛ لأن أبا يزيد إنما أراد ألا يريد؛ لأن الله تعالى اختار له وللعبيد أجمع عدم([3]) الإرادة معه، فهو في إرادته ألَّا يريد موافق لإرادة الله تعالى له؛ ولذلك قال الشيخ أبو الحسن رحمه الله تعالى: «وكل مختارات الشرع وترتيباته ليس لك منها شيء، واسمع وأطع»، وهذا موضع الفقة الرباني والعلم اللدني، وهو أرض لِتَنَزُّلِ علم الحقيقة المأخوذ عن الله لمن استوى». اهـ.
فأفاد الشيخ بهذا الكلام أنَّ كل مختار للشرع، ولا يناقض اختياره مقام العبودية المبني على ترك الاختيار؛ لئلا ينخدع عقل قاصر عن درك الحقيقة بذلك؛ فيظن أن الوظائف والأوراد، ورواتب السنن وإدارتها، ويخرج بها العبد عن صريح العبودية لأنَّه قد اختار؛ فبين الشيخ رحمه الله تعالى أنَّ كل مختارات الشرع وترتيباته ليس لك منها([4]) شيء، وإنما أنت مخاطب أن تخرج عن تدبيرك لنفسك، واختيارك لها لا عن تدبير الله ورسوله لك، فافهم!.
فقد علمت إذن أن أبا يزيد ما أراد ألَّا يريد إلا لأنَّ الله تعالى أراد منه ذلك؛ فلم تخرجه هذه الإرادة عن العبودية المقتضاة منه، فقد علمت أن الطريق الموصلة إلى الله تعالى هي محور الإرادة([5])، ورفض المشيئة حتى قال الشيخ أبو الحسن -رحمه الله تعالى-: «لن يصل الولي إلى الله ومعه تدبير من تدبيراته واختيار من اختياراته». اهـ.
وسمعت شيخنا أبا العباس -رحمه الله تعالى- يقول: «ولن يصل العبد([6]) إلى الله تعالى حتى تنقطع عنه شهوة الوصول إلى الله تعالى». اهـ.
يريد -والله أعلم- أن تنقطع عنه انقطاع أدب لا انقطاع ملل، أو لأنَّه يشهد إذا قرب إبَّانَ وصوله عدم استحقاقه لذلك، واستحقاره لنفسه أن يكون أهلًا لما هنالك؛ فتنقطع عنه شهوة الوصول لذلك، لا مللًا، ولا سُلُوًّا، ولا اشتغالًا عن الله تعالى بشيء دونه، فإذا أردت الإشراق والتنوير فعليك بإسقاط التدبير، واسلك إلى الله كما سلكوا تدرك ما أدركوا، اسلك مسالكهم، وانهج مناهجهم، وألقِ عصاك فهذا جانب الوادي.
ولنا في هذا المعنى في ابتداء العمر، ما كتبت به لبعض إخواني:
أيا صاح هذا الركب قد سار مسرعًا |
ونحن قعود ما الذي أنت صانع |
أترضى بأن تبقى المخلف بعدهم |
صريع الأماني والغرام ينازع |
وهذا لسان الكون ينطق جهرة |
بأن جميع الكائنات قواطع |
وألَّا يرى وجه السبيل سوى امرئ |
رمى بالسوء لم تختدعه المطامع |
ومن أبصر الأشياء والحق قبلها |
فغيب مصنوعًا بمن هو صانع |
بواده أنوار لمن كان ذاهبًا |
وتحقيق أسرار لمن هو راجع |
فقم وانظر الأكوان والنور عمها |
ففجر التداني نحوك اليوم طالع |
وكن عبده والقِ القياد لحكمه |
وإياك تدبيرًا فما هو نافع |
أتحكم تدبيرًا وغيرك حاكم |
أأنت لأحكام الإله تنازع! |
فمحو إرادة وكل مشيئة |
هو الغرض الأقصى فهل أنت سامع |
كذلك سار الأولون فأدركوا |
على إثرهم فليسرِ من هو تابع |
على نفسه فليبكِ من كان طالبًا |
وما لمعت مِمَّنْ يحب لوامع |
على نفسه فليبكِ من كان باكيًا |
أيذهب وقت وهو باللهو ضائع |
([2]) هو أبو يزيد بن طيفور بن عيسى البسطامي، كان جده مجوسيًّا أسلم، وكانوا ثلاثة أخوة: آدم، وطيفور، وعلي، وكلهم كانوا زهادًا عبادًا، وكان أبو يزيد أَجَلَّهُمْ حالًا، ومن كلامه يقول: «لو نظرتم إلى رجل أعطي من الكرامات حتى يرتقي في الهواء؛ فلا تغتروا به حتى تنظروا كيف تجدونه عند الأمر والنهي وحفظ الحدود وأداء الشريعة». وعن الحسن بن علي قال: «سئل أبو يزيد: بأي شيء وجدت هذه المعرفة؟ فقال ببطن جائع وبدن عار». قيل إنه مات سنة إحدى وسنتين ومئتين، وقيل أربع وثلاثين ومئتين }، انظر «الرسالة القشيرية» تحقيق شيخنا العارف بالله تعالى الدكتور عبد الحليم محمود.
الموقنون العابدون