تنبيه وإعلام
تنبيه وإعلام(*)
اعلم أنَّ التدبير إنما يكون من النفس لوجود الحجاب فيها، ولو سلم القلب من مجاورتها، وصين من محادثتها -لم تطرقه طوارق التدبير.
وسمعت شيخنا أبا العباس المرسي رضى الله عنه يقول: «إن الله -سبحانه وتعالى- لَمَّا خلق الأرض على الماء اضطربت فأرساها بالجبال، فقال: ﴿وَالجِبَالَ أَرْسَاهَا﴾([1])، كذلك لما خلق النفس اضطربت فأرساها بجبال العقل». اهـ.
انتهى كلام الشيخ أبي العباس رضى الله عنه.
فأي عبد تَوَفَّرَ عقله واتَّسَعَ نوره تنزلت عليه السكينة من ربه، فسكنت نفسه عن الاضطراب، ووثقت بولي الأسباب، فكانت مطمئنة؛ أي خامدة ساكنة لأحكام الله، ثابتة لأقداره، ممدودة بتأييده وأنواره، خارجة عن التدبير والمنازعة، مسلمة لمولاها بأنه يراها، ﴿أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾([2])، فاستحقت أنه يقال لها: ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ المُطْمَئِنَّةُ (٢٧) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (٢٨) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (٢٩) وَادْخُلِي جَنَّتِي﴾([3])، وفي هذه الآية خصائص عظيمة، ومناقب لهذه النفس المطمئنة جسمية، منها أن النفوس ثلاثة: أَمَّارَةٌ، ولَوَّامَةٌ، ومطمئنة([4]).
فلم يواجه الحق -سبحانه وتعالى- واحدة من الأنفس الثلاث إلا المطمئنة، فقال في الأمارة: ﴿إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ﴾([5]).
وفي اللوامة: ﴿وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ﴾([6])، وأقبل على هذه بالخطاب فقال: ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ المُطْمَئِنَّةُ (٢٧) ارْجِعِي﴾.
الثاني: تكنيته إياها، والتكنية في لغة العرب تجليل في الخطاب، وفخر عند أولى الأولباب.
الثالث: مدحه إياها بالطمأنينة؛ ثناء منه عليها بالاستسلام إليه والتوكل عليه.
الرابع: وصفه هذه النفس بالطمأنينية، والمطمئن هو المنخفض من الأرض، فإذا انخفضت بتواضعها وانكسارها، أثنى عليها مولاها؛ إظهارًا لفخرها لقوله صلى الله عليه وسلم: «من تواضع لله رفعه الله»([7]).
الخامس: قوله تعالى: ﴿ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً﴾، فيه إشارة إلى أنَّه لا يؤذن للنفس الأَمَّارَةِ واللوامة بالرجوع إلى الله تعالى رجوع الكرامة، بل إنما ذلك للنفس المطمئنة؛ لأجل ما هي عليه من الطمأنينة قيل لها: ﴿ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً﴾؛ فقد أبحنا لك الدخول إلى حضرتنا والخلود في جنتنا، فكان في ذلك تحريض للعبد على مقام الطمأنينة، ولا يصل إليه أحد إلا بالاستسلام إلى الله تعالى، وعدم التدبير معه.
السادس: قوله: ﴿ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ﴾، ولم يقل إلى الرب ولا إلى الله، فيه إشارة إلى رجوعها
إليه من حيث لطف ربوبيته، لا إلى قهر إلهيته؛ فكان ذلك تأنيسًا لها وملاطفة وتكريمًا ومواددة.
السابع: قوله تعالى: ﴿رَاضِيَةً﴾؛ أي: عن الله في الدنيا بأحكامه، وفي الآخرة بجوده وإنعامه، فكان في ذلك تنبيه للعبد أنه لا يحصل له الرُّجْعَى إلى الله إلا مع الطمأنينة بالله، والرضا عن الله وإلا فلا، وفي ذلك إشارة إلى أنه لا يحصل أن يكون مرضيًّا عند الله في الآخرة حتى يكون راضيًا عنه في الدنيا، فإن قلت هذه الآية تقتضي أن يكون الرضا من الله نتيجة الرضا من العبد، والآية الأخرى تدل على أن الرضا من العبد نتيجة الرضا من الله عنه؟.
فاعلم أنَّ لكلِّ آيةٍ ما أثبتت؛ فلا خفاء([8]) في الجمع بين الآيتين؛ وذلك أنَّ قوله تعالى: ﴿رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ﴾([9]) يدل من وجود ترتيبه على أن الرضا من العبد نتيجة الرضا من الله والحقيقة تقضي بذلك؛ لأنه لو لم يرضَ عنهم أولًا -لم يرضوا عنه آخرًا.
والآية الأخرى تدل على أنَّ من رضي عن الله في الدنيا كان مرضيًّا عنه في الآخرة، وذلك بَيِّنٌ لا إشكال فيه.
الثامن: قوله تعالى: ﴿مَرْضِيَّةً﴾، وذلك مدحة عظيمة لهذه النفس المطمئنة، وهي أجل المدح والنعوت، ألم تسمع قوله تعالى: ﴿وَرِضْوَانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ﴾([10]) بعد أن وصف نعيم أهل الجنة أي رضوان من الله عنهم فيها أكبر من النعيم الذي هم فيه.
التاسع: قوله تعالى: ﴿فَادْخُلِي فِي عِبَادِي﴾ [الفجر: 29] فيه بشارة عظمى للنفس المطمئنة؛ إذ نوديت ودعيت إلى أن تدخل في عباده، وأي([11]) عباد هؤلاء! هم عباد التخصيص والنصر، لا عباد الملك والقهر، هم العباد الذين قال الله([12]) فيهم: ﴿إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ﴾ [الحجر: 42]، وقال تعالى: ﴿إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ المُخْلَصِينَ﴾ [الحجر: 40]، لا العباد الآخرون الذين قال فيهم: ﴿إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آَتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا﴾([13])؛ فكان فرح النفس المطمئنة بقوله: ﴿فَادْخُلِي فِي عِبَادِي﴾ أشد من فرحها بقوله تعالى: ﴿وَادْخُلِي جَنَّتِي﴾؛ لأنَّ الإضافة الأولى إليه تعالى، والإضافة الثانية إلى جنته.
العاشر: قوله تعالى: ﴿وَادْخُلِي جَنَّتِي﴾ فيه إشارة إلى أن هذه الأوصاف التي اتَّصَفَتْ بها النفس المطمئنة هي التي أَهَّلَتْهَا([14]) إلى أن تدعي أن تدخل في عباده، وإلى أن تدخل في جنته، جنة الطاعة في الدنيا، والجنة المعلومة في الآخرة، والله أعلم.
([4]) ويشرح الإمام الغزالي ذلك في كتابه «معارج القدس» فيقول: «...فإن اتجهت إلى صوب الصواب، ونزلت عليها السكينات الإلهية، وتواترت عليها نفحات فيض الجود الإلهي؛ فتطمئن إلى ذكر الله عز وجل وتسكن إلى المعارف الإلهية، وتطير إلى أعلى أفق الملكية، فيقال: نفس مطمئنة قال الله تعالى: ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ المُطْمَئِنَّةُ (٢٧) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً﴾، وإن كانت مع قواها وجنودها في حراب وقتال وشجار ونزاع، وكان الحرب بينهما سجالًا، فتارة لها اليد، وتارة للقوي عليها -فلا تكون حالها مستقيمة؛ فتارة تنزع إلى جانب العقول فتتلقى المعقولات وتثبت على الطاعات، وتارة تستولي عليها القوى فتهبط إلى حضيض منازل البهائم؛ فهذه النفس نفس لوامة، ومن اتضع حتى صار في حضيض البهائم فلو تصور كلب أو حمار منتصب القامة متكلم، هو إياه لانسلاخه عن الفضائل الإنسانيهْ، وعدم مشاركته للإنسان إلا بالصورة التخطيطيهْ، وهذه هي النفس الأمارة بالسوء». اهـ. [ص11، «معارج القدس»].
([7]) هذا الحديث رواه سفيان عن الأعمش، عن إبراهيم، عن عياش بن ربيعة، قال: سمعت عمر بن الخطاب يقول: أيها الناس، تواضعوا؛ فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من تواضع لله رفعه». انظر «حلية الأولياء» لأبي نعيم، جـ7.
هدم قواعد التدبير