الموقنون العابدون
اعلم -وفقك الله- أنَّ لله عبادًا خرجوا عن التدبير مع الله بتأديبه الذي أَدَبَّهُمْ، وبتعليمه الذي علمهم ففسخت([1]) الأنوار عزائم تدبيرهم، ودَكَّتْ المعارف والأسرار جبال اختيارهم؛ فنزلوا منزل الرضا، فوجدوا نعيم المقام، فاستغاثوا بالله، واستصرخوا به؛ خشية أن يشغلهم حلاوة الرضا فيميلوا إليها بمساكنه، أو يجنحوا لها بمراكنه.
قال الشيخ أبو الحسن -رحمه الله تعالى-: «كنت في ابتداء أمري أدبر ما أصنع من الطاعات وأنواع الموافقات، فتارة أقول: الزم البراري والقفار. وتارة أقول: ارجع إلى المدائن والديار لصحبة العلماء والأخيار. فوصف لي وَلِيٌّ من أولياء الله بأرض المغرب([2]) بجبل هنالك، فطلعت إليه فوصلت إليه ليلًا، فكرهت أن أدخل عليه حينئذ، فسمعته يقول: اللهم إنَّ قومًا سألوك أن تسخر لهم خلقك، فأعطيتهم ذلك فرضوا منك بذلك، اللهم وإني أسألك اعوجاج الخلق عَلَيَّ حتى لا يكون ملجئي إلا إليك.
فقلت: يا نفس، انظري من أي بحر يغترف هذا الشيخ! فأقمت حتى إذا كان الصباح دخلت عليه، فسلمت عليه ثم قلت: يا سيدي، كيف حالك؟ فقال: أشكو إلى الله من برد الرضا والتسليم، كما تشكو أنت من حر التدبير والاختيار.
فقلت: يا سيدي، أما شكواي من حر التدبير والاختيار فقد ذقته وأنا الآن فيه، وأما شكواك من برد الرضا والتسليم فلم أفهمه!. فقال: «أخاف أن تشغلني حلاوتهما عن الله»، فقلت: يا سيدي، سمعتك البارحة تقول: «اللهم إنَّ قومًا سألوك أن تسخر لهم خلقك فأعطيتهم ذلك فرضوا منك بذلك، اللهم وإني أسألك اعوجاج الخلق([3]) حتى لا يكون ملجئي إلا إليك»، فتبسم ثم قال: يا بني، عوض ما تقول: سخر لي خلقك، قل: «يا رب كن لي» أترى إذا كانوا لك، أيغنوك بشيء؟ فما هذا الجبن!». اهـ.
فائدة: اعلم أنَّ هلاك ابن([4]) نوح — إنما كان لأجل رجوعه إلى تدبير نفسه، وعدم رضاه بتدبير الله الذي اختاره لنوح —، ومن كان معه في السفينة؛ فقال له نوح —: ﴿يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الكَافِرِينَ (٤٢) قَالَ سَآَوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ المَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ اليَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ﴾([5])؛ فآوى في المعنى إلى جبل عقله، ثم كان الجبل الذي اعتصم([6]) به صورة ذلك في المعنى القائم به، فكان كما قال الله: ﴿وَحَالَ بَيْنَهُمَا المَوْجُ فَكَانَ مِنَ المُغْرَقِينَ﴾([7]) في الظاهر بالطوفان، وفي الباطن بالحرمان؛ فاعتبر أيها العبد بذلك!.
فإذا تلاطمت عليك أمواج الأقدار فلا ترجع إلى جبل عقلك الباطل لئلا تكون من المغرقين في بحر القطيعة، ولكن ارجع إلى سفينة الاعتصام بالله والتوكل عليه.
﴿وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾([8])
﴿وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ﴾([9])
فإنك إذا فعلت ذلك استوت بك سفينة النجاة على جُودِيِّ الأمن، ثم تهبط بسلام القربة وبركات الوصلة عليك وعلى أُمَمٍ مِمَّن مَعَك وهي عوالم وجودك، فافهم ذلك ولا تكن من الغافلين، واعبد ربك ولا تكن من الجاهلين! فقد علمت أنَّ إسقاط التدبير والاختيار أهم ما يلتزمه الموقنون، ويطلبه العابدون، وأشرف ما يتحلى به العارفون.
سألت بعض العارفين، ونحن تجاه الكعبة فقلت له: من أي الناحيتين يكون رجوعك؟ فقال: «لي مع الله عادة ألَّا تجاوز إرادتي قدمي»، وقال بعض المشايخ: «لو أدخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، وبقيت أنا([10])، ولم يقع عندي تمييز في أي الدارين يكون قراري». اهـ.
فهذا حال عبد محيت اختياراته وإرادته؛ فلم يَبْقَ له مع الله مراد إلا ما أراد، كما قال بعض السلف: «أصبحت وهواي في موقع قدر الله»، قال أبو حفص([11]) الحداد -رحمه الله تعالى-: «لي منذ أربعين سنة، ما أقامني الله في حال فكرهته، ولا نقلني إلى غيره فسخطته».
وقال بعضهم: «لي منذ أربعين سنة أشتهي ألا أشتهي، لأترك ما أشتهي فلا أجد ما أشتهي»؛ فهذه قلوب تولى الله رعايتها، وأوجب حمايتها، ألم تسمع قوله تعالى: ﴿إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ﴾([12])؛ لأنَّ تحققهم بمقام العبودية أبى لهم الاختيار مع الربوبية، وأن يقارفوا ذنبًا، وأن يلابسوا عيبًا.
وقال -سبحانه وتعالى-: ﴿إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾([13])؛ فقلوب ليس للشيطان عليها سلطان، من أين يطرقها وساوس التبدير؟ أو يرد عليها وجود التكدير؟!.
وفي الآية بيان أنَّ من صَحَّحَ الإيمان بالله والتوكل على الله، فلا سلطان للشيطان عليه؛ لأن الشيطان إنما يأتيك من أحد وجهين:
إما بتشكيك في الاعتقاد، وإما بركون إلى الخلق والاعتماد، فأما التشكيك في الاعتقاد فالإيمان ينفيه، وأما السكون([14]) إلى الخلق والاعتماد عليهم فالتوكل عليه ينفيه.
([2]) وهو الشيخ عبد السلام بن مشيش شيخه وأستاذه، انظر «شرح الحكم العطائية» لابن عباد، تحقيق شيخنا العارف بالله الدكتور عبد الحليم محمود، وكتاب «معالم الطريق إلى الله» للسيد محمود أبو الفيض المنوفي.
([4]) وهو الابن الرابع، واسمه: «يام»، وكان كافرًا دعاه أبوه عند ركوب السفينة أن يؤمن ويركب معهم، ولا يغرق مثلما يغرق الكافرون، قال: ﴿سَآَوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ المَاءِ﴾ [هود:43]، اعتقد بجهله أن الطوفان لا يبلغ إلى رءوس الجبال، وأنه لو تعلق في رأس جبل لَنَجَّاهُ ذلك من الغرق، فقال له أبوه نوح عليه السلام: ﴿لَا عَاصِمَ اليَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ﴾؛ أي: ليس شيء يعصم اليوم من أمر الله، ﴿وَحَالَ بَيْنَهُمَا المَوْجُ فَكَانَ مِنَ المُغْرَقِينَ﴾، انظر «تفسير ابن كثير»، جـ2، ص346، يقول بعض المفسرين إن ابن نوح هذا اسمه كنعان.
أما صاحب كتاب «قصص الأنبياء» فإنه يقول لما أراد نوح دخول السفينة نادى ابنه وكان في معزل عنه، وقال: ﴿يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الكَافِرِينَ﴾؛ فأبى أن يلبي نداء والده المشفق؛ لأنه لا يثق بصدق والده من أن كل من كان خارجًا عن السفينة هنالك، ﴿قَالَ سَآَوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ المَاءِ﴾ فهلك ذلك الولد». اهـ. «قصص الأنبياء» ص35.
([11]) هو أبو حفص عمر بن مسلمة الحداد النيسابوري، من تربة يقال لها: «كورد أباذي» على باب مدينة نيساور على طريق بخارى، كان أحد الأئمة والسادة، مات سنة نَيِّفٍ وستين ومئتين، ومن كلامه: «العاصي بريد الكفر، كما أن الحمى بريد الموت» ومن كلامه: «من لم يزن أفعاله وأحواله في كل وقت بالكتاب والسنة، ولم يتهم خواطره -فلا تعده في ديوان الرجال». انظر «الرسالة القشيرية»، أما الإمام الشعراني فقد ذكر أنه كان رضى الله عنه قال: «من هوان الدنيا عَلَيَّ أَلَّا أبخل بها على أحد»، وكان يقول: «ما استحق اسم السخاء من ذكر العطاء ولمحه بقلبه». اهـ. وغير ذلك كثير في «الطبقات».
ولاية الله للمؤمنين