ما ينبغي للمتسببين
ما ينبغي للمتسببين(*)
تنبيه وإعلام: أمور ينبغي للمتسببين أن يلتزموها: الأول: ربط العزم مع الله تعالى قبل الخروج من المنزل على العفو عن المسيئين إليه؛ إذ الأسواق محل المخاصمة والمقاولة؛ ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أيعجز أحدكم أن يكون كأبي ضمضم، كان إذا خرج من بيته قال: اللهم([1]) إني تصدقت بعرضي على المسلمين».
الثاني: ينبغي له أن يتوضأ ويصلي قبل خروجه، ويسأل الله السلامة في مخرجه ذلك؛ فإنه لا يدري ماذا يقضى عليه، فإن الخارج إلى السوق كالخارج إلى المصاف؛ فينبغي للمؤمن أن يلبس من الاعتصام بالله تعالى والتوكل عليه دروعًا صائنة تقيه سهام الأعداء، ﴿وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾([2])، ﴿وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ﴾([3]).
الثالث: ينبغي له إذا خرج من منزله أن يستودع الله أهله ومسكنه، وما فيه؛ فإنه حري أن يحفظ ذلك عليه، وليذكر قوله تعالى: ﴿فَاللهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾([4])، وليذكر قوله عليه الصلاة والسلام: «اللهم أنت الصاحب في السفر، والخليفة في الأهل والولد والمال»([5])، فإنه إذا استودعهم الله؛ فحري أن يرجع فيجدهم كما يحب ويحبون، سافر بعضهم وكانت زوجته حاملًا، فحين سافر قال: «اللهم إني استودعتك ما في بطنها»، فتوفيت زوجته في غيبته، فلما قدم من سفره سأل عنها فقيل له: «توفيت وهي حامل»، فلما كان الليل رأى نورًا في المقابر؛ فتبعه فإذا هو في قبرها، وإذا بالصبي يرضع من ثديها، فهتف به هاتف: «يا هذا، إنك([6]) استودعتنا الولد فوجدته، أما لو استودعتهما(4) لوجدتهما جميعًا».
الرابع: يستحب له إذا خرج من منزله أن يقول: «بسم الله توكلت على الله لا حول ولا قوة إلا بالله» فإن ذلك كان مؤيسًا للشيطان منه.
الخامس: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وليجعل ذلك شكرًا لنعمة القوة والتقوى اللذين وهبهما المولى له، وليذكر قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ المُنْكَرِ وَللهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ﴾([7])، فمن أمكنه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بحيث لا يصل إليه أذى في نفسه أو عرضه أو ماله -فهو مِمَّنْ مُكِّنَ في الأرض، والوجوب متعلق به، وإن كان لا يصل إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا بالأذى قبل ذلك، أو يغلب على ظنه وقوع ذلك بعده -سقط عنه الوجوب، والإنكار حينئذ جائز.
السادس: أن يكون مشيه بالسكينة والوقار؛ لقوله تعالى: ﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا﴾([8])، وليس ذلك خاصًّا بالمشي، بل المطلوب منك أن تكون أفعالك كلها تقارنها السكينة ويلازمها التثبيت.
السابع: أن يذكر الله تعالى في سوقه؛ فإنه قد جاء عنه عليه الصلاة والسلام: «ذاكر الله في الغافلين كالمقاتل بين الغازين، ذاكر الله في السوق كالحي بين الموتى»([9])، وكان بعض السلف يركب بغلته ويأتي إلى السوق فيذكر الله ثم يرجع، لا يخرجه إلا ذلك.
الثامن: أَلَّا يشغله ما هو فيه من المبايعة والمعاش عن النهوض إلى الصلاة في أوقاتها جماعة؛ لأنه إذا ضيعها اشتغالًا بسببه -استوجب المقت من ربه، ورفع البركة من كسبه، ويستحي أن يراه الحق مشغولًا بحظوظ نفسه عن حقوق ربه، وقد كان بعض السلف يكون في صنعته فربما رفع المطرقة، فسمع المؤذن فرماها من خلفه؛ لئلا يكون ذلك شغلًا بعد أن دعي إلى طاعة ربه، وليذكر إذا سمع المؤذن قوله تعالى: ﴿يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللهِ﴾([10])، وقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَجِيبُوا للهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ﴾([11])، وقوله تعالى: ﴿اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ﴾([12])، وقالت عائشة رضى الله عنها: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكون في بيته يخصف النعل ويعين الخادم، فإذا نودي للصلاة قام كأنه لا يعرفنا([13]).
التاسع: ترك الحلف والإطراء لسلعته، وقد جاء في ذلك الوعيد الشديد، وقد قال عليه الصلاة والسلام: «التُّجَّار هُمُ الفُجَّار، إلا من بر وصدق([14])».
العاشر: كف لسانه عن الغيبة والنميمة، وليذكر قوله تعالى: ﴿وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ﴾([15])، وليعلم أن السامع للغيبة أحد المغتابين، فإن اغتيب أحد بحضرته فلينكر عليه، فإن لم يسمع منه فيقم، ولا يمنعه الحياء من الخَلْقِ من القيام بحق الملك الحق؛ فالله أولى أن يستحي منه، وأن يرضي الله ورسوله أحق من أن يرضي الناس، «والله ورسوله أحق أن يرضوه»([16])، وقد جاء عنه عليه الصلاة والسلام: «إن الغيبة أشد من ستٍّ وثلاثين زنية في الإسلام»([17]).
وقال الشيخ أبو الحسن -رحمه الله-: «أربعة آداب إذا خلا الفقير المتسبب منها فلا تَعْبَأَنَّ به وإن كان أعلم البرية: مجانبة الظلمة، وإيثار أهل الآخرة، ومواساة ذوي الفاقة، وملازمة الخمس الصلوات في الجماعة».
وصدق }؛ فإنَّ بــ «مجانبة الظلمة»: تقع السلامة في الدين؛ لأنَّ صحبة الظلمة تكشف نور الإيمان، ومجانبتهم أيضًا تكون سببًا للنجاة من عقوبة الله تعالى؛ لقوله تعالى: ﴿وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ﴾([18]).
وقوله «وإيثار أهل الآخرة»: أن يكون الفقير، والمتسبب الغالب عليه التردد إلى أولياء الله والاقتباس منهم؛ ليتقوي بذلك على كدرة الأسباب، فتنفح عليه نفحاتهم، وتظهر عليه بركاتهم، وربما وصلت إليه في سببه أمدادهم، وحفظه من المعصية ودهم واعتقادهم.
وقوله رضى الله عنه: «ومواساة ذوي الفاقة»؛ وذلك لأنه يجب على العبد أن يشكر نعمة الله عنده فإذا([19]) فتح لك في الأسباب فاذكر من أغلقت عليه أبوابها.
واعلم أنَّ الله -سبحانه وتعالى- اختبر الأغنياء بوجدان أهل الفاقة، كما اختبر أهل الفاقه بوجدان الأغنياء، ﴿وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا﴾([20])، ووجود أهل الفاقة من نعمة الله على ذوي الغنى؛ إذ وجدوا من يحمل عنهم أزوادهم إلى الدار الآخرة، وإذ وجدوا من إذا أخذ منهم أخذ الله منهم، ﴿وَاللهُ هُوَ الغَنِيُّ الحَمِيدُ﴾([21])، فلو لم يخلق الفقير فكيف كان تقبل منهم صدقاتهم؟! وأين كانوا يجدون من يأخذها منهم؟!.
ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: «من تَصَدَّقَ بصدقة من كسب طيب -ولا يقبل الله تعالى إلا طيبًا- كان كأنما يضعها في كف الرحمن يربيها له، كما يُرَبِّي أَحَدُكُم فُلُوَّهُ -أو فصيله- حتى إن اللقمة لتعود مثل جبل أُحُدٍ»([22])؛ ولذلك كان من أشراط الساعة ألَّا يجد الرجل من يقبل صدقته.
وقوله رضى الله عنه: «وملازمته الخمس في جماعة»؛ وذلك أنَّ الفقير المتسبب لَمَّا فاته التخلي والتجرد لعبادة الله تعالى، فيدخل مدخل الخصوص بدوام الخدمة وملازمة الموافقة؛ فينبغي ألَّا تفوته ملازمة الخمس في الجمعة؛ لتكون ملازمته لها سببًا لتجديد الأنوار وموجبًا لوجود الاستبصار، وقد قال عليه الصلاة والسلام: «تفضل صلاة الجماعة على صلاة الفذ بخمس وعشرين درجة»([23]).
وفي الحديث الآخر: «بسبع وعشرين جزء»([24])، ولو شرع للعباد أن يصلي كل إنسان في حانوته وداره -لتعطلت المساجد التي قال فيها الحق سبحانه وتعالى: ﴿فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالغُدُوِّ وَالآَصَالِ (٣٦) رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ﴾([25])؛ ولأن في ملازمة الصلاة جماعة اجتماع القلوب وتناصرها والتئامها، ورؤية المؤمنين واجتماعهم، وقد قال صلى الله عليه وسلم: «يد الله مع الجماعة»([26])؛ ولأن الجماعة إذا اجتمعت انبسطت بركات قلوبهم على من حضرهم، وامتدت أنوارهم لمن شهدهم، وكان اجتماعهم وتَضَامُّهُمْ كالجيش إذا اجتمع وتَضَامَّ -كان ذلك سببًا في وجود نصرته، وهو أحد التَأَوُّلَيْنِ في قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ﴾([27]).
([9]) وفيما أخرجه الإمام البخاري ومسلم عن أبي موسى رضى الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مثل الذي يذكر الله والذي لا يذكر الله، مثل الحي والميت». وفي رواية أخرى، فيما أخرجه الحاكم في «المستدرك»، والبزار عن ابن مسعود رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ذاكر الله في الغافلين بمنزلة الصابر في الفارين».
([13]) وفيما أخرجه الإمام أحمد من حديث عائشة رضي الله عنها: «كان صلى الله عليه وسلم يخصف نعله ويرقع ثوبه، ويعمل في بيته كما يعمل أحدكم في بيته»، ورجاله رجال الصحيح، ورواه أبو الشيخ بلفظ: «ويرقع الثوب»، وللبخاري من حديث عائشة: «كان يكون في مهنة أهله»، وفي رواية أخرى: أخرج أحمد في مسنده عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «...وكان يخيط ثوبه، ويخصف نعله، ويعمل ما يعمل الرجال في بيوتهم».
([14]) ولذلك أثنى الرسول صلى الله عليه وسلم على التاجر الصدوق، فقال فيما أخرجه ابن ماجه والحاكم عن ابن عمر رضي الله عنهما: «التاجر الأمين الصدوق المسلم، مع الشهداء يوم القيامة»، وقوله صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه الترمذي والحاكم عن أبي سعيد رضى الله عنه: «التاجر الصدوق الأمين، مع النبين والصديقين والشهداء».
([16]) وهذا اقتباس من قول الله تعالى في سورة التوبة: ﴿وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ﴾ [التوبة:62].
([22]) وفي رواية أخرى فيما أخرجه البخاري، ومسلم، والنسائي، وابن ماجه، عن أبي هريرة رضى الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب -ولا يقبل الله إلا الطيب- فإن الله تقبلها بيمينه، ثم يربيها لصاحبها كما يربي أحدكم فلوه؛ حتى تكون مثل الجبل». وفي رواية أخرى للطبراني في «المعجم الصغير» عن عباد بن منصور، عن القاسم بن محمد، عن أبي هريرة رضى الله عنه ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله يقبل الصدقات ولا يقبل منها إلا طيبًا، ويقبلها بيمينه، ثم يربيها لصاحبها كما يربي الرجل مهره وفصيله، حتى إن اللقمة لتصير مثل أحد»، وفيما أخرجه الترمذي عن أبي هريرة رضى الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله تعالى يقبل الصدقة ويأخذها بيمنيه، فيربيها لأحدكم كما يربي أحدكم مهره، حتى إن اللقمة لتصير مثل أحد». اهـ.
([23]) أخرجه البخاري وأحمد في مسنده، وابن ماجه، عن أبي سعيد رضى الله عنه ولفظه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ بخمس وعشرين درجة». اهـ. وأفضلية صلاة الرجل في جماعة يشرحها الحديث التالي: أخرج أحمد في «مسنده»، والبخاري ومسلم في صحيحيهما، وأبو داود والترمذي وابن ماجه، عن أبي هريرة رضى الله عنه ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «صلاة الرجل في جماعة تضعف على صلاته في بيته وفي سوقه خمسًا وعشرين ضعفًا؛ وذلك أنه إذا توضأ فأحسن الوضوء، ثم خرج إلى المسجد لا يخرجه إلا الصلاة -لم يخط خطوة إلا رفع له بها درجة، وحط عنه بها خطيئة حتى يدخل المسجد، فإذا دخل المسجد كان في صلاة ما دامت الصلاة تحبسه، وتصلي الملائكة عليه ما دام في مجلسه الذي يصلي فيه، يقولون: اللهم اغفر له، اللهم ارحمه، اللهم تب عليه. ما لم يؤذ فيه، أو يحدث فيه».
([24]) وأما رواية حديث: بسبع وعشرين جزء، فقد روى مالك فيما أخرجه أحمد في «مسنده»، والبخاري، ومسلم، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة». اهـ.
([26]) حديث صحيح أخرجه الترمذي عن ابن عمر -رضي الله عنهما- ولفظه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله تعالى لا يجمع أمتي على ضلالة، ويد الله على الجماعة، ومن شذ شذ إلى النار». اهـ.
من غَضَّ بصره فتح الله بصيرته