قواعد التدبير ومنازعة المقادير
﴿وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآَخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ(١٣٠) إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ العَالَمِينَ﴾([1]).
وقال: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الإِسْلَامُ﴾([2]).
وقال تعالى: ﴿مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ المُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ﴾([3]).
وقال تعالى: ﴿فَلَهُ أَسْلِمُوا﴾([4]).
وقال تعالى: ﴿فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ للهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ﴾([5]).
وقال تعالى: ﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآَخِرَةِ مِنَ الخَاسِرِينَ﴾([6]).
وقال: ﴿وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالعُرْوَةِ الوُثْقَى﴾([7]).
وقال: ﴿تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ﴾([8]).
وقال: ﴿وَأَنَا أَوَّلُ المُسْلِمِينَ﴾([9])، إلى غير ذلك.
فاعلم أنَّ هذا التكرار لذكر الإسلام تنويه لقدره وتفخيم لأمره، والإسلام له ظاهر وباطن؛ فظاهره الموافقة لله تعالى، وباطنه عدم المنازعة له فالإسلام حظ الهياكل، وعدم المنازعة والاستسلام حظ القلوب؛ فالإسلام كالصورة، والاستسلام هو روح تلك الصورة.
فالإسلام ظاهر، والاستسلام باطن ذلك الظاهر، فالمسلم من أسلم نفسه إلى الله؛ فكان ظاهرًا بامتثال أمره، وباطنًا بالاستسلام إلى قهره، وتحقيق مقام الاستسلام بعد([10]) المنازعة في أحكامه، والتفويض له في نقضه وإبرامه؛ فمن ادَّعى الإسلام طولب بالاستسلام، ﴿قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾([11])، ألا ترى أن إبراهيم — لَمَّا قال له ربه أسلم، قال: ﴿أَسْلَمْتُ لِرَبِّ العَالَمِينَ﴾ [البقرة: 131]، فلما زُجَّ في المنجنيق استغاثت الملائكة قائلة: يا ربنا، هذا خليلك قد نزل به ما أنت أعلم! فقال الحق سبحانه وتعالى: «اذهب إليه يا جبريل، فإن استغاث بك فأغثه، وإلا فاتركني وخليلي»، فلما جاءه جبرئيل — في أفق الهواء قال: ألك حاجة؟([12]).
قال: أما إليك فلا، وأما إلى الله فبلى.
قال: فاسأله. قال: «حسبي من سؤالي علمه بحالي»، فلم يستنصر بغير الله، ولا جنحت همته بغير([13]) الله، بل استسلم لحكم الله مكتفيًا بتدير الله له عن تدبيره لنفسه، وبرعاية الحق له عن رعايته لها، وبعلم الحق سبحانه عن سؤاله؛ علمًا منه أن الحق به لطيف في جميع أحواله، فأثنى الله تعالى عليه بقوله: ﴿وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى﴾([14])، ونجاه من النار فقال تعالى: ﴿قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ﴾([15]) قال أهل العلم: «لو لم يقل الحق سبحانه: ﴿وَسَلَامًا﴾ لأهلكه بردها، فخمدت تلك النار»، وقال أهل العلم بأخبار الأنبياء عليهم الصلاة والسلام: «لم يبق ذلك الوقت نار بمشارق الأرض، ولا بمغاربها إلا خمدت ظَانَّةً أنها المعنية بالخطاب». فقيل: إنه لم تحرق النار منه إلا قيده.
إظهار الفاقة إليه تعالى