ولاية الله للمؤمنين
تنبيه: اعلم أنَّ المؤمن قد ترد عليه خواطر التدبير، ولكن الله تعالى لا يدعه لذلك، ولا يتركه لما هنالك، ألم تسمع قوله تعالى: ﴿اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آَمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ﴾([1]) فالحق -سبحانه وتعالى- يخرج المؤمنين من ظلمات التدبير إلى إشراق نور التفويض، ويقذف بحق تثبيته على باطل اضطرابهم، فيزلزل أركانه ويهدم بنيانه، كما قال الله تعالى: ﴿بَلْ نَقْذِفُ بِالحَقِّ عَلَى البَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ﴾([2]).
والمؤمن وإن وردت عليه خواطر الاضطراب والتدبير؛ فهي عبارة لا تثبت لها ومضمحلة لا وجود لها؛ لأنَّ نور الإيمان قد استقر في قلوب المؤمنين، وأخمدت أنواره نفوسهم، وملأ إشراقه قلوبهم، وشرح ضياؤه صدورهم، فأبى الإيمان المستقر في قلوبهم أن يسكن معه غيره، وإنما هي سُنَّةٌ وردت على القلوب أمكن فيها ورود طيف التدبير، ثم تتيقظ القلوب فيزول الطيف الذي لا يكون إلا منامًا، قال الله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ﴾([3])، وفي هذه الآية فوائد:
الفائدة([4]) الأولى: قوله -سبحانه وتعالى-: ﴿إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ﴾، دلَّ ذلك على أنَّ أصل أمرهم على وجود السلامة منه، وإن عرض ذلك الطيف؛ ففي بعض الأحيان تعريفًا بما أودع فيهم من ودائع الإيمان.
الفائدة الثانية: قوله تعالى: ﴿إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ﴾، ولم يقل: إذا أمسكهم أو أخذهم؛ لأنَّ المس ملامسة من غير تمكن، فأفادت هذه العبارة أن طيف الهوى لا يتمكن من قلوبهم، بل يماسها مماسة، ولا يتمكن منها إمساكًا ولا أخذًا كما يصنع بالكافرين؛ لأنَّ الشيطان يستحوذ على الكافرين، ويختلس اختلاسًا من قلوب المؤمنين حتى تنام العقول الحارسة للقلوب، فإذا استيقظوا انبعثت من قلوبهم جيوش الاستغفار والذلة والافتقار إلى الله تعالى؛ فاسترجعوا من الشيطان ما اختلسه، وأخذوا منه ما افترسه.
الفائدة الثالثة: قوله تعالى: ﴿إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ﴾، فالإشارة ها هنا بالطيف إلى أنَّ الشيطان لا يمكنه أن يأتي إلى القلوب الدائمة اليقظة؛ لأنَّه إنَّما يورد طيف الغفلة والهوى على
القلوب في حين منامها بوجود غفلتها، ومن لا نوم له فلا طيف يرد عليه.
الفائدة الرابعة: قوله تعالى: ﴿إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ﴾ [الأعراف: 201]، ولم يقل إذا مسهم وارد من الشيطان أو نحوه؛ لأنَّ الطيف لا ثبت له ولا وجود له، إنَّما هو([5]) صورة مثالية ليس لها حقيقة وجودية، فأخبر -سبحانه وتعالى- بذلك أنَّ ذلك غير ضار بالمتقين؛ لأنَّ ما يورده الشيطان على قلوبهم بمثابة الطيف الذي تراه في منامك، فإذا استيقظت فلا وجود له.
الفائدة الخامسة: قوله تعالى: ﴿إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا﴾، ولم يقل ذكروا؛ إشارة إلى أنَّ الغفلة لا يطردها الذكر مع غفلة القلب، إنما يطردها التذكر والاعتبار، وإن لم تكن الأذكار؛ لأنَّ الذكر ميدانه اللسان، والتذكر ميدانه القلب، وطيف الهوى لما ورد إنما ورد على القلوب لا على الألسنة؛ فالذي ينفيه إنما هو التذكر الذي يحل محله، ويمحق فعله.
الفائدة السادسة: قوله تعالى: ﴿تَذَكَّرُوا﴾ حذف متعلقه، ولم يقل تذكروا الجنة، أو النار أو العقوبة، أو غير ذلك.
وإنَّما حذف متعلق تذكروا لفائدة جليلة؛ ولذلك أنَّ التذكر الماحي لطيف الهوى من قلوب المتقين على حسب مراتب اليقين، ومرتبة التقوى يدخل فيها الأنبياء والرسل والأولياء والصديقون والصالحون والمسلمون.
فتقوى كل أحد (على حسب حاله ومقامه، وكذلك أيضًا تذكر كل أحد) ([6]) على حسب مقامه، فلو ذكر قسمًا من أقسام التذكر لم يدخل فيه إلا أهل ذلك القسم، فلو قال تعالى: «إنَّ الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا العقوبة فإذا هم مبصرون» خرج عنه([7]) الذين تذكروا المثوبة، ولو قال: «تذكروا سابق الإحسان» لخرج منه الذين تذكروا لواحق الامتنان إلى غير ذلك، فأراد الحق سبحانه وتعالى، ألَّا يذكر متعلق التذكر ليشمل المراتب كلها، فافهم!.
الفائدة السابعة: أنَّه قال سبحانه: ﴿مُبْصِرُونَ﴾ ولم يقل: تذكروا فأبصروا، أو تذكروا ثم أبصروا، أو تذكروا وأبصروا.
فأما ترك التعبير بالواو فلأنه كان لا يفيد أن البصرى كانت عن التذكر، والمراد أنها كانت مسببة عنه؛ ترغيبًا للعباد فيها.
وأما عدوله عن ثم فلأنَّ فيها ما في الواو من عدم الدلالة على السببية، وفيها أنَّها كانت تقتضي عكس المُضِيِّ([8]) لما فيها من المهلة، ومراد الحق سبحانه: أن هؤلاء العباد لا تتأخر أبصارهم عن تذكرهم ولم يعبر بالفاء لاقتضائها التعقيب، بل عبر الحق سبحانه بقوله: ﴿تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ﴾ كأنهم لم يزالوا على ذلك البصرى؛ ثناء منه سبحانه عليهم، وإظهارًا لوفور([9]) المنة إليه لديهم، كما تقول: تذكر زيد المسألة فإذا هي صحيحة، أي إنَّها لم تزل صحيحة، وإنها الآن صحيحة، كما رفع العلم بها.
كذلك المتقون ما زالوا مبصرين، ولكن حين([10]) ورد طيف الهوى عليهم، غطى على بصيرتهم الثابت نورها فيهم، فلما استيقظوا ذهبت سحابة الغفلة؛ فأشرقت شمس البصيرة.
الفائدة الثامنة: في هذه الآية ونظائرها توسعة على المتقين، ولطف بالمؤمنين؛ لأنه لو قال: «إنَّ الذين اتقوا لا يمسهم طائف من الشيطان» لخرج من ذلك كل أحد إلا أهل العصمة؛ فأراد -سبحانه وتعالى- أن يوسع دوائر رحمته فقال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ﴾ [الأعراف: 201]؛ ليعلمك أنَّ ورود الطيف عليهم لا يخرجهم عن ثبوت حكم التقوى لهم، وجريان اسمه عليهم، إذا كانوا وصفهم مسرعين بالتذكر راجعين إلى الله بالتبصر، ومثل هذه الآية في بسط رجاء العباد والتوسعة عليهم، قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ المُتَطَهِّرِينَ﴾([11])، ولم يقل: يحب الذين لا يذنبون([12])؛ لأنَّه لو قال ذلك لم يدخل فيه إلا قليل؛ فعلم الحق سبحانه ما العباد مركبون عليه من وجود الغفلة، وما تقتضيه النشأة الأولى الإنسانية لكونها رُكِّبَتْ من أمشاج من نوع المخالفة، وقد قال -سبحانه وتعالى-: ﴿يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنْسَانُ ضَعِيفًا﴾([13]).
قال بعض أهل العلم: يعني لا يتمالك عند قيام الشهوة به.
قال تعالى: ﴿هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ﴾([14])؛ فلأجل ما علم من أن الخطأ غالب على الإنسان، فتح له باب التوبة ودَلَّهُ عليها، ودعاه إليها ووعده القبول إذا تاب، والإقبال عليه إذا رجع إليه وآب.
وقال صلى الله عليه وسلم: «كل ابن آدم خَطَّاءٌ، وخير الخَطَّائِينَ التَوَّابُونَ»([15]).
فأعلمك صلى الله عليه وسلم أنَّ الخطأ لازم وجودك، بل عين وجودك، وقال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾([16])، ولم يقل: «والذين لا يعملون الفاحشة»، وقال -سبحانه وتعالى-: ﴿وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ﴾([17])، ولم يقل: «والذين لا يغضبون»، وقال -سبحانه وتعالى-: ﴿وَالكَاظِمِينَ الغَيْظَ﴾([18]) ولم يقل: «والذين لا غيظ لهم»، فافهم ذلك رحمك الله؛ فهذه أسرار بَيِّنَهْ وأمور متعينهْ!.
الفائدة التاسعة: تَبَيَّنَ مراتب المتذكرين من المتقين، اعلم أن أهل التقوى إذا مسهم طيف من الشيطان لا تدعهم تقواهم للإصرار على معصية مولاهم، بل يرجعهم إليه تذكرهم، وتذكرهم على أقسام:
متذكر يتذكر الثواب.
ومتذكر يتذكر العقاب.
ومتذكر يتذكر الوقوف للحساب.
ومتذكر يتذكر ما في ترك المعصية من جزيل الثواب.
ومتذكر يتذكر سابق الإحسان فيستحي من وجود العصيان.
ومتذكر يتذكر لواحق الامتنان فيستحي أن يقابل ذلك بالكفران.
ومتذكر يتذكر قرب الله تعالى منه.
ومتذكر يتذكر إحاطة الحق سبحانه([19]).
ومتذكر يتذكر نظر الحق إليه([20]).
ومتذكر يتذكر معاهدة الله له.
ومتذكر يتذكر فناء لذته وبقاء مطالبته.
ومتذكر يتذكر وبال المخالفة وذلها؛ فيكون لها تاركًا.
ومتذكر يتذكر فوائد الموافقة وعزها؛ فيكون لها سالكًا.
ومتذكر يتذكر قيومية الحق به.
ومتذكر يتذكر عظمة الحق وسلطانه.
إلى غير ذلك من تعلقات التذكر، وهي لا حصر لها، وإنَّما ذكرنا ما ذكرنا منها؛ تأنيسًا لك بأحوال المتقين، وتنبيهًا على بعض مقامات المتبصرين، فافهم!.
الفائدة العاشرة: يمكن أن يكون قوله -سبحانه وتعالى-: «إن الذين اتَّقَوْا إذا مَسَّهُمْ طائف» أن يكون المراد الطيف ها هنا طائف الهاجس أو الخاطر الوارد من وجود النفس بإلقاء الشيطان، وسُمِّيَ طيفًا لأنه يطيف بالقلب، وتفسره القراءة الأخرى: ﴿إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ﴾، فتكون إحدى القراءتين مفسرة للأخرى، والهاجس يطيف بالقلب فإن وجد له مسلكًا بثلمة يجدها في سور مقام اليقين -دخل وإلا ذهب.
([4]) كلمة الفائدة: غير موجودة في «فروينه»: وكذلك في كل ما سيأتي عند شرح هذه الفوائد، اكتفاء بقوله: «وفي هذه الآية فوائد...».
([15]) الحديث رواه جماعة منهم الإمام أحمد في «مسنده»، والترمذي في «صحيحه»، والحاكم في «المستدرك» عن أنس رضى الله عنه، ويشرح هذا الحديث الشريف ما رواه أبو هريرة رضى الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «إن جلًا أذنب ذنبًا فقال: رب إني أذنبت ذنبًا فاغفره لي. فقال الله عز وجل: عبدي عمل ذنبًا فعلم أن له ربًا يغفر الذنب ويأخذ به، قد غفرت لعبدي. ثم عمل ذنبًا آخر فقال: رب إني عملت ذنبًا فاغفره. فقال: تبارك وتعالى: علم عبد أن له ربًّا يغفر الذنب ويأخذ به، قد غفرت لعبدي. ثم عمل ذنبًا آخر فقال: رب إني عملت ذنبًا فاغفره لي. فقال عز وجل: علم عبدي أن له ربًّا يغفر الذنب ويأخذ به، قد غفرت لعبدي. ثم عمل ذنبًا آخر فقال: رب إني عملت ذنبًا فاغفره لي. فقال الله عز وجل: عبدي علم أن له ربًّا يغفر الذنب ويأخذ به، أشهدكم إني قد غفرت لعبدي، فليعمل ما شاء» [أخرجاه في الصحيحين من حديث إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن عبد الرحمن بن أبي عمر عن أبي هريرة رضى الله عنه].
رعاية الله لمن وَجَّهُوا هِمَمَهُم إليه