الفصل الثانى عشر
الفصل الثانى عشر فى الوحوش إذا وقع فى السماع ذكرها وهى كثيرة فلنقتصر منها على خمسة هى أكثر ما يتدولها فى أشعارهم وهى الأسد والظبى والذئب والثعلب والنعام:
فالأسد: قد يؤوله الناسك بالهوى والشيطان لأنهما يفترسان العبد فيأخذانه عن الطاعات وقد يؤوله بالشهوة أيضاً لأنها تفترس العقل ويؤوله السالك بالتجليات لأنها تقهر القلوب فتفترسها وتفنيها عن كل شىء ويؤوله المحب بطلعة المحبوب لأنها تفترس عقله أو بالوجد والعشق لأن سلطان العشق يفترس العاشق فلا يدعه حتى يهلكه ويؤوله المجذوب بصفات القهر والكبرياء والجلال والعظمة وما شابه ذلك.
والظبى والغزالة والمهاة والدبرب والجودر والديم: كله بمعنى واحد يؤوله الناسك بأيام الفرصة لأنها تفر كما تفر هذه الدابة وقد يؤوله بالاستيحاش عن الخلق والانفراد بعبادة الله تعالى في الكهوف والمغارات والأودية والخبات كما يكون الوحوش فيها وقد يؤولها بالقرآن فلولا تمسكه بالتلاوة لفرعنه ونسيه وقد يؤوله بالدين فلولا أنه تمسكه بالاعتزال والانفراد لذهب وفر إلى غير ذلك مما يسوغ حمله بالناسك والسالك قد يؤوله بالواردات الإلهية كاللوامع والطوالع والبوادي فإنها لا تستقر بل تحول وتمضى وقد يؤولها بالتجلي الجمالي لما في الغزالة من أنواع الجمال إذ لا يذكر في شعر إلا بسبب الحسنى غالباً وقد يؤوله المحب بمحبوبه أما لحسنة أو لنفوره وغيبوبته أو لاستيحاشه عن الأتناس أو لمعاني غير ذلك ويسوغ لو يؤوله المحب بقلب نفسه وروحه حملاً على أن جمال المحبوب كالأسد يفترس قلبه وروحه يغلبه العشق الذى هو أثر جماله وجلاله ويسوغ تأويله على زمن الوصل لنفوره ومضيه كل ذلك على قدر ما يسعه الوقت وتشير إليه القرينة ويؤوله المجذوب بالأسماء والصفات الجمالية والجلالية فالجمالية لمعاني الحسن اللازم من وصف الغزالة والجلالية لآثر الحسن فإنه يقهر القلوب ويسوغ لو حمله المجذوب على المرادات الإلهية في الوجودات لاقتناص أسد القدرة لها بيد القهر والتمكين.
الديب: قد يؤوله الناسك بالغفلة فإنها قالعة يهلك العابد بسببها وقد يؤولها السالك بالنفس لما في النفس من دقائق الفتن وغوائل المحن وقد يؤوله المحب بالعذول وذلك في محب الله تعالى وهو العقل فإنه يعتزل عن التهتك ويأمر بحفظ الرسوم فهو كالعذول المأول بالديب لأنه يقطع طريق المحب عن الوصول إلى الحبيب ويؤوله المجذوب بسطوات تجليات القهر.
الثعلب: يؤوله العابد بالشيطان لما فيه من دقائق المكر من خسته وحقارة شأنه وقد يؤوله السالك بالنفس الأمارة لبعد غورها وعظم مكايدها ويؤوله بالهوى والدنيا وبالحظوظ وأمثالها وقد يؤوله بالبواعث الإلهية لأنها تأتى من حيث لا يحتسبها الإنسان ويسوغ تأويلها بالوقف مع الملأ الأعلى فإن ذلك حجاب يمنع السالك عن الترقي إلى حقيقة معرفة الله تعالى على أن معرفة الله تعالى لا تدرك حقيقة بل لكل من معرفة ربه ما تقتضيه قابليته واستعداده وقد يؤول الثعلب المحب بمحبوبه لما فيه من أنواع الوعد وعدم الوفاء وأمثال ذلك مما ينسب إلى المحبوب من الغدر حملاً على معنى لطيف غير مستهجن على سبيل المدح لا الذم وقد يؤوله المجذوب على التجلي الذاتي الذى لا يدرك ولا يعرف ولا يعلم له غور ولا يحيط به سمع ولا بصر ولا علم فكما أن الثعلب يمكر بالناس كذلك كل من ادعى معرفة ذات الله حقيقة المعرفة بحيث أن لا يكون وراءه معرفة فإنه ممكور والماكر به هو ذلك التجلي الذى ادعى بسببه هذا الولي أن لا معرفة وراء معرفته فهو سكران بخمر شراب تلك المعرفة مأخوذة عما ورائها مشغول بالله عن الله والله أعلم.
النعامة: قد يؤوله الناسك بالنعم الإلهية من حيث اشتقاق اللفظ وقد يؤولها السالك بالطريق إلى الله تعالى لأن الطريق بين مخالفة ومراقبة كما أن النعامة بين وصف الطير بالأجنحة وبين وصف الجمل بالخف وقد يؤولها المحب بحالة المحب بين وصل وهوى وهجر ورضى ويسوغ أن يؤولها بمحبوبه بين قساوة قلب ولين عطف كل ذلك ليصاد حال النعائم بين الطيرية والجملية ويؤولها المجذوب بتجليات الكمال لأنها جامعة للجمال والجلال اعتبارا لما سبق بيانه في مجالس النعائم