الكلمة الحادية والعشرون الذكر
هو عبارة عن الرجوع من الغفلة إلى الحضور على الجملة وهو على مراتب فذكر اللسان وذكر القلب وذكر الروح وذكر السر وذكر الجملة وذكر الله فإما ذكر اللسان فعبارة عن كلمة لا إله إلا الله وقد جعلها الجنيد ركنا من أركان الطريق وسيدى إبراهيم بن أدهم رضى الله عنه عن الطريق إلى الله تعالى فقال: (دوام الذكر ودوام المخالفة) وأعلم أن الذكر في نفسه يقع على القرآن وعلى سائر التسبيحات والتهليلات والأدعية والأسماء والمناجات ولكن اصطلاح الصوفية في مطلق الذكر على كلمة التوحيد ولهم في الذكر هيئة مخصوصة وشروط منصوصة فمنها أن المريد لا يشتغل بالذكر إلا بعد تلقين الشيخ له إياه لأن الشيخ أعرف بمصالح المريد منه فقد يكون لا يصلح لمزاجه إلا قراءة القرآن أو ذكر كلمة (الله) (الله) فقط أو غيره من الأسماء فليس له أن يتعاطى ملازمة شيء من ذلك إلا بتلقين الشيخ له إياه ومنها هيئته في القعود للذكر فينبغي أن يجلس جلسته للتشهد لأنها جلسة المصلى والذكر عندهم بمنزلة الصلاة وينبغي أن يبسط كفيه على فخذيه لأنها جلسة جبريل عليه السلام حين نزل على صورة أعرابي ثم سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإسلام والإيمان الحديث فقال النبي صلى الله عليه وسلم أنه جبريل أتاكم يعلمكم أمر دينكم فقالوا ويحتمل أن يكون الجلسة مما أذ أراد بها جبريل تعليم الجلوس لنا بين يدى النبي صلى الله عليه وسلم فنحن نجلس تلك الجلسة بين يدى الله لذكره والله جليس من ذكره ومنها أن يبتدئ بأول الكلمة من صدره فيحرك رأسه إلى شقه الأيمن ثم يرجع فينتهى بأخر الكلمة ورأسه محاذ لشقه الأيسر واختاروا هذه الهيئة لمعنين أحدها أن القلب في الجانب الأيسر فأحبوا أن تكون لفظة الله من أخر كلمة التوحيد صادرة وفهمه مقابل للقلب من الشق الأيسر وقد وجدوا من بركات أثر هذه الهيئة ما لم يجدوه في غيرها المعنى الثاني اختاروا نفس حركة الأعضاء عند الذكر ليكون مشتغلاً بكليته في الذكر فيقل الوساوس والخواطر وهذا أمر مجرب ظاهر لمن تتبعه ومنها أعنى من شروط الذكر اللساني حضور القلب لفهم معنى كلمة التوحيد والناس مختلفون في ذلك على أنواع بعضهم أعلى من بعض فمنهم من يفهم من كلمة لا إله إلا الله نفى سائر الإلهية فيثبت إلوهية الحق وحده بقوله إلا الله وهذا ظاهر ما يعطيه معنى الكلمة وهو لعوام المسلمين فأقل ما ينبغي عند الذكر استحضار هذا المعنى في ذهن الذاكر ومنهم من يفنى بكلمة لا إله وجود ما سوى الله تعالى فلا يثبت موجوداً سواه فيستحضر هذا المعنى عند التلفظ بالكلمة ومنهم من يفنى بالكلمة قوته وقدرته وفعله وإرادته فينسب جميع ذلك لله تعالى ويتبرأ منها فيستحضر عند النفي انتفاء هذه الاسباعية ويستحضر عند الإثبات أثباتها لله وحده ومنهم من يستحضر عند كلمة النفي انتفاء صفات نفسه التي هى الحياة والعلم والكلام وأمثال ذلك من السمع والبصر ويستحضر عند كلمة الإثبات أثباتها لله تعالى ومنهم من يستحضر عند النفي نفى ذات نفسه وعند الإثبات أثبات ذات الله تعالى وهذا أعلى مرتبة في استحضار النفي والإثبات عند الذكر وأعلم أنهم كما أطلقوا لفظة الذكر على كلمة التوحيد إلا باعتبار التوحيد الصادر من العبد عند أخذ الميثاق عليه في الأزل فهم يذكرون تلك الهيئة وذلك العهد لمجرد التلفظ بهذه الكلمة وقد قال ذو النون المصري: (كأنه الآن في ذاتي) (...) يعنى قول الحق للخلق (ألست بربكم) وقول الخلق (بلى) هذا سماع أيماني بإذن اليقين وسمع السر بالأفق المبين وأما ذكر القلب فإنه نتيجة ذكر اللسان لأن العبد إذا داوم الذكر بحضور القلب وجمع الهمة أياماً قليلة ينتهى منها إلى أن يسمع ذكر القلب عند سكوت اللسان بعين الكلمة التي كان يذكرها بلسانه فلا يزال قلبه ذاكراً مهما سكت اللسان وعلامة من حصل في هذا المقام أن يسمع الأشياء بعضها أو كلها تذكر بعين الذكر الذى هو ذاكر لله به يسمع ذلك في بعض
الأحيان أو غالبها على قدر تمكنه في هذا المقام وأما ذكر الروح فإنه عبارة عن الحضور المطلق وحينئذ يكون العبد ذاكراً لله بالخاصية والطبع فلا يغفل عن الله طرفة عين وذلك لأنه يرى قيام الأشياء بالله ضرورة فتنجذب روحه طبعاً إلى توحيد الحق تعالى في الموجودات ولصحاب هذا المقام علامتان أحدهما أن يسمع لكل شيء من الموجودات تسبيحاً مخصوصاً العلامة الثانية وهى لمن قد تمكن في هذا المقام وهى أن لا يرى لنفسه فعلاً ولا لشيء من الموجودات فلا يرى الأفعال الصادرة في الوجود كلها إلا لله تعالى وحده وأما ذكر السر فإنه يفنى الذاكر في المذكور عن نفسه وعن ذكره وليس لذكر السر حد يعبر به عنه سوى أن يقال هو انجذاب العبد عن نفسه إلى حضرة المذكور تعالى وذكر السر عبارة عن منظر من مناظر الشهود وهو الذكر بالله وما قبله فهو ذكر لله وأما ذكر الجملة فإنه عبارة عن ذكر جميع أجواء العبد لله تعالى فيكون له ذكر اللسان وذكر القلب وذكر السر ويزيد على ذكر السر بأن يكون الحق تعالى هو الذاكر لنفسه عن العبد وهو المذكور على لسان العبد وعلامة صحة هذا المقام هو أن يجد نور الله في كليته من شعره وبشره ولحمه وعظمه وظاهره وباطنه وأنيته وهويته مع فنائه عن جميع ما ينسب إليه وفنائه عن الفناء أيضاً وهذا الذكر وإما ذكر الله للعبد فهو أعلى مراتب الذكر قال الله تعالى (لذكر الله أكبر) يعنى ذكره لكم أكبر من ذكركم له لأن ذكر العبد لله يفنيه عن نفسه وذكر الله له يبقيه فإن العبد يحصل به في مقام البقاء والبقاء أول وصف يتصف به العبد من صفات الله تعالى فيكون باقياً ببقاء الله عز وجل وفى هذا المقام قال من قال: (أنا الحق وسبحاني ما أعظم شأني) فأفهم وفى هذا المعنى قلت
ظهرتم بأوصاف الكمال لناظري ... فغبت وعنكم لا تغيب سرائري
وشاهدت حسناً شاملاً ملأ كل وجهة ... وكانت من الوجات أيضاً مظاهري
فغيبني ذاك الشهود عن سوى ... وغبت به عنى هناك ضمائري
فأرجعني منه إلى بوصفه ... لأثنى عليه عنه في زى ذاكرة
فقال ولكن كنت عنه مترجماً ... مقالة تحقيق وحقي ناصري
أنا الحق سبحاني فشأني معظم ... أنزه عن شبه وتحديد حاصري
وحاشاه ما أن يحد في وجوده ... ولا في جهات شاهدته نواظري