القصيدة السادسة
القصيدة السادسة وهى سبعة أبيات في منهج العتب:
بالله متى نقضتم ميثاقي يا من سكنوا السواد من أحداقي
وجه السماع فيه للناسك يقول لنفسه وشيطانه وهواه متى نقضتم يعنى كيف احتلتم على بنقض توبتي أو بنقض عهد من الذى هاهدته ربى أن لا أتخلف عن عبادته ولا أكسل عنها وانتم بالله متى نقضتم على ذلك أعلموني لأنى أجد فترة في نفسى وكسلاً فكان ذلك الميثاق منقوض بسببكم.
وجه السماع للسالك يقول لنفسه عن لسان حاله مع ربه فكأن المتكلم هنا هو الحق والعبد هو السامع لأنه يرى الحركات والسكنات بقدرة الله تعالى وإرادته فإذا سمع مثل هذا الكلام قد يحمله على ما يستحقه حاله من العتاب فيقع عنده كأن ذلك لسان الحق يعاتبه فيما بينه وبين ربه فكأنه بقال له متى نقضت ميثاق الأزل حيث عاهدتنا أن لا معبود سوانا كيف تنقضه أنت بأعيننا لأنك أن التفت إلى غيرنا فقد نقضت فمتى أبيح لك هذا النقض وأنت بأعيننا وإليه الإشارة بقوله يا من سكنوا السواد من أحداقي.
وجه السماع للمحب فيه يقول مخاطباً لربه بلسان التعظيم يا من سكنوا السواد من أحداقي يريد بالسكنى هنا عبارة عن ظهور الأثر يعنى يا من أراني أثاره بعيني فلا تزال أثاره مشهودة لعيني فكأن عيني محل ظهور أثره ومسكنه متى نقضتم على ميثاقي الذى عاهدت في الأزل أن لا وجود حقيقة إلا لك فلا بي(....) ستر موجودات متعددة ورؤيي لها كأنه ينقض ذلك الميثاق.
وجه السماع للمجذوب فيه أنه يريد مخاطبة تجليات الأسماء الذاتية كتجلي الهوية وتجلى الأحدية من المجالي التي لا يكون للأسماء والصفات ظهور فيها بل تتلاشى تحت أنوار هذه التجليات فتنعدم أنوار جميع الأسماء والصفات كما تتلاشى وتنعدم أثار النجوم وأنوارها عند ظهور سلطان شمس النهار فكأن المجذوب يخاطب هذه التجليات وكأنه يقول متى نقضتم على ما عهدته يعنى ما علمته من معارف تجليات الأسماء والصفات المتعددة إلا أنها تتلاشى تحت ظهور واحديه الحق فانتقض عليه علمه فظهر عكس ما كان يعمله وإلى هذا أشار بقوله: (وبدالهم من الله ما لم يكونوا يحسبون)
ما كنت أخال عهدكم منقوضاً ما مثلكم يروغ عن ميثاقي
وجه السماع للناسك فيه مخاطبته نفسه وشيطانه وهواه المتبع ما كنت أظنكم تنقضون عهدي إذ ما مثلكم يعنى نفسه من يروغ عن ميثاقي لأنها تشقى بشقاوته يقول ما كان ينبغي لنفس الإنسان أن ينقض ميثاقه الذى عاهد الله به في الإقبال على العبادة لأن ذلك سبب سعادة النفس فما مثلها من يروغ عن ميثاقه الذى هو سبب سعادتها.
وجه السماع للسالك يقول بلسان الحق مخاطباً لنفسه ما كنت أحب لكم أن يكون عهدكم الذى تعاهدونني به منقوضاً بالتفاتكم إلى ما سواي ما مثلكم من يروغ عن ميثاقي لأن العبد ما شرطه أن يخل بما ينبغي عليه من الوفاء بالعهود والدوام على عبودية المعبود.
وجه السماع للمحب فيه يقول مخاطباً لربه بقوله ما كنت لخال عهدكم منقوضاً يعنى ما أعلم أن العهد المأخوذ في يوم ألست ينتقض منا أبداً لأن العالم يشهد لله تعالى بالربوبية وعاهده أنه ربهم وهو لم يزل في ربوبيته وهم لم يزالوا عابدين له لأن القائل تعالى: (وإن من شيء إلا يسبح بحمده) فشهد العالم بأجمعه أنهم مسبحون بحمده والتسبيح عبادة فهم على العهد المأخوذ ضرورة فالعهد غير منقوض أبداً فجعل قوله ما كنت أخال بمعنى ما كنت أعلم لأن الظن قد يجئ بمعنى العلم قال تعالى: (الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم) وهذا الظن إنما هو علم حقيقي لا ريبه فيه ما مثلكم يروغ عن ميثاقي المخاطبة هنا للعالم التفاتاً بيانياً من مقام المتكلم إلى مقام المخاطب بقول ما مثلى ومثل العالم ممن هو تحت قهر سلطان الأمر الإلهي يقدر أن يروغ عن ميثاق يأخذه الحق على العالم يريد أن الموجودات تجرى بإرادة الله تعالى حيث يريد فهى لا تستطيع أن تروغ عن ذلك لأنها أقل وأحقر أن تقوى لمخالفته ونقض عهده فهى على العهد المأخوذ فما في الوجود إلا من هو عبد لله تعالى قال: (وما خلقت الجن والأنس إلا ليعبدون) وقال عليه السلام: (كل ميسر لما خلق له) فحصلت النتيجة أن العالم يعبدون الله تعالى هذا العبادة عبادة بالضرورة ولهم عبادة ثانية هى عبادة التشريع التي بواسطتها يعرف من نقض عهد الله المأخوذ عليه يوم قوله (ألست بربكم) ومن لم ينقض فالعبادة الأولى من حيث حقيقة الأشياء والعبادة الثانية من حيث الأمر والتشريع وعليها الاعتبار وهى العلامة (.....) العلاقة وتسمى اختيارية وهى على الحقيقة ضرورية لأنها بقضائه وقدره وأرادته تعالى فما مثلكم من يروغ عن ميثاق الحق.
وجه السماع للمجذوب فيه مخاطبة تجليات أسماء والصفات وصفات الأفعال يقول ما كنت أظن قبل ظهور تجليات الأسماء الذاتية أن ينتقض على ما أعلمه من المعارف المتعلقة بصفات الأفعال وبأسماء الصفات لأن تلك الأسماء والصفات موجودة لكن في مراتبها فحاشها من الانعدام فقال ما مثلها مما يتعلق بالحق تعالى يكون بحيث ينتقض على العبد ما عرفه بواسطتها فلا انتقاض حينئذ وإلى هذا المعنى الإشارة بقوله ما مثلكم يروغ عن ميثاقي(....)
حتام رضتم بأن يشمتنا من يكره حسن حالة العشاق
وجه السماع للناسك يخاطب نفسه وهواه يقول حتام رضيتم بأن يشمتنا إبليس اللعين وعنه كنا بقوله من يكره حسن حالة العاشق يعنى أن للشيطان لا يحب حسن حالة بنى آدم لأنه ما طرد إلا بسبهم فهو لا يريد لهم خيراً فلأجل أي شيء رضيتم أن يشمتنا هذا العدو بغفلتكم عن الله تعالى.
وجه السماع للسالك فيه يقول لنفسه مخاطباً لها عن ربه حتام رضيتم بأن يشمت بكم من يكره حسن حالة محبى الحق فأراد بقوله من يكره عبارة عن الهوى والنفس والشهوة والشيطان والدنيا والعقل القاطع عن كشف الأمور الإلهية يقول مخاطباً لنفسه وأمثاله كأنه يقول لهم بلسان الحق التفتم إلى ما سوى الحق حتى يتحكم فيكم كل واحد من هؤلاء فالتفاتكم إلى ما سوى الله تعالى سلط عليكم هذه البلايا فلو فرغتم عن العالم وما فيه وأفردتم شهود الحق وكانت الأشياء عندكم كأن لم تكن ووجدتم البقاء لله تعالى كأن لم يزل حاضراً بغير حلول وله الوجود الصرف لكان حيث وعدكم مقهورا وكانت قلوبكم منزهة عن دخول هؤلاء الأنجاس الارجاس فحتام رضيتم بالالتفات قد خلوا قلوبكم فشمتوها فأضاف النون إلى الحق في نفسه عند المخاطبة بقوله يشمتنا لأن القلب محل تجلى الرب وقلب المؤمن عرش الله تعالى فأضافه إلى الحق لأجل هذه التشبيه.
وجه السماع فيه للمحب يقول حتام رضيتم بأن يشمتنا يستفهم من علم الله تعالى عز وجل السر في أن العالم إذا أمر عليهم الحق بلسان التشريع أمكنهم أن لا يفعلوا ما أمروا به فيغضبون لذلك حتى إذا خالفوه تنسب إليهم الغضبان وهو لو أمر بما شاء لا يمكنهم مخالفته لأن أمره نافذ تعالى فيقول هذا المحب مستفهماً (.....) سر اشمت بي يا ربى من يكره الوصول إليك يعنى الشيطان ولأي سر رضيت لنا بذلك ونحن ممن ينسب إلى محبتك وعبوديتك وهذا الاستفهام لطلب معرفة مراد الله تعالى لا للاعتراض لعله يجد في ذلك سراً من أسرار عناية الله تعالى بعباده فيظهر له أن في ذلك قرب له إلى الله تعالى.
وجه السماع فيه للمجذوب يقول أن التجليات الصفاتية التي من روائها تجلى الأحدية ما لها نهاية وليس لها غاية تدرك للمخلوق ولو ترقى إلى تجليات الذات فإنه لم يستكمل معرفة تجليات الصفات لأنها لا نهاية لها فهو إذا ترقى إلى التجليات الذاتية وافتقد بعد ذلك نفسه في التجليات الصفاتية وجد نفسه عاجز عن إدراكها فكأن النفس تشمت حينئذ لعلمها بعدم حصول مطلوبه.
قد جرعني الجفا سموما هلا دارت بكؤوس وصلكم ترياقي
وجه السماع للناسك يقول شربت سموم المعاصي في الغفلة هلا دارت على كؤوس الطاعات التي هى ترياق القلوب فأحيى من موت الغفلة بالحضور بين يدى الله تعالى.
وجه السماع للسالك يقول مخاطباً لنفسه عن ربه ومعاتبا لها في الفترة وعدم بذل الاستطاعة في المجاهدة والرياضة والمراقبة فكأنه يقال له قد مضى عدم رضانا بغفلة قلبك عنا هلا فعلت ما يرضينا عنك بالإقبال علينا فجعل الغفلة عن الله كالجفا وجعل الإقبال عليه كالوصال.
وجه السماع للمحب فيه يقول مخاطباً لربه قد هلكت من البعد والحجاب وتجرعت لذلك سموماً قاتلة تهلك قلبي وتميتها دون الحياة بمعرفتك وشهودك فهلا دارت بكؤوس وصلكم ترياقي يعنى أفلا يحصل من خزائن الجود بسابق عناية أزلية تسقيني من شراب الوصال ترياق خمرة اشتفى بها من مرض الجهل بالله فأحيى حياة الأبد عند الله تعالى.
وجه السماع للمجذوب فيه يقول قد جرعني الجفا سموما يعنى هلكت من تجرع سموم العجز عند طلبي الاتصاف بأوصاف الحق تعالى حين أجدنى عاجزاً عن بلوغ ذلك فأكون كالميت هلا دارت بكؤوس وصلكم ترياقي يقول هلا يعنى أفلا كان الاشتغال بأسرار الله في ذاتي أفضل من اشتغالي بعجز ذاتي فإني إذا نظرت إلى اللطائف الإلهية المودوعة في ذاتي من غير حلول عشت وفرحت بالاتصاف لأن بواسطة تلك الأسرار الإلهية يمكن للعبد أن يتصف بصفات الباري وإذا نظرت إلى نفسى وعجزها تجرعت سموم الهلاك قائلا العجز عن درك الإدراك أدراك فجعل نظره إلى سر الحق بمثابة كؤوس الوصال ونظره إلى نفسه بمثابة الجفا.
لو أنصفت في هواكم فاضينا ما غيب عن جمالكم أمارقى
وجه السماع للناسك فيه يقول لو أنصفت نفسى الأمارة ما غيبتنى عن الطاعات بأن غفلت عنها.
وجه السماع للسالك فيه يقول مخاطباً لنفسه عن ربه لو أنصفت في محبتكم لي من قضى بذلك يعنى العشق المتعلق بكم فينا لو أنصف في دعواه لما غبت عنكم عن النور الإلهي الذى به جمالكم وكمالكم يعنى لما نزلتم إلى الالتفات إلى الأكوان طرفة عين بل كنتم ذهبتم في الله مع الذاهبين.
وجه السماع للمحب فيه يقول مخاطباً لربه لو حصل لي الأنصاف في محبتك من قواي وجوارحي يعنى لو ساعدوني ما غيبت عن جمالكم أماقى يعنى ما كنت غبت عن شهود كمالكم لكن قواي وجوارحي عاجزين عن ذلك فهم يستمدون من أنوارك ما يؤهلنا لطاقة جلالك.
وجه السماع للمجذوب فيه يقول أن الإنسان من حيث هو هو ليس له مسايرة الحق تعالى فيما يعرف به نفسه فلو عرف من الله تعالى ما عرف فإن معرفته ترجع إلى القصور والعجز ومن ادعى كمال المعرفة بالله فهو كذاب لأنه لو كان ذلك حاصلاً لما غيبت عن جمالكم أماقى يعنى لو كان يمكن أن يعرفه العبد حق المعرفة لما كان يلتحق به أحكام الكونية وهى لاحقة به أبداً فلا قابلية له أن يعرف الله تعالى حق معرفته فجعل قوله لو انصف في هواكم قاضينا عبارة عن إعطاء الحقائق الإلهية حقها بحق المعرفة لها من العبد وجعل قوله ما غيبت عن جمالكم لما من عبارة عن عدم لحوق حكم الكونية بالعبد وهذا محال فلأول محال وزبدة الكلام أنه يقول معنى قوله عليه السلام: (ما عرفناك حق معرفتك).
قد أحرقنى الزفير لما غبتم والدمع يريد في الهوى أغراقى
وجه السماع للناسك يقول أن الندم على أيام الغفلة أحرقنى بناره وزفيره والدمع يعنى بكائي من التأسف على التفريط يريد أن يستغرق باقي عمرى.
وجه السماع للسالك فيه يقول مخاطباً لنفسه عن ربه فكأنه يقال له قد تأذينا بمغيبك عن حضرتنا والغفلة تريد أن تهلك قلبك الذى هو عرش ظهرونا لك فتغرق في غمرة الهلاك فجعل الإحراق كناية عن التأذي وجعل الدمع كناية عن الغفلة لأن البكاء من لوازم البعد ومن قال أن البكاء من لوازم الوصال أيضا فليس كذلك وما يحصل للمتحابين من البكاء عند الاجتماع فإنما هو من بقية أثار الفراق لأن القلب كان مجروحاً مالوماً بالفراق وفيه كأبات وامتحانات عظيمة لأيام البعاد فلما شعر بانقضاء مدة الفراق أخرج ما بقى من النفس من فضلات صبابات الاحتراق بالضرورة لأن السرور المستولى على القلب ما وسعه المحل أن يكون هو مع ما بقى من الحزن في موضع واحد فخرج الدمع بما كان في القلب من الأشجان والأحزان طبعاً.
وجه السماع للمحب فيه يقول مخاطباً لربه قد حرقت بنار زفرات الأشواق إلى مطالعة جمالك وبكيت في محبتك إلى أن كاد الدمع أن يستغرق أحوالي كلها فانظر إلى بنظر اللطف والعناية فأنت أرحم الراحمين.
وجه السماع للمجذوب فيه يقول قد فنيت ذاتي وانطمست صفاتي بتواتر ورود سطوات الجلال وتتابع ظهور أثار الكمال على قلبي حتى احترق وجودي وتلاشى عبر بذلك عن مقام السحق والمحق والدمع يريد في الهوى أغراقى يعنى واستغراق وجودي أثار الشهود بما أشار إليه عليه السلام في قوله: (كنت سمعه وبصره ويده ولسانه) فجعل الإحراق عبارة عن محوه وسحقه ومحقه وجعل الدمع عبارة عن آثار الشهود لأنهما ملزومان بالبصر والبصر لازمهما وأراد بالإغراق شمول ظهور الآثار على جوارحه فكأنه مستغرق في بحر أثار الشهود.
ما ذنب محبتكم إلى أن خنتم عهدي وأنا على ودادي باقي
وجه السماع للنساك فيه يقول لنفسه ما ذنب من يحبك ويعمل في حصول سعادتك الكبرى أن تشقيه وتخوني عهده فيما بينه وبين ربه وهو مع هذا باق على محبتك يطلب ملاحك بما يقربك إلى الله تعالى ويدخلك الجنة.
وجه السماع للسالك فيه يقول مخاطباً لنفسه عن ربه فكأنه يقال له لم تغفل عن شهودنا بشهود غيرنا فتخون عهد الأحدية وأنا على محبتي لك باقي كما ذكرته في الكلام المجيد حيث قلت: (يحبهم ويحبونه) فأنا أحب عبادي فهل يليق أن تخون مولاك وهو يحبك.
وجه السماع للمحب فيه يقول مخاطباً لربه ما بلغ ذنب محبك إلى أن تجعلني خائناً لعهدي الذى عهدت إليك في الأزل على أنى باقي على محبتي لك معناه أن المعاصي وغيرها من أشباه الغافلات والفترات ما تبلغ في العقوبة إلى حد يكون ذلك سبباً لنقض عهد المؤمن فيما بينه وبين الله تعالى يشير إلى ما قد قالته العلماء: (ولا يكفر أحد من أهل القبلة بذنب) يعنى ولا يطعن في حفظ العهد ما صدر منا من الغفلة أو الالتفات بل الأصول محفوظة.
وجه السماع للمجذوب فيه يقول ما العلة أنى لا أتمكن من إظهار سائر ما اتصفت به على التمام والكمال ومع هذا أنى متصف حقيقة الاتصاف فما الأمر المانع من إظهار كمال ذلك فجعل خيانة العهد كناية عن عدم استيفائه شروط إظهار الاتصاف بحقيقة ما تقتضيه تلك الأوصاف وجعل قوله وأنا على ودادي باقي كناية عن حال كونه متصفاً أتصاف حقيقياً فأراد معرفة العلة وإنما هى حكم مخلوقيته.