(الباب الحادي عشر في شرح حال الخادم ومن يتشبه به)
أوحى الله تعالى إلى داود عليه السلام قال: يا داود، إذا رأيت لي طالبًا فكن له خادمًا، الخادم يدخل في الخدمة راغبًا في الثواب، وفيما أعد الله تعالى للعباد، ويتصدى لإيصال الراحة، ويُفَرِّغُ خاطر المقبلين على الله تعالى عن مهام معاشهم، ويفعل ما يفعله لله تعالى بِنِيَّةٍ صالحةٍ، فالشيخ واقفٌ مع مراد الله تعالى، والخادم واقف مع نيته، فالخادم يفعل الشيء لله تعالى، والشيخ يفعل الشيء لله، فالشيخ في مقام المقربين، والخادم في مقام الأبرار، فيختار الخادمُ البذل والإيثار، والارتفاق من الأغيار للأغيار، ووظيفةُ وقته تَصَدِّيه لخدمة عبادِ الله، وفيه يعرف الفضل ويُرَجِّحُه على نوافله وأعماله.
وقد يُقِيم من لا يعرف الخادم من الشيخ الخادم مقام الشيخ، وربما جَهِلَ الخادمُ أيضًا حال نفسه فيحسب نفسه شيخًا؛ لقلة العلم، واندراس علوم القوم في هذا الزمان، وقناعة كثير من الفقراء من المشايخ باللقمة دون العلم والحال، فكل من كان أكثر إطعامًا هو عندهم أحق بالمشيخة، ولا يعلمون أنه خادم، وليس بشيخ، والخادم في مقام حسن وحظٍّ صالحٍ من الله تعالى.
(وقد ورد) ما يدل على فضل الخادم فيما أخبرنا الشيخ أبو زرعة ابن الحافظ أبي الفضل محمد بن طاهر المقدسي عن أبيه قال: أنا أبو الفضل محمد بن عبد الله المُقْرِي قال: حدثنا أبو الحسن محمد بن الحسين بن داود العلوي قال: حدثنا أبو حامد الحافظ قال: حدثنا العباس بن محمد الدوري وأبو الأزهر قالا: حدثنا أبو داود قال: حدثنا سفيان عن الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم أُتِيَ بطعام -وهو بِمَرِّ الظَّهْرَانِ- فقال لأبي بكر وعمر: «كُلَا». فقالا: إنا صائمان. فقال: «ارحلا لصاحبيكما، اعملا لصاحبيكما، ادنوا فكلا». يعني أنكما ضعفتما بالصوم عن الخدمة، فاحتجتما إلى من يخدمكما، فَكُلَا، واخدما أنفسَكُمَا، فالخادم يحرص على حيازة الفضل، فيتوصل بالكسب تارةً، وبالاسترقاق والدروزة تارة أخرى، وباستجلاب الوقف إلى نفسه تارة؛ لعلمه أنه قيمٌ بذلك، صالح لإيصاله إلى الموقوف عليهِم، ولا يُبَالِي أن يدخل في كل مدخل لا يذمه الشرع؛ لحيازة الفضل بالخدمة، ويرى الشيخ بنفوذ البصيرة وقوة العلم أن الإنفاق يحتاج إلى علم تام، ومعاناةٍ في تخليص النية عن شوائب النفس والشهوة الخفيَّة، ولو خَلُصَت نيته ما رغب في ذلك؛ لوجود مرادِه فيه، وحالُه تركُ المرادِ وإقامةُ مرادِ الحقِّ.
(أخبرنا) أبو زرعة -إجازة- قال: أنا أبو بكر أحمد بن علي بن خلف -إجازة- قال: أنا الشيخ أبو عبد الرحمن السُّلَمِيُّ ، يقول: سمعت محمد بن الحسين بن الخشاب، يقول: سمعت جعفرَ بنَ محمدٍ، يقول: سمعت الجنيد، يقول: سمعت السَّرِيَّ، يقول: أعرف طريقًا مختصَرًا قصدًا إلى الجنة، فقلت له: ما هو؟ قال: لا تسأل من أحد شيئًا، ولا تأخذ من أحد شيئًا، ولا يكن معك شيء تعطي منه أحدًا شيئًا. والخادم يرى أن من طريقِ الجنة الخدمةُ والبذل والإيثار، فيُقَدِّمُ الخدمةَ على النوافل ويرى فضلها، وللخدمة فضلٌ على النافلة التي يأتي بها العبد طالبًا بها الثواب غير النافلة التي يتوخى بها صحة حاله مع الله تعالى؛ لوجود نقد قبل وعد.
(ومما يدل) على فضل الخدمة على النافلة ما أخبرنا أبو زرعة قال: أخبرني والدي الحافظ المقدسي قال: أنا أبو بكر محمد بن أحمد السمسار -بأصفهان- قال: أنا إبراهيم بن عبد الله بن خرشيد قال: حدثنا الحسين بن إسماعيل المحاملي قال: حدثنا أبو السائب قال: حدثنا أبو معاوية قال: حدثنا عاصمٌ عن مُوَرِّقٍ عن أنس قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمنا الصائم ومنا المفطر، فنزلنا منزلًا في يومٍ حارٍّ شديد الحر، فمنا من يتقي الشمس بيده، وأكثرنا ظلًّا صاحب الكساء يستظل به، فنام الصائمون، وقام المفطرون، فضربوا الأبنية وسَقَوُا الرِّكَاب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ذَهَبَ الْمُفْطِرُونَ الْيَوْمَ بِالأَجْرِ». وهذا حديثٌ يدل على فضل الخدمة على النافلة، والخادم له مقام عزيز يرغب فيه، فأمَّا من لم يعرف تخليصَ النية من شوائب النفس، ويتشبه بالخادم، ويتصدى لخدمة الفقراء، ويدخل في مداخل الخُدَّام بحسن الإرادة، بطلب التأسي بالخدام، فتكون خدمته مشوبةً، منها ما يصيب فيها لموضع إيمانه وحسن إرادته في خدمة القوم، ومنها ما لا يصيبُ فيها لما فيه من مزج الهوى، فيضع الشيء في غير موضعِه.
وقد يخدِم بهواه في بعض تصاريفِه، ويخدم من لا يستحقُّ الخدمة في بعض أوقاته، ويحب المحمدة والثناء من الخلق، مع ما يحب من الثوابِ ورضا الله تعالى، وربما خدم للثناء، وربما امتنع من الخدمة لوجود هوًى يخامرُه في حق من يلقاه بمكروه، ولا يُراعي واجبَ الخدمة في طرفي الرِّضَا والغضب؛ لانحراف مزاج قلبه بوجودِ الهوى، والخادمُ لا يتَّبِع الهوى في الخدمةِ في الرِّضَا والغضب، ولا يأخذه في الله لومة لائم، ويضع الشيء موضعه؛ فإذن الشخص الذي وصفناه آنفًا متخادمٌ وليس بخادمٍ، ولا يميز بين الخادم والمتخادم إلا من له علم بصحة النيات وتخليصها من شوائب الهوى، والمتخادم النجيب يبلغ ثواب الخادم في كثير من تصاريفه، ولا يبلغ رتبته؛ لتخلفه عن حاله بوجود مزج هواه.
وأما من أقيم لخدمة الفقراء بتسليم وقف إليه، أو توفير رفقٍ عليه، وهو يخدم لمنال يصيبه، أو حظ عاجل يدركه؛ فهو في الخدمة لنفسه لا لغيره، فلو انقطع رفقُه ما خدم، وربما استخدم من يخدم، فهو مع حظ نفسه يخدم من يخدمه، ويحتاج إليه في المحافل يتكثر به، ويقيم به جاه نفسِه بكثرة الاتباع والإشباع، فهو خادم هواه، وطالب دنياه، يحرص نهارَه وليلَه في تحصيل ما يقيم به جاهَه، ويُرْضِي نفسَه وأهلَه وولدَه، فيتسع في الدنيا، ويتزيَّا بغير زي الخدام والفقراء، وتنتشر نفسه بطلب الحظوظ، ويستولي عليه حُبُّ الرِّياسَة، وكُلَّمَا كثر رفقه كثرت مواد هواه، واستطال على الفقراء، ويُحوج الفقراء إلى التملق المفرط له؛ تطلبًا لرضاه، وتوقيًا لضيمه وميله عليهم بقطع ما ينوبُهم من الوقف، فهذا أحسن حاله أن يسمى مستخدمًا فليس بخادمٍ ولا متخادم، ومع ذلك كلِّه ربما نال بركتَهم باختياره خدمتهم على خدمة غيرهم وبانتمائه إليهم.
وقد أوردنا الخبر المسندَ الذي في سياقه: «هُمُ الْقَوْمُ الذين لَا يَشْقَى بِهِمْ جَلِيسُهُمْ». والله الموفق والمعين.