(الباب الخامس والخمسون في آداب الصحبة والأخوة)
سئل أبو حفص عن أدب الفقراء في الصحبة. فقال: حفظ حرمات المشايخ، وحسن العشرة مع الإخوان، والنصيحة للأصاغر، وترك صحبة من ليس في طبقتهم، وملازمة الإيثار، ومجانبة الادخار، والمعاونة في أمر الدين والدنيا. فمن أدبهم التغافل عن زلل الإخوان، والنصح فيما يجب فيه النصيحة، وكتم عيب صاحبه، واطلاعه على عيب يعلم منه، قال عمر بن الخطاب رضى الله عنه: رحمه الله امرأً أهدى إليَّ عيوبي. وهذا فيه مصلحة كلية تكون للشخص ممن ينبهه على عيوبه. قال جعفر بن برقان: قال لي ميمون بن مهران: قل لي في وجهي ما أكره؛ فإن الرجل لا ينصح أخاه حتى لا يقول له في وجهه ما يكرهه؛ فإن الصادق يحب من يصدقه، والكاذب لا يحب الناصح.
قال الله تعالى: ﴿وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ﴾ [الأعراف: 79]. والنصحية ما كانت في السر.
ومن آداب الصوفية: القيام بخدمة الإخوان، واحتمال الأذى منهم، فبذلك يظهر جوهر الفقير.
روي أن عمر بن الخطاب رضى الله عنه أمر بقلع ميزاب كان في دار العباس بن عبد المطلب إلى الطريق بين الصفا والمروة، فقال له العباس: قلعت ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وضعه بيده. فقال: إذن لا يرده إلى مكانه غير يدك، ولا يكون لك سلم غير عاتق عمر، فأقامه على عاتقه ورده إلى موضعه.
ومن أدبهم: ألَّا يروا أنفسهم ملكًا يختصون به، قال إبراهيم بن شيبان: كنا لا نصحب من يقول: نعلي.
(أخبرنا) بذلك رضي الدين عن أبي المظفر عن والده أبي القاسم القشيري قال: سمعت أبا حاتم الصوفي قال: سمعت أبا نصر السراج يقول ذلك. وقال أحمد بن القلانسي: دخلت على قوم من الفقراء يومًا بالبصرة فأكرموني وبجلوني، فقلت يوما لبعضهم: أين إزاري؟ فسقطت من أعينهم.
(وكان) إبراهيم بن أدهم إذا صحبه إنسان شارطه على ثلاثة أشياء، أن تكون الخدمة والأذان له، وأن تكون يده في جميع ما يفتح الله عليهم من الدنيا كيده. فقال رجل من أصحابه: أنا لا أقدر على هذا، فقال: أعجبني صدقك.
(وكان) إبراهيم بن أدهم ينظر البساتين، ويعمل في الحصاد، وينفق على أصحابه.
(وكان) من أخلاق السلف: أن كل من احتاج إلى شيء من مال أخيه استعمله من غير مؤامرة، قال الله تعالى: ﴿وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ﴾ [الشُّورى: 38]؛ أي مشاع هم فيه سواء.
ومن أدبهم: أنهم إذا استثقلوا صاحبًا يتهمون أنفسهم ويتسببون في إزالة ذلك من مواطنهم؛ لأن انطواء الضمير على مثل ذلك للمصاحب وليجة في الصحبة.
قال أبو بكر الكتاني: صحبني رجل، وكان على قلبي ثقيلًا، فوهبت له شيئًا بنية أن يزول ثقله من قلبي فلم يزل، فخلوت به يومًا وقلت له: ضع رجلك على خدي، فأبى فقلت له: لا بد من ذلك، ففعل ذلك، فزال ما كنت أجده في باطني، قال الرقي: قصدت من الشام إلى الحجاز حتى سألت الكتاني عن هذه الحكاية.
ومن أدبهم: تقديم من يعرفون فضله، والتوسعة له في المجلس، والإيثار بالموضع. روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان جالسًا في صفة ضيقة، فجاءه قوم من البدريين، فلم يجدوا موضعًا يجلسون فيه، فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم من لم يكن من أهل بدر، فجلسوا مكانهم، فاشتد ذلك عليهم، فأنزل الله تعالى: ﴿وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا﴾ [المجادلة: 11]. الآية.
(وحكي) أن علي بن بندار الصوفي ورد على أبي عبد الله بن خفيف زائرًا فتماشيا، فقال له أبو عبد الله: تقدم. فقال: بأي عذر؟ فقال: بأنك لقيت الجنيد وما لقيته.
ومن أدبهم: ترك صحبة من همه شيء من فضول الدنيا، قال الله تعالى: ﴿فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا﴾ [النَّجم: 29].
ومن أدبهم: بذل الإنصاف للإخوان وترك مطالبة الإنصاف.
قال أبو عثمان الحيري: حق الصحبة أن توسع على أخيك من مالك، ولا تطمع في ماله، وتنصفه من نفسك، ولا تطلب منه الإنصاف منه، وتكون تبعًا له، ولا تطمع أن يكون تبعًا لك، وتستكثر ما يصل إليك منه، وتستقل ما يصل إليه منك.
ومن أدبهم في الصحبة: لين الجانب، وترك ظهور النفس بالصولة.
قال أبو علي الروذباري: الصولة على من فوقك قحة، وعلى من مثلك سوء أدب، وعلى من دونك عجز.
ومن أدبهم: ألَّا يجري في كلامهم لو كان كذا لم يكن كذا، وليت كان كذا، وعسى أن يكون كذا؛ فإنهم يرون هذه التقديرات عليه اعتراضًا.
ومن أدبهم في الصحبة: حذر المفارقة، والحرص على الملازمة.
(قيل): صحب رجل رجلًا ثم أراد المفارقة، فاستأذن صاحبه فقال: بشرط ألَّا تصحب أحدًا إلا إذا كان فوقنا، وإن كان فوقنا أيضًا فلا تصحبه؛ لأنك صحبتنا أولًا، فقال الرجل: زال عن قلبي نية المفارقة.
ومن أدبهم: التعطف على الأصاغر.
(قيل): كان إبراهيم بن أدهم يعمل في الحصاد، ويطعم الأصحاب، وكانوا يجتمعون بالليل وهم صيام، وربما كان يتأخر في بعض الأيام في العمل، فقالوا: ليلة تعالوا نأكل فطورنا دونه حتى يعود بعد هذا يسرع، فأفطروا وناموا، فرجع إبراهيم فوجدهم نيامًا، فقال مساكين: لعلهم لم يكن لهم طعام، فعمد إلى شيء من الدقيق فعجنه، فانتبهوا وهو ينفخ في النار واضعًا محاسنه على التراب، فقالوا له في ذلك، فقال: قلت: لعلكم لم تجدوا فطورًا فنمتم، فقالوا: انظروا بأي شيء عاملناه، وبأي شيء يعاملنا.
ومن أدبهم: ألَّا يقولوا عند الدعاء إلى أين؟ ولم؟ وبأي سبب؟ قال بعض العلماء: إذا قال الرجل للصاحب: قم بنا. فقال: إلى أين؟ فلا يصحبه.
وقال آخر: من قال لأخيه: أعطني من مالك، فقال: كم تريد؟ ما قام بحق الإخاء. وقد قال الشاعر:
لا يسألون أخاهم حين يندبهم |
* | للنائبات على ما قال برهانا |
ومن أدبهم: ألَّا يتكلفوا للإخوان، قيل: لما ورد أبو حفص العراق تكلف له الجنيد أنواعًا من الأطعمة، فأنكر ذلك أبو حفص، وقال: صير أصحابي مثل المخانيث يقدم لهم الألوان، والفتوة عندنا ترك التكلف، وإحضار ما حضر؛ فإن بالتكلف ربما يؤثر مفارقة الضيف، وبترك التكلف يستوي مقامه وذهابه.
ومن أدبهم في الصحبة: المداراة، وترك المداهنة، وتشتبه المداراة بالمداهنة، والفرق بينهما أن المداراة ما أردت به صلاح أخيك، فداريته لرجاء صلاحه، واحتملت منه ما تكره، والمداهنة ما قصدت به شيئًا من الهوى من طلب حظٍّ أو إقامة جاهٍ.
ومن أدبهم في الصحبة: رعاية الاعتدال بين الانقباض والانبساط، نُقِلَ عن الشافعي -رحمه الله- أنه قال: الانقباض عن الناس مكسبة لعداوتهم، والانبساط إليهم مجلبة لقرناء السوء، فكن بين المنقبض والمنبسط.
ومن أدبهم: ستر عورات الإخوان، قال عيسى عليه السلام لأصحابه: كيف تصنعون إذا رأيتم أخاكم نائمًا، فكشف الريح عنه ثوبه؟ قالوا: نستره ونغطيه. فقال: بل تكشفون عورته. قالوا: سبحان الله! من يفعل هذا؟ قال: أحدكم يسمع في أخيه بالكلمة فيزيد عليها، ويشيعها بأعظم منها.
ومن أدبهم: الاستغفار للإخوان بظهر الغيب، والاهتمام لهم مع الله تعالى في دفع المكاره عنهم.
(حكي) أن أخوين ابتلي أحدهم بهوى، فأظهر عليه أخاه، فقال: إني ابتليت بهوى فإن شئت ألَّا تعقد على محبتي لله فافعل. فقال: ما كنت لأجل عقد إخائك لأجل خطيئتك، وعقد بينه وبين الله عقدًا ألَّا يأكل ولا يشرب حتى يعافيه الله تعالى من هواه، وطَوِيَ أربعين يومًا كلما يسأله عن هواه يقول: ما زال. فبعد الأربعين أخبره أن الهوى قد زال فأكل وشرب.
ومن أدبهم: ألَّا يحوجوا صاحبهم إلى المدارة، ولا يلجئوه إلى الاعتذار، ولا يتكلفوا للصاحب ما يشق عليه، بل يكونوا للصاحب من حيث هو مؤثرين مراد الصاحب على مراد أنفسهم.
قال علي بن أبي طالب -كرم الله وجهه-: شر الأصدقاء من أحوجك إلى مدارةٍ، أو ألجأك إلى اعتذار، وتكلف له.
(وقال) جعفر الصادق: أثقل إخواني عَلَيَّ من يتكلف لي وأتحفظ منه، وأخفهم على قلبي من أكون معه كما أكون وحدي، فآداب الصحبة وحقوق الأخوة كثيرة، والحكايات في ذلك يطول نقلها، وقد رأيت في كتاب الشيخ أبي طالب المكي رحمه الله من الحكايات في هذا المعنى شيئًا كثيرًا، فقد أودع كتابه كل شيء حَسُنَ من ذلك.
وحاصل الجميع: أن العبد ينبغي له أن يكون لمولاه، ويريد كل ما يريد لمولاه لا لنفسه، وإذا صاحَبَ شخصًا تكون صحبته إياه لله تعالى، وإذا صحبه لله تعالى يجتهد له في كل شيء يزيده عند الله زلفى، وكل من قام بحقوق الله تعالى يرزقه الله تعالى علمًا بمعرفة النفس وعيوبها، ويعرفه محاسن الأخلاق ومحاسن الآداب، ويوقفه من أداء الحقوق على بصيرة، ويوافقه في ذلك كله، ولا يفوته شيء مما يحتاج إليه فيما يرجع إلى حقوق الحق، وفيما يرجع إلى حقوق الخلق، لكل تقصير وجد من خبث النفس وعدم تزكيتها وبقاء صفاتها عليه، فإن صحبت ظلمت بالإفراط تارة وبالتفريط أخرى، وتعدت الواجب فيما يرجع إلى الحق والخلق، والحكايات والمواعظ والآداب وسماعها لا يعمل في النفس زيادة تأثير، ويكون كبئر يقلب فيه الماء من فوق فلا يمكث فيه ولا ينتفع به، وإذا أخذت بالتقوى والزهد في الدنيا نبع منها ماء الحياء، وتفقهت، وعلمت، وأدت الحقوق، وقامت بواجب الآداب بتوفيق الله سبحانه وتعالى.