(الباب الثالث والعشرون في القول في السماع ردًّا وإنكارًا)
قد ذكرنا وجه صحة السماع، وما يليق منه بأهل الصدق، وحيث كثرت الفتنة بطريقه، وزالت العصمة فيه، وتصدى للحرص عليه أقوام قَلَّت أعمالهم وفسدت أحوالهم، وأكثروا الاجتماع للسماع، وربما يُتَّخَذ للاجتماع طعام تطلب النفوس الاجتماع لذلك، لا رغبة للقلوب في السماع، كما كان من سِيَر الصادقين، فيصير السماع معلولًا، تركن إليه النفوس طلبًا للشهوات، واستحلاء لمواطن اللهو والغفلات.
ويقطع ذلك على المريد طلب المزيد، ويكون بطريقه تضييع الأوقات وقلة الحظ من العبادات، وتكون الرغبة في الاجتماع طلبًا لتناول الشهوة، واسترواحًا لأولي الطرب واللهو والعشرة، ولا يخفى أن هذا الاجتماع مردود عند أهل الصدق، وكان يقال: لا يصح السماع إلا لعارف مكين، ولا يباح لمريد مبتدئ.
وقال الجنيد -رحمه الله تعالى-: إذا رأيت المريد يطلب السماع فاعلم أن فيه بقية البطالة، وقيل: إن الجنيد ترك السماع، فقيل له: كنت تستمع. فقال: مع من؟ قيل له: تسمع لنفسك. فقال: ممن؟ لأنهم كانوا لا يسمعون إلا من أهل مع أهل، فلما فقد الإخوان ترك، فما اختاروا السماع حيث اختاروه إلا بشروط وقيود وآداب، يذكرون به الآخرة، ويرغبون في الجنة، ويحذرون من النار، ويزداد به طلبهم، وتحسن به أحوالهم، ويتفق لهم ذلك اتفاقًا في بعض الأحايين، لا أن يجعلوه دأبًا وديدنًا حتى يتركوا لأجله الأوراد.
(وقد نُقِل) عن الشافعي رضى الله عنه أنه قال في كتاب القضاء: الغناء لهو مكروه، يُشْبِهُ الباطل وقال: من استكثر منه فهو سفيه تُرَدّ شهادته.
(واتفق) أصحاب الشافعي أن المرأة غير المَحْرم لا يجوز الاستماع إليها، سواء كانت حرة أو مملوكة، أو مكشوفة الوجه أو من وراء حجاب.
ونُقِل عن الشافعي رضى الله عنه أنه كان يكره الطقطقة بالقضيب، ويقول: وضعه الزنادقة؛ ليشغلوا به عن القرآن. وقال: لا بأس بالقراءة بالألحان وتحسين الصوت بها بأي وجه كان.
وعند مالك رضى الله عنه: إذا اشترى جارية فوجدها مغنية فله أن يردها بهذا العيب. وهو مذهب سائر أهل المدينة، وهكذا مذهب الإمام أبي حنيفة رضى الله عنه.
وسماع الغناء من الذنوب، وما أباحه إلا نفر قليل من الفقهاء، ومن أباحه من الفقهاء -أيضًا- لم ير إعلانه في المساجد والبقاع الشريفة.
(وقيل) في تفسير قوله تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الحَدِيثِ﴾ [لقمان: 6]. قال عبد الله بن مسعود رضى الله عنه: هو الغناء والاستماع إليه.
(وقيل) في قوله تعالى: ﴿وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ﴾ [النَّجم: 61]؛ أي: مُغَنُّون، رواه عكرمة عن عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- وهو الغناء بلغة حِمْيَر، يقول أهل اليمن: سمد فلان؛ إذا غنى.
وقوله تعالى: ﴿وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ﴾ [الإسراء: 64]. قال مجاهد: الغناء والمزامير.
(ورُوي) عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «كان إبليس أول من ناح، وأول من تغنَّى».
(وروى) عبد الرحمن بن عوف رضى الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنما نُهِيت عن صوتين فاجرين؛ صوت عند نعمة، وصوت عند مصيبة».
وقد روي عن عثمان رضى الله عنه أنه قال: ما غنيت ولا تمنيت، ولا مَسِسْت ذكري بيميني منذ بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(وروي) عن عبد الله بن مسعود رضى الله عنه أنه قال: الغناء يُنْبِت النفاق في القلب.
وروي أن ابن عمر رضى الله عنه مر عليه قوم وهم محرمون، وفيهم رجل يتغنى، فقال: ألا لا سمع الله لكم، ألا لا سمع الله لكم.
وروي أن إنسانًا سأل القاسم بن محمد عن الغناء، فقال: أنهاك عنه وأكرهه لك، قال: أحرام هو؟ قال: انظر يا ابن أخي، إذا ميز الله الحق والباطل في أيهما يجعل الغناء؟
وقال الفُضَيل بن عِياض: الغناء رُقية الزنا.
وعن الضحاك: الغناء مَفسدة للقلب مَسخطة للرب.
وقال بعضهم: إياك والغناء؛ فإنه يزيد الشهوة ويهدم المروءة، وإنه لينوب عن الخمر، ويفعل ما يفعل السكر، وهذا الذي ذكره هذا القائل صحيح؛ لأن الطبع الموزون يفيق بالغناء والأوزان، ويستحسن صاحب الطبع عند السماع ما لم يكن يستحسنه من الفرقعة بالأصابع والتصفيق والرقص، وتصدر منه أفعال تدل على سخافة العقل.
(وروي) عن الحسن أنه قال: ليس الدف من سنة المسلمين، والذي نُقِل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سمع الشعر لا يدل على إباحة الغناء؛ فإن الشعر كلام منظوم، وغيره كلام منثور، فحسنه حسن وقبيحه قبيح، وإنما يصير غناءً بالألحان، وإن أنصف المنصف وتفكر في اجتماع أهل الزمان، وقعود المغني بدفه والمشبب بشبابته، وتصور في نفسه هل وقع مثل هذا الجلوس والهيئة بحضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وهل استحضروا أقوالًا وقعدوا مجتمعين لاستماعه؟ لا شك بأنه ينكر ذلك من حال رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ولو كان في ذلك فضيلة تُطْلب ما أهملوها، فمن يشير بأنه فضيلة تُطلب ويُجتمع لها لم يَحْظَ بذوق معرفة أحوال رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتابعين، واستروح إلى استحسان بعض المتأخرين ذلك، وكثيرًا ما يغلط الناس في هذا، وكلما احتج عليهم بالسلف الماضين يحتجون بالمتأخرين، وكان السلف أقرب إلى عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهديهم أشبه بهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكثير من الفقراء يستمع عند قراءة القرآن بأشياء من غير غلبة.
قال عبد الله بن عروة بن: الزبير قلت لجدتي أسماء بنت أبي بكر الصديق -رضي الله عنهما-: كيف كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعلون إذا قرئ عليهم القرآن؟ قالت: كانوا كما وصفهم الله تعالى؛ تدمع أعينهم، وتقشعر جلودهم، قال: قلت: إن ناسًا اليوم إذا قرئ عليهم القرآن خَرَّ أحدهم مغشيًّا عليه. قالت: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.
(وروي) أن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- مر برجل من أهل العراق يتساقط، قال: ما لهذا؟ قالوا: إنه إذا قرئ عليه القرآن وسمع ذكر الله تعالى سقط. فقال ابن عمر -رضي الله عنهما-: إنا لنخشى الله وما نسقط، إن الشيطان يدخل في جوف أحدهم، ما هكذا كان يصنع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وذُكِر عند ابن سيرين الذين يُصْرَعون إذا قرئ القرآن. فقال: بيننا وبينهم أن يقعد واحد منهم على ظهر بيت باسطًا رجليه، ثم يُقْرأ عليه القرآن من أوله إلى آخره، فإن رمى بنفسه فهو صادق، وليس هذا القول منهم إنكارًا على الإطلاق؛ إذ يتفق ذلك لبعض الصادقين، ولكن للتصنع المتوهم في حق الأكثرين، وقد يكون ذلك من البعض تصنعًا ورياءً، ويكون من البعض لقصور علم ومخامرة جهل ممزوج بهوًى يلم بأحدهم يسير من الوجد، فيتبعه بزياداتٍ، يجهل أن ذلك يضر بدينه، وقد لا يجهل أن ذلك من النفس، ولكن النفس تسترق السمع استراقًا خفيًّا، تخرج الوجد عن الحد الذي ينبغي أن يقف عليه، وهذا يباين الصدق.
(نُقِل) أن موسى عليه السلام وعظ قومه، فشق رجل منهم قميصه، فقيل لموسى عليه السلام: قل لصاحب القميص لا يشق قميصه، ويشرح قلبه.
وأما إذا انضاف إلى السماع أن يُسْمَع من أمردَ فقد توجهت الفتنة، وتعين على أهل الديانات إنكار ذلك. قال بقية بن الوليد: كانوا يكرهون النظر إلى الغلام الأمرد الجميل. وقال عطاء: كل نظرة يهواها القلب فلا خير فيها. وقال بعض التابعين: ما أنا أخوف على الشاب التائب من السبع الضاري خوفي عليه من الغلام الأمرد يقعد إليه. وقال بعض التابعين -أيضًا-: اللوطية على ثلاثة أصناف: صنف ينظرون، وصنف يصافحون، وصنف يعملون ذلك العمل.
فقد تعين على طائفة الصوفية اجتناب مثل هذه الجماعات، واتقاء مواضع التهم؛ فإن التصوف صدق كله وجد كله. يقول بعضهم: التصوف كله جد، فلا تخلطوه بشيء من الهزل، فهذه الآثار دلت على اجتناب السماع، وأخذ الحذر منه، والباب الأول بما فيه دل على جوازه بشروطه، وتنزيهه عن المكاره التي ذكرناها، وقد فصلنا القول، وفرقنا بين القصائد والغناء وغير ذلك، وكان جماعة من الصالحين لا يسمعون، ومع ذلك لا يُنْكِرون على من يسمع بنية حسنة، ويراعي الأدب فيه.