(الباب الخامس عشر في خصائص أهل الربط والصوفية فيما يتعاهدون ويختصون به)
اعلم أن تأسيس هذه الربط من زينة هذه الملة الهادية المهدية، ولسكان الربط أحوال تميزوا بها عن غيرهم من الطوائف، وهم على هدًى من ربهم، قال الله تعالى: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ﴾ [الأنعام: 90]، وما يُرى من التقصير في حق البعض من أهل زماننا، والتخلف عن طريق سلفهم لا يقدح في أصل أمرهم وصحة طريقهم، وهذا القدر الباقي من الأثر واجتماع المتصوفة في الربط، وما هيَّأَ الله تعالى لهم من الرفق بركةُ جمعية بواطن المشايخ الماضين، وأثرٌ من آثار مِنَحِ الحق في حقهم، وصورة الاجتماع في الربط الآن على طاعة الله، والترسم بظاهر الآداب عكس نور الجمعية من بواطن الماضين وسلوك الخلف في مناهج السلف، فهم في الربط كجسد واحد بقلوب متفقة، وعزائم متحدة، ولا يوجد هذا في غيرهم من الطوائف. قال الله تعالى في وصف المؤمنين: ﴿كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ﴾ [الصَّف: 4]، وبعكس ذلك وصف الأعداء، فقال: ﴿تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى﴾ [الحشر: 14].
(روى) النعمان بن بَشير قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنما المؤمنون كجسد رجل واحد، إذا اشتكى عضو من أعضائه اشتكى جسده أجمع، وإذا اشتكى مؤمن اشتكى المؤمنون». فالصوفية وظيفتهم اللازمة من حفظ اجتماعِ اجتماعِ البواطن، وإزالة التفرقة بإزالة شعث البواطن؛ لأنهم بنسبة الأرواح اجتمعوا، وبرابطة التأليف الإلهي اتفقوا، وبمشاهدة القلوب تواطئوا، ولتهذيب النفوس وتصفية القلوب في الرباط رابطوا، فلا بد لهم من التألف والتودد والنصح.
(روي) أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الْمُؤْمِنُ يَأْلَفُ ويؤلف، وَلَا خَيْرَ فِيمَنْ لَا يَأْلَفُ وَلَا يُؤْلَفُ».
(أخبرنا) أبو زرعة طاهر بن الحافظ أبي الفضل المقدسي عن أبيه قال: حدثنا أبو القاسم الفضل بن أبي حرب قال: أنا أحمد بن الحسين الحِيري قال: أن أبو سهل بن زياد القطان قال: حدثنا الحسين بن مُكْرَمٍ قال: حدثنا يزيد بن هارون الواسطي قال: حدثنا محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الأَرْوَاحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ، فَمَا تَعَارَفَ مِنْهَا ائْتَلَفَ، وَمَا تَنَاكَرَ مِنْهَا اخْتَلَفَ». فهم باجتماعهم تجتمع بواطنهم، وتتقيد نفوسهم؛ لأن بعضهم عين على البعض، على ما ورد: «الْمُؤْمِنُ مِرْآةُ الْمُؤْمِنِ». فأي وقت ظهر من أحدهم أثر التفرقة ناقروه؛ لأن التفرقة تظهر بظهور النفس، وظهور النفس من حق تضييع الوقت، فأي وقت ظهرت نفس الفقير علموا منه خروجه عن دائرة الجمعية، وحكموا عليه بتضييع حكم الوقت وإهمال السياسة وحسن الرعاية، فيقاد بالمناقرة إلى دائرة الجمعية.
(أخبرنا) شيخنا ضياء الدين أبو النجيب عبد القاهر السهروردي -إجازة- قال: أنا الشيخ العالم عصام الدين أبو حفص عمر بن أحمد بن منصور الصفار، قال: أنا أبو بكر أحمد بن خلف الشيرازي، قال: أنا الشيخ أبو عبد الرحمن محمد بن الحسين السلمي قال: سمعت محمد بن عبد الله، يقول: سمعت رُوَيْمًا، يقول: لا يزال الصوفية بخير ما تناقروا، فإذا اصطلحوا هلكوا. وهذه إشارة من رويم إلى حسن تفقد بعضهم أحوالَ بعض إشفاقًا من ظهور النفوس. يقول: إذا اصطلحوا أو رفعوا المناقرة من بينهم يُخَاف أن تخامر البواطن المساهلة المرآة، ومسامحة البعض البعضَ في إهمال دقيق آدابهم، وبذلك تظهر النفوس وتستولي.
وقد كان عمر بن الخطاب رضى الله عنه يقول: رحم الله امرأً أهدى إلى عيوبي.
(وأخبرنا) أبو زرعة عن أبيه الحافظ المقدسي، قال: أنا أبو عبد الله محمد بن عبد العزيز الهروي، قال: أنا عبد الرحمن بن أبي شُرَيْحٍ، قال: أنا أبو القاسم البغوي قال: حدثنا مصعب بن عبد الله الزبيري قال: حدثني إبراهيم بن سعد عن صالح عن ابن شهاب، أن محمد بن نعمان أخبر، بأن عمر قال في مجلسٍ فيه المهاجرون والأنصار: أرأيتم لو ترخصت في بعض الأمور ماذا كنتم فاعلين؟ قال: فسكتنا، قال: فقال ذلك مرتين أو ثلاثًا: أرأيتم لو ترخصت في بعض الأمور ماذا كنتم فاعلين؟ قال بشر بن سعد: لو فعلت ذلك قومناك تقويم القدح. فقال عمر: أنتم إذن أنتم. وإذا ظهرت نفس الصوفي بغضب وخصومة مع بعض الإخوان فشرط أخيه أن يقابل نفسه بالقلب؛ فإن النفس إذا قوبلت بالقلب انحسمت مادة الشر، وإذا قوبلت النفس بالنفس ثارت الفتنة، وذهبت العصمة، قال الله تعالى: ﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا﴾ [فصِّلت: 34، 35]، ثم الشيخ أو الخادم إذا شكا إليه فقيرٌ من أخيه فله أن يعاتب أيهما شاء، فيقول للمتعدي: لم تعديت؟ وللمعتدى عليه: ما الذي أذنبتَ حتى تعدى عليك؟ وسلط عليك؟ وهلا قابلت نفسه بالقلب رفقًا بأخيك وإعطاء للفتوة والصحبة حقها؟ فكل منهما جانٍ وخارجٌ عن دائرة الجمعية، فيُرَدُّ إلى الدائرة بالنقار، فيعود إلى الاستغفار، ولا يسلك طريق الإصرار.
روت عائشة -رضي الله عنها- قالت: كان يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهُمَّ اجْعَلْنِي مِنَ الَّذِينَ إِذَا أَحْسَنُوا اسْتَبْشَرُوا، وَإِذَا أَسَاءُوا اسْتَغْفَرُوا». فيكون الاستغفار ظاهرًا مع الإخوان، وباطنًا مع الله تعالى، ويرون الله في استغفارهم، فلهذا المعنى يقفون في صف النعال على أقدامهم تواضعًا وانكسارًا. وسمعت شيخنا يقول للفقير إذا جرى بينه وبين بعض إخوانه وَحْشَةٌ: قم واستغفر. فيقول الفقير: ما أرى باطني صافيًا، ولا أوثر القيام للاستغفار ظاهرًا من غير صفاء الباطن. فيقول: أنت قم، فببركة سعيك وقيامك ترزق الصفاء. فكان يجد ذلك، ويرى أثره عند الفقير، وتَرِقُّ القلوب وترتفع الوحشة. وهذا من خاصية هذه الطائفة، لا يبيتون والبواطن منطوية على وحشة، ولا يجتمعون للطعام والبواطن تضمر وحشة، ولا يرون الاجتماع ظاهرًا في شيء من أمورهم إلا بعد الاجتماع بالبواطن، وذهاب التفرقة والشعث، فإذا قام الفقير للاستغفار لا يجوز ردُّ استغفاره بحالٍ.
(روى) عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ارْحَمُوا تُرْحَمُوا، وَاغْفِرُوا يُغْفَرْ لَكُمْ».
(وللصوفية) في تقبيل يد الشيخ بعد الاستغفار أصل من السنة.
(روى) عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ قَالَ: كُنْتُ فِي سَرِيَّةٍ مِنْ سَرَايَا رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَحَاصَ النَّاسُ حَيْصَةً، فكنت فِيمَنْ حَاصَ، فَقُلْنَا: كَيْفَ نَصْنَعُ وَقَدْ فَرَرْنَا مِنَ الزَّحْفِ وَبُؤْنَا بِالْغَضَبِ؟ ثُمَّ قُلْنَا: لَوْ دَخَلْنَا الْمَدِينَةَ فتبنا فيها. ثُمَّ قُلْنَا: لَوْ عَرَضْنَا أَنَفُسَنَا عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَإِنْ كَانَ لَنا تَوْبَةٌ وَإِلَّا ذَهَبْنَا، فَأَتَيْنَاهُ قَبْلَ صَلَاةِ الْغَدَاةِ، فَخَرَجَ فَقَالَ: «مَنِ الْقَوْمُ؟» قُلْنَا: نَحْنُ الْفَرَّارُونَ، قال: «لَا، بَلْ أَنْتُمُ الْعَكَّارُونَ، أَنَا فِئَتُكُمْ، أَنَا فِئَةُ الْمُسْلِمِينَ». يقال: عَكَر الرجل إذا، والعَكَّار: العَطَّاف والرَّجَّاع، قال: فأتيناه حتى قبلنا يده. وروي أن أبا عبيدة بن الجراح تولى ثم كر راجعا قَبَّل يد عمر عند قدومه. وروي عن أبي مَرْثَد الغَنَوِي أنه قال: أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزلت إليه وقَبَّلت يده. فهذا رخصة في جواز تقبيل اليد، ولكن أدب الصوفي أنه متى رأى نفسه تتعزز بذلك أو تظهر بوصفها أن يمتنع من ذلك، فإن سلم من ذلك فلا بأس بتقبيل اليد، ومعانقتهم للإخوان عقيب الاستغفار لرجوعهم إلى الألفة بعد الوحشية، وقدومهم من سفر الهجرة بالتفرقة إلى أوطان الجمعية، فبظهور النفس تغرَّبوا وبعدوا، وبغيبة النفس والاستغفار قدموا وراجعوا، ومن استغفر إلى أخيه ولم يقبله فقد أخطأ، فقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك وَعِيدٌ روي عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: «مَنِ اعْتَذَرَ إِلَيه أخوه مَعْذِرَة فَلَمْ يَقْبَلْهَا كَانَ عَلَيْهِ مِثْلُ خَطِيئَةِ صَاحِبِ المكوس».
(وروى) جابر -أيضًا- عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من تنصل إليه فلم يَقبل لم يَرِد الحوض». ومن السنة أن يُقدِّم للإخوان شيئًا بعد الاستغفار، روي أن كعب بن مالك قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إن من توبتي أن أخلع من مالي كله، وأهجر دار قومي التي فيها أتيت الذنب، فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: «يجزيك من ذلك الثلث». فصارت سنة الصوفية المطالبة بالغرامة بعد الاستغفار والمناقرة، وكل قصدهم رعاية التآلف حتى تكون بواطنهم على الاجتماع، كما أن ظواهرهم على الاجتماع، وهذا أمر تفردوا به من بين طوائف الإسلام، ثم شرط الفقير الصادق إذا سكن الرباط وأراد أن يأكل من وقفه، أو مما يطلب لسكانه بالدروذة أن يكون عنده من الشغل بالله ما لا يسعه الكسب، وإلا إذا كان للبطالة والخوض فيما لا يعني عنده مجال، ولا يقوم بشروط أهل الإرادة من الجد والاجتهاد، فلا ينبغي له أن يأكل من مال الرباط بل يكتسب ويأكل من كسبه؛ لأن طعام الرباط لأقوام كَمُلَ شغلهم بالله، فخدمتهم الدنيا لشغلهم بخدمة مولاهم إلا أن يكون تحت سياسة شيخ عالم بالطريق، ينتفع بصحبته، ويهتدي بهديه، فيرى الشيخ أن يطعمه من مال الرباط، فلا يكون تصرف الشيخ إلا بصحة بصيرة، ومن جملة ما يكون للشيخ في ذلك من النية أن يشغله بخدمة الفقراء، فيكون ما يأكله في مقابلة خدمته.
(روي) عن أبي عمرو الزجاجي، قال: أقمت عند الجُنَيْد مدة فما رآني قط إلا وأنا مشتغل بنوع من العبادة، فما كلمني حتى كان يوم من الأيام خلا الموضع من الجماعة، فقمت ونزعت ثيابي، وكنست الموضع ونظفته، ورششته وغسلت موضع الطهارة، فرجع الشيخ ورأى عَلَيَّ أثر الغبار، فدعا لي ورحب بي، وقال: أحسنت، عليك بها. ثلاث مرات. ولا يزال مشايخ الصوفية يندبُون الشباب إلى الخدمة حفظًا لهم عن البطالة، وكل واحد يكون له حظ من المعاملة وحظ من الخدمة.
(روى) أبو محذورة قال: جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم لنا الأذان، والسقاية لبني هاشم، والحجابة لبني عبد الدار، وبهذا يقتدي مشايخ الصوفية في تفريق الخدم على الفقراء، ولا يُعْذَر في ترك نوع من الخدمة إلا كامل الشغل بوقته، ولا نعني بكامل الشغل شغل الجوارح، ولكن نعني به دوام الرعاية والمحاسبة، والشغل بالقلب والقالب وقتًا، وبالقلب دون القالب وقتًا، وتفقد الزيادة من النقصان؛ فإن قيام الفقير بحقوق الوقت شغلٌ تام، وبذلك يؤدي شكر نعمة الفراغ ونعمة الكفاية، وفي البطالة كفران نعمة الفراغ والكفاية.
(أخبرنا) شيخنا ضياء الدين أبو النجيب عبد القاهر -إجازة- قال: أنا عمر بن أحمد بن منصور، قال: أنا أحمد بن خلف، قال: أنا الشيخ أبو عبد الرحمن محمد بن الحسين قال: سمعت أبا الفضل بن حمدون، يقول: سمعت علي بن عبد الحميد الفضائري، يقول: سمعت السري، يقول: من لا يعرف قدر النعم سُلِبَها من حيث لا يعلم.
(وقد يُعْذَر) الشيخ العاجز عن الكسب في تناول طعام الرباط، ولا يُعْذَر الشاب هذا في شرط طريق القوم على الإطلاق، فأما من حيث فتوى الشرع فإن كان شرط الوقف على المتصوفة وعلى من تزيا بزي المتصوفة وعلى خرقتهم فيجوز أكل ذلك لهم على الإطلاق فتوى، وفي ذلك القناعة بالرخصة دون العزيمة التي هي شغل أهل الإرادة، وإن كان شرط الوقف على من يسلك طريق الصوفية عملًا وحالًا فلا يجوز أكله لأهل البطالات، والراكنين إلى تضييع الأوقات، وطرقُ أهل الإرادة عند مشايخ الصوفية مشهورة.
(أخبرنا) الشيخ الثقة أبو الفتح، قال: أنا أبو الفضل حُمَيْدٌ، قال: أنا الحافظ أبو نُعَيْم ،قال: حدثنا أبو العباس أحمد بن محمد بن يوسف قال: حدثنا جعفر الفرياني قال: حدثنا محمد بن الحسين البلخي -بسمرقند- قال: حدثنا عبد الله بن المبارك قال: حدثنا سعيد بن أبي أيوب الخزاعي قال: حدثنا عبد الله بن الوليد عن أبي سليمان الليثي عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «مَثَلُ الْمُؤْمِنِ كَمَثَلِ الْفَرَسِ فِي آخِيَّتِهِ، يَجُولُ ويرجع إِلَى آخِيَّتِهِ، وَإِنَّ الْمُؤْمِنَ يَسْهُو ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى الإِيمَانِ، فَأَطْعِمُوا طَعَامَكُمُ الأَتْقِيَاءَ، وَأَوْلُوا مَعْرُوفَكُمُ الْمُؤْمِنِينَ».