(الباب الثاني عشر في شرح خِرْقَةِ المشايخِ الصوفيةِ)
لبس الخرقة ارتباطٌ بين الشيخ وبين المريد، وتحكيم من المريد للشيخ في نفسه، والتحكيمُ سائغٌ في الشرع لمصالح دنيوية، فماذا ينكر المنكِر للبس الخرقة على طالبٍ صادق في طلبه، يَتَقَصَّد شيخًا بحسن ظن وعقيدةٍ، يُحَكِّمُه في نفسه لمصالح دينه، يُرْشِدُه ويهديه ويُعَرِّفُه طريق المواجيد، ويُبَصِّرُه بآفات النفوس، وفساد الأعمال، ومداخل العدو، فيسلم نفسه إليه، ويستسلم لرأيه واستصوابه في جميع تصاريفِه، فيلبسه الخرقة إظهارًا للتصرف فيه، فيكون لبس الخرقة علامة التفويض والتسليم، ودخولُه في حكم الشيخ دخولَه في حكم الله وحكم رسوله، وإحياءَ سُنَّةِ المبايعة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(أخبرنا) أبو زرعة قال: أخبرني والدي الحافظ المقدسي قال: أنا أبو الحسين أحمد بن محمد البزَّار قال: أنا أحمد بن محمد -أخي ميمي- قال: حدثنا يحيى بن محمد بن صاعد قال: حدثنا عمرو بن علي بن حفظة قال: سمعتُ عبد الوهَّاب الثقفي يقول: سمعت يحيى بن سعيد يقول: حدثني عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت قال: أخبرني أبي عن أبيه قال: «بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في العسر واليسر، والمنشط والمكره، وأن لا ننازع الأمر أهله، وأن نقول بالحق حيث كنا، ولا نخاف في الله لومة لائم»؛ ففي الخرقة معنى المبايعةِ والخرقة عتبة الدخول في الصحبة، والمقصود الكلي هو الصحبة، وبالصحبة يرجى للمريدِ كلُّ خير.
(روي) عن أبي يزيد أنه قال: من لم يكنْ له أستاذ فإمامه الشيطان.
(وحكى) الأستاذ أبو القاسم القشيري عن شيخِه أبي علي الدقاق أنه قال: الشجرة إذا نبتت بنفسها من غيرِ غارس فإنها تورق ولا تثمر، وهو كما قال، ويجوز أنها تثمر كالأشجار التي في الأودية والجبال، ولكن لا يكون لفاكهتها طعم فاكهة البساتين، والغرس إذا نقل من موضع إلى موضع آخر يكون أحسنَ حالًا وأكثرَ ثمرةً؛ لدخول التصرف فيه، وَقَد اعتبر الشرع وجود التعليم في الكلب المُعَلَّم، وأحل ما يقتله بخلاف غير المُعَلَّم.
(وسمعتُ) كثيرًا من المشايخ يقولون: من لم يرَ مفلحًا لا يفلح، ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوةٌ حسنةٌ، وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تَلَقَّوُا العلوم والآداب من رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما روي عن بعض الصحابة: «عَلَّمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم كل شيء حتى الخراءة»، فالمريد الصادقُ إذا دخل تحت حكم الشيخ وصحبه وتأدب بآدابه يسري من باطن الشيخ حالٌ إلى باطن المريد، كسراج يَقْتَبِس من سراج، وكلام الشيخ يُلقِّح باطن المريدِ، ويكون مقالُ الشيخ مستودعَ نفائسِ الحال، وينتقل الحال من الشيخ إلى المريد بواسطة الصحبةِ وسماع المقال، ولا يكون هذا إلا لمريدٍ حصر نفسه مع الشيخ، وانسلخ من إرادة نفسه، وفَنِيَ في الشيخ بترك اختيار نفسِه، فبالتألف الإلهي يصير بين الصاحب والمصحوب امتزاجٌ وارتباطٌ بالنسبة الروحية والطهارة الفطرية، ثم لا يزال المريدُ مع الشيخ كذلك متأدبًا بترك الاختيار حتى يرتقي من ترك الاختيار مع الشيخ إلى ترك الاختيار مع الله تعالى، ويفهم من الله كما كان يفهم من الشيخ، ومبدأ هذا الخبر كله الصحبةُ والملازمة للشيوخ، والخرقة مقدمة ذلك.
ووجه لبس الخرقة من السُّنَّةِ ما أخبرنا الشيخ أبو زرعة عن أبيه الحافظ أبي الفضل المقدسي قال: أنا أبو بكر أحمد بن علي بن خلف الأديب النيسابوري قال: أنا الحاكم أبو عبد الله محمد بن عبد الله الحافظ قال: أنا محمد بن إسحاق قال: أنا أبو مسلم إبراهيم بن عبد الله المصري قال: حدثنا أبو الوليد قال: حدثنا إسحاق بن سعيد قال: حدثنا أبي قال: حدثتني أم خالد بنت خالد قالت: أُتِيَ النبي عليه السلام بثياب فيها خميصةٌ سوداء صغيرة، فقال: «مَنْ تَرَوْنَ أكسو هذه؟». فسكت القوم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ائْتُونِي بِأُمِّ خَالِدٍ». قالت: فأُتِي بي، فألبسَنيها بيده. فقال: «أَبْلِي وَأَخْلِقِي». يقولها مرتين، وجعل ينظر إلى علمٍ في الخميصة أصفر وأحمر، ويقول: «يَا أُمَّ خَالِدٍ هَذَا سَنَاهْ». والسناه: هو الحسن بلسان الحبشية، ولا خفاء أن لبس الخرقة على الهيئة التي يعتمدها الشيوخ في هذا الزمان لم يكن في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذه الهيئة والاجتماع لها والاعتداد بها من استحسان الشيوخ، وأصله من الحديث ما رُوِّيناه، والشاهد لذلك أيضًا التحكيم الذي ذكرناه، وأي اقتداءٍ برسول الله صلى الله عليه وسلم أتمُّ وآكدُ من الاقتداء به في دعاء الخلق إلى الحق.
وقد ذكر الله تعالى في كلامه القديم تحكيمَ الأمة رسول الله صلى الله عليه وسلم وتحكيمَ المريد شيخَه إحياء سنة ذلك التحكيم، قال الله تعالى: ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [النساء: 65]. وسبب نزول هذه الآية: أن الزبيرَ بن العوام رضى الله عنه اختصم هو وآخر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في شِراج من الحرة، والشِّراج: مسيل الماء، كان يسقيان به النخل، فقال النبي عليه السلام للزبير: «اسق يا زبير، ثم أرسل الماء إلى جارك». فغضب الرجل، وقال: قضى رسول الله لابن عمته، فأنزل الله تعالى هذه الآية، يُعَلِّم فيها الأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشرط عليهم في الآية التسليم وهو الانقياد ظاهرًا، ونفى الحرج وهو الانقياد باطنًا، وهذا شرط المريد مع الشيخ بعد التحكيم.
فلبس الخرقة يزيل اتهام الشيخ عن باطنه في جميع تصاريفه، ويحذر الاعتراض على الشيوخ؛ فإنه السم القاتل للمريدين، وقل أن يكون المريد يعترض على الشيخ بباطنه فيفلح، ويذكر المريد في كل ما أشكل عليه من تصاريف الشيخ قصةَ موسى مع الخضِر —، كيف كان يصدر من الخضر تصاريف ينكرها موسى، ثم لما كشف له عن معناها بان لموسى وجه الصواب في ذلك، فهكذا ينبغي للمريد أن يعلمَ أن كل تصرفٍ أشكل عليه صحته من الشيخ، عند الشيخ فيه بيانٌ وبرهانٌ للصحةِ، ويدُ الشيخ في لبس الخرقة تنوبُ عن يد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتسليمُ المريد له تسليمٌ لله ورسولِه.
قال الله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللهَ يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ﴾ [الفتح: 10]، ويأخذ الشيخ على المريد عهد الوفاء بشرائط الخرقة، ويعرفه حقوق الخرقة، فالشيخ للمريد صورةٌ يستشف المريد من وراء هذه الصورة المُطَالَباتِ الإلهية والمراضي النبوية، ويعتقد المريد أن الشيخ بابٌ فتحه الله تعالى إلى جناب كرمه، منه يدخل، وإليه يرجع، ويُنْزِلُ بالشيخ سوانحَه ومهامَّه الدينيَّة والدنيويةَ، ويعتقدُ أن الشيخ ينزلِ بالله الكريم ما ينزل المريد به، ويرجع في ذلك إلى الله للمريد، كما يرجع المريد إليه، وللشيخ باب مفتوح من المكالمة والمحادثة في النوم واليقظة، فلا يتصرفُ الشيخ في المريد بهواه، فهو أمانة الله عنده، ويستغيث إلى الله بحوائج المريد، كما يستغيث بحوائج نفسه ومهام دينه ودنياه، قال الله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا﴾ [الشُّورى: 51]. فإرسال الرسول يختص بالأنبياء، والوحي كذلك، والكلام من وراءِ حجاب بالإلهام والهواتفِ والمنام وغير ذلك للشيوخِ والراسخين في العلم.
(واعلم) أن للمريدين مع الشيوخ أوانُ ارتضاعٍ وأوانُ فطام، وقد سبق شرحُ الولادة المعنوية، فأوان الارتضاع أوان لزوم الصحبة، والشيخ يعلم وقت ذلك فلا ينبغي للمريدِ أن يفارق الشيخ إلا بإذنه.
قال الله تعالى تأديبًا للأمَّة: ﴿إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ﴾ [النور: 62]. وأي أمرٍ جامع أعظم من أمر الدين، فلا يأذن الشيخ للمريد في المفارقة إلا بعد علمه بأن آن له أوان الفطام، وأنه يقدر أن يستقل بنفسه، واستقلاله بنفسه أن يفتح له باب الفهم من الله تعالى، فإذا بلغ المريد رتبةَ إنزال الحوائج والمهام بالله، والفهم من الله تعالى بتعريفاته وتنبيهاته -سبحانه وتعالى- لعبده السائل المحتاج فقد بلغ أوان فطامه، ومتى فارق قبل أوان الفطام يناله من الإعلال في الطريق بالرجوع إلى الدنيا متابعة الهوى ما ينال المفطوم لغير أوانه في الولادة الطبيعية، وهذا التلازم بصحبة المشايخ للمريد الحقيقي، والمريد الحقيقي يلبس خرقة الإرادة، واعلم أن الخرقة خرقتان: خرقة الإرادة، وخرقة التبرك، والأصلُ الذي قصده المشايخ للمريدين خرقة الإرادة، وخرقة التبرك تشبه بخرقة الإرادة؛ فخرقة الإرادة للمريد الحقيقي، وخرقة التبرك للمتشبه، ومن تشبه بقوم فهو منهم.
وسر الخرقة أن الطالبَ الصادق إذا دخل في صحبةِ الشيخ، وسلم نفسه، وصار كالولد الصغير مع الوالد يربيه الشيخ بعلمه المستمَد من الله تعالى بصدقِ الافتقار وحسن الاستقامة، ويكون للشيخ بنفوذ بصيرته الإشراف على البواطن، فقد يكونُ المريد يلبس الخَشِنَ كثياب المتقشفين المتزهدين، وله في تلك الهيئة من الملبوسِ هوًى كامنٌ في نفسه؛ ليرى بعين الزهادة، فأشد ما عليه لبس الناعم، وللنفس هوًى واختيار في هيئة مخصوصة من الملبوس في قِصَرِ الكُمِّ والذيل وطوله وخشونته ونعومته على قدر حسبانها وهواها، فيلبس الشيخ مثل هذا الراكن لتلك الهيئةِ ثوبًا يكسر بذلك على نفسِه هواها وعرضها.
وقد يكون على المريد ملبوسٌ ناعم، أو هيئة في الملبوس يشرئب النفس إلى تلك الهيئة بالعادة، فيُلبسه الشيخ ما يخرج النفس من عادتها وهواها، فتصرف الشيخ في الملبوس كتصرفه في المطعوم، وكتصرفه في صوم المريد وإفطاره، وكتصرفه في أمر دينه إلى ما يرى له من المصلحة من دوام الذكر، ودوام التنفل في الصلاة، ودوام التلاوة، ودوام الخدمة، وكتصرفه فيه بِرَدِّه إلى الكسب أو الفتوح أو غير ذلك، فللشيخ إشرافٌ على البواطن، وتنوع الاستعدادات، فيأمر كل مريد من أمر معاشه ومعاده بما يصلح له، ولتنوع الاستعدادات تنوعت مراتب الدعوة.
قال الله تعالى: ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ [النحل: 125]. فالحكمة رتبة في الدعوة، والموعظة كذلك، والمجادلة كذلك، فمن يدعى بالحكمة لا يدعى بالموعظة، ومن يدعى بالموعظة لا تصلح دعوته بالحكمة، فهكذا الشيخ يعلم من هو على وضع الأبرار، ومن هو على وضع المقربين، ومن يصلح لدوام الذكر، ومن يصلح لدوام الصلاة، ومن له هوًى في التخشن أو في التنعم، فيخلع المريد من عادته، ويخرجه من مضيق هوى نفسه، ويطعمه باختياره، ويلبسه باختياره ثوبًا يصلح له وهيئة تصلح له، ويداوي بالخرقة المخصوصة والهيئة المخصوصة داءَ هواه، ويتوخى بذلك تقريبَه إلى رضا مولاه، فالمريد الصادق الملتهب باطنُه بنارِ الإرادة في بدء أمره وَحِدَّة إرادته كالملسوع الحريص على من يرقبه ويداويه، فإذا صادف شيخًا انبعث من باطن الشيخ صدق العناية به لاطلاعه عليه، وينبعث من باطن المريد صدق المحبة بتألف القلوب، وتشام الأرواح، وظهور سر السابقة فيهما باجتماعهما لله وفي الله وبالله، فيكون القميص الذي يلبس المريد خرقة تبشر المريدَ بحسن عناية الشيخ به، فيعملُ عند المريد عملَ قميصِ يوسف عند يعقوبَ عليهما السلام.
(وقد نُقِلَ): إن إبراهيم الخليل عليه السلام حينَ أُلقي في النار جُرِّدَ من ثيابِه، وقُذِف في النار عريانًا، فأتاه جبريلُ عليه السلام بقميصٍ من حرير الجنَّة، وألبسه إياه، وكان ذلك عند إبراهيمَ عليه السلام، فلمَّا مات ورِثَه إسحاق، فلما مات ورثه يعقوب، فجعل يعقوب عليه السلام ذلك القميص في تعويذٍ، وجعلَه في عنق يوسف، فكان لا يفارقُه، لما أُلقي في البئر عريانًا جاءه جبريل -وكان عليه التعويذ- فأخرج القميص منه، وألبسه إياه.
(أخبرنا) الشيخُ العالم رضيُّ الدين أحمد بن إسماعيل القزويني -إجازةً- قال: أنا أبو سعد محمد بن أبي العباس قال: أنا القاضي محمد بن سعيد قال: أنا أبو إسحاق أحمد بن محمد قال: أخبرني ابن فنجويه الحسين بن محمد قال: حدثنا مخلد بن جعفر قال: حدثنا الحسن بن علويه قال: حدثنا إسماعيل بن عيسى قال: حدثنا إسحاق بن بشر عن ابن السُّدِّي عن أبيه عن مجاهد قال: كان يوسف عليه السلام أعلمَ بالله تعالى من ألَّا يعلم أن قميصه لا يرد على يعقوب بصره، ولكن ذاك كان قميص إبراهيم، وذكر ما ذكرناه، قال: فأمره جبرائيل: أن أرسلْ بقميصك؛ فإن فيه ريح الجنة، لا يقع على مبتلًى أو سقيمٍ إلا صح وعوفي.
فتكون الخرقةُ عند المريد الصادق متحملةً إليه عَرْفَ الجنة؛ لما عنده من الاعتداد بالصحبة لله، ويرى لبس الخرقة من عناية الله به، وفضل من الله.
فأما خرقة التبرك فيطلبها مَن مقصوده التبرك بزي القوم، ومثل هذا لا يُطَالَب بشرائط الصحبة، بل يوصى بلزوم حدود الشرع، ومخالطة هذه الطائفة؛ ليعود عليه بركتهم ويتأدبَ بآدابهم، فسوف يرقيه ذلك إلى الأهليةِ لخرقة الإرادة.
فعلى هذا خرقة التبرك مبذولة لكل طالب، وخرقة الإرادة ممنوعة إلا من الصادق الراغب، ولبس الأزرق من استحسان الشيوخِ في الخرقة، فإن رأى شيخ أن يلبس مريدًا غير الأزرق فليس لأحد أن يعترض عليه؛ لأن المشايخ آراؤهم فيما يفعلون بحكم الوقت.
(وكان) شيخُنا يقول: كان الفقيرُ يلبس قصير الأكمام؛ ليكون أعون على الخدمة، ويجوز للشيخ أن يلبس المريد خِرَقًا في دفعات على قدر ما يتلمح من المصلحة للمريد في ذلك -على ما أسلفناه من تداوي هواه في الملبوس والملون- فيختار الأزرق؛ لأنه أوفق للفقير لكونه يحملُ الوسخ، ولا يحوج إلى زيادة الغسل لهذا المعنى فحسب، وما عدا هذا من الوجوه التي يذكرُها بعض المتصوفة في ذلك كلامٌ إقناعيٌّ من كلام المتصنعين ليسَ من الدين والحقيقة بشيءٍ.
(سمعت) الشيخ سديد الدين أبا الفخر الهمْداني -رحمه الله- قال: كنت ببغداد عند أبي بكر الشروطي، فخرج إلينا فقير من زاويته عليه ثوب وسخ، فقال له بعض الفقراء، لم لا تغسل ثوبك؟ فقال: يا أخي ما أتفرغ، فقال الشيخ أبو الفخر: لا أزال أتذكر حلاوة قول الفقير ما أتفرغ؛ لأنه كان صادقًا في ذلك، فأجد لذة لقوله، وبركة بتذكاري ذلك، فاختاروا الملون لهذا المعنى؛ لأنهم من رعاية وقتهم في شغل شاغلٍ، وإلا فأي ثوب ألبس الشيخُ المريدَ من أبيضَ وغيرِ ذلك فللشيخ ولاية ذلك بحسن مقصده ووفور علمه، وقد رأينا من المشايخ من لا يُلبس الخرقة ويسلك بأقوام من غير لبس الخرقة، ويؤخذ منه العلوم والآداب، وقد كان طبقة من السلفِ الصالحين لا يعرفون الخِرقة، ولا يُلبسونها المريدين، فمن يلبسها فله مقصد صحيح، وأصلٌ من السنة، وشاهدٌ من الشرع، ومن لا يلبسها فله رأيه، وله في ذلك مقصد صحيح، وكل تصاريف المشايخ محمولةٌ على السداد والصواب، ولا تخلو عن نيةٍ صالحةٍ فيه، والله تعالى ينفع بهم وبآثارهم، إن شاء الله تعالى.