(الباب الثاني والثلاثون في آداب الحضرة الإلهية لأهل القرب)
كل الآداب تتلقى من رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإنه عليه السلام مجمع الآداب ظاهرًا وباطنًا، وأخبر الله تعالى عن حسن أدبه في الحضرة بقوله تعالى: ﴿مَا زَاغَ البَصَرُ وَمَا طَغَى﴾ [النَّجم: 17].
وهذه غامضة من غوامض الآداب، اختص بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، أخبر الله تعالى عن اعتدال قلبه المقدس في الإعراض والإقبال، أعرض عما سوى الله، وتوجه إلى الله وترك وراء ظهره الأرضين والدار العاجلة بحظوظها، والسماوات والدار الآخرة بحظوظها، فما التفت إلى ما أعرض عنه، ولا لحقه الأسف على الغائب في إعراضه، قال الله تعالى: ﴿لِكَيْ لَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ﴾ [الحديد: 23].
فهذا الخطاب للعموم، و﴿مَا زَاغَ البَصَرُ﴾ إخبار عن حال النبي عليه السلام بوصف خاص من معنى ما خاطب به العموم، فكان ما زاغ البصر حاله في طرف الإعراض، وفي طرف الإقبال تلقى ما ورد عليه في مقام قاب قوسين بالروح والقلب، ثم فر من الله تعالى؛ حياء منه وهيبة وإجلالًا، وطوى نفسه بفراره في مطاوي انكساره وافتقاره لكيلا تنبسط النفس فتطغى، فإن الطغيان عند الاستغناء وصف النفس.
قال الله تعالى: ﴿كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (٦) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى﴾ [العلق: 6، 7]، والنَّفس عند المواهب الواردة على الروح والقلب تسترق السمع، ومتى نالت قسطًا من المنح استغنت وطغت، والطغيان يظهر منه فرط البسط، والإفراط في البسط يسدُّ باب المزيد وطغيان النفس لضيق وعائها عن المواهب، فموسى — صح له في الحضرة أحد طرفي ما زاغ البصر، وما التفت إلى ما فاتَه، وما طغى متأسفًا لحسن أدبه، ولكن امتلأ من المِنَحِ، واسترقت النفس السمع، وتطلعت إلى القسط والحظ، فلما حظيت النفس استغنت وطفح عليها ما وصل إليها، وضاق نطاقها، فتجاوز الحد من فرط البسط، وقال: أرني أنظر إليك، فمنع ولم يطلق في فضاء المزيد، وظهر الفرق بين الحبيب والكليم عليهما السلام، وهذه دقيقة لأرباب القرب والأحوال السنية، فكل قبض بوجد عقوبة؛ لأن كل قبض سد في وجه باب الفتوح، والعقوبة بالقبض أوجبت الإفراط في البسط، ولو حصل الاعتدال في البسط ما جبت العقوبة بالقبض، والاعتدال في البسط بإيقاف النازل من المنح على الروح والقلب، والإيقاف على الروح والقلب بما ذكرناه من حال النبي عليه السلام من تغييب النفس في مطاوي الانكسار، فذلك الفرار من الله إلى الله، وهو غاية الأدب، حظي به رسول الله -عليه الصلاة والسلام- فما قوبل بالقبض، فدام مزيده وكان قاب قوسين أو أدنى.
ويشاكل الشرح الذي شرحناه قول أبي العباس ابن عطاء في قوله تعالى: ﴿مَا زَاغَ البَصَرُ وَمَا طَغَى﴾ [النَّجم: 17]، قال: لم يرَه بطغيان يُميل، بل رآه على شروط اعتدال القوى.
وقال سهل بن عبد الله التستري: لم يرجعْ رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى شاهد نفسِه ولا إلى مشاهدتها، وإنما كان مشاهدًا بكليَّته لربه يشاهد ما يظهر عليه من الصفاتِ التي أوجبت الثبوتَ في ذلك المحل، وهذا الكلام لمن اعتبر موافق لما شرحناه برمز في ذلك عن سهل بن عبد الله.
ويؤيد ذلك أيضًا ما أخبرنا به شيخنا ضياء الدين أبو النجيب السهروردي -إجازة- قال: أنا الشيخ العالم عصام الدين أبو حفص عمر بن أحمد بن منصور الصفار النيسابوري قال: أنا أبو بكر أحمد بن خلف الشيرازي قال: أنا الشيخ أبو عبد الرحمن السلمي قال: سمعت أبا نصر بن عبد الله بن علي السراج قال: أنا أبو الطيب العكي عن أبي محمد الجريري قال: التسرع إلى استدراك علم الانقطاع وسيلة، والوقوف على حد الانحسار نجاة، واللياذ بالهرب من علم الدنو وصلة، واستقباح ترك الجواب ذخيرة، والاعتصام من قبول دواعي استماع الخطب تكلف، وخوف فوت علم ما انطوى من فصاحة الفهم في حيز الإقبال مساءة، والإصغاء إلى تلقي ما ينفصل عن معدنه بُعْدٌ، والاستسلام عند التلاقي جراءة، والانبساط في محل الأنس غرة، وهذه الكلمات كلُّها من آداب الحضرة لأربابها.
وفي قوله تعالى: ﴿مَا زَاغَ البَصَرُ وَمَا طَغَى﴾ [النَّجم: 17] وجه آخر ألطف مما سبق؛ ما زاغ البصر: حيث لم يتخلف عن البصيرة ولم يتقاصر، وما طغى: لم يسبق البصر البصيرة، فيتجاوز حده، ويتعدى مقامه، بل استقام البصرُ مع البصيرة، الظاهر مع الباطن، والقلب مع القالب، والنظر مع القدم، ففي تقدم النظر على القدم طغيان، والمعنى بالنظر علم، وبالقدم حال القالب، فلم يتقدم النظر على القدم فيكون طغيانًا، ولم يتخلف القدم عن النظر فيكون تقصيرًا، فلما اعتدلت الأحوال وصار قلبه كقالبه، وقالبه كقلبه، وظاهره كباطنه، وباطنه كظاهره، وبصره كبصيرته، فحيث انتهى نظره وعلمه قارنه قدمه وحاله؛ ولهذا المعنى انعكس حكم معناه ونوره على ظاهره، وأتى البراق ينتهي خطوه حيث ينتهي نظره، لا يتخلف قدم البراق عن موضع نظره، كما جاء في حديث المعراج، فكان البراق بقالبه مشاكلًا لمعناه، ومتصفًا بصفته لقوة حاله ومعناه.
وأشار في حديث المعراج إلى مقامات الأنبياء، ورأى في كل سماء بعض الأنبياء إشارة إلى تعويقهم وتخلفهم عن شأوه ودرجته، ورأى موسى في بعض السماوات، فمن هو في بعض السماوات يكون قوله: أرني أنظر إليك تجاوزًا للنظر عن حد القدم، وتخلفًا للقدم عن النظر وهذا باهو الإخلال حد الوصفين من قوله تعالى: ﴿مَا زَاغَ البَصَرُ وَمَا طَغَى﴾ [النَّجم: 17]. فرسول الله حمل مقترنًا قدمه ونظره في حجال الحياء والتواضع، ناظرًا إلى قدمه، قادمًا على نظره، ولو خرج عن حجال الحياء والتواضع، وتطال بالنظر متعديًّا حد القدم تعوق في بعض السماوات، كتعوق غيره من الأنبياء، فلم يزل صلى الله عليه وسلم متجلسَ حجاله في خفارة أدب حاله حتى خرق حجب السماوات، فانصبت إليه أقسام القرب انصبابًا، وانقشعت عنه سحائب الحجب حجابًا حجابًا، حتى استقام على صراط ما زاغ البصر وما طغى، فمر كالبرق الخاطف إلى مخدع الوصل واللطائف، وهذا غاية في الأدب، ونهاية في الأرب.
(قال) أبو محمد بن رويم حين سئل عن أدب المسافر، فقال: لا يجاوز همه قدمه، فحيث وقف قلبه يكون مقره.
(أخبرنا) شيخنا ضياء الدين أبو النجيب -إجازة- قال: أنا عمر بن أحمد قال: أنا أبو بكر بن خلف قال: أنا أبو عبد الرحمن السلمي قال: حدثنا القاضي أبو محمد يحيى بن منصور قال: حدثنا أبو عبد الله محمد بن علي الترمذي قال: حدثنا محمد بن رزام الأُبلي قال: حدثنا محمد بن عطاء الهجيمي قال: حدثنا محمد بن نصير عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس قال: تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: ﴿رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ﴾ [الأعراف: 143]، قال: «قال يا موسى إنه لا يراني حي إلا مات، ولا يابس إلا تدهده، ولا رطب إلا تفرق، إنما يراني أهل الجنة الذين لا تموت أعينهم، ولا تبلى أجسادهم».
ومن آداب الحضرة ما قال الشبلي: الانبساط بالقول مع الحق ترك الأدب، وهذا يختص ببعض الأحوال والأشياء دون البعض ليس هو على الإطلاق؛ لأن الله تعالى أمر بالدعاء، وإنما الإمساك عن القول كما أمسك موسى عن الانبساط في طلب المآرب والحاجات الدنيوية حتى رفعه الحق مقامًا في القربِ، وأذن له في الانبساط، وقال: اطلب مني ولو ملحًا لعجينك. فلما بسط انبسط، وقال: ﴿رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ﴾ [القصص: 24]؛ لأنه كان يسأل حوائج الآخرة، ويستعظم الحضرة أن يسأل حوائج الدنيا لحقارتها، وهو في حجاب الحشمة عن سؤال المحقرات؛ ولهذا مثال في الشاهد، فإن الملك المعظم يسأل المعظمات، ويحتشم في طلب المحقرات، فلما رفع بساط حجاب الحشمة صار في مقام خاصٍّ من القرب، يسأل الحقير كما يسأل الخطير.
قال ذو النون المصري: أدب العارف فوق كل أدب؛ لأن معروفه مؤدب قلبه.
وقال بعضهم يقول الحق سبحانه وتعالى: من ألزمته القيام مع أسمائي وصفاتي ألزمته الأدب، ومن كشفت له عن حقيقة ذاتي ألزمته العطب، فاختر أيهما شئت، الأدب أو العطب.
وقول القائل هذا يشير إلى أن الأسماء والصفات تستقل بوجود محتاج إلى الأدب لبقاء رسوم البشرية وحظوظ النفس، ومع لمعان نور عظمة الذات تتلاشى الآثار بالأنوار ويكون معنى العطب التحقق بالفناء، وفي ذلك العطب نهاية الأرب.
(وقال) أبو علي الدقاق في قوله تعالى: ﴿وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾ [الأنبياء: 83]. لم يقل ارحمني؛ لأنه حفظ أدب الخطاب.
وقال عيسى عليه السلام: ﴿إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ﴾ [المائدة: 116]، ولم يقل لم أقل؛ رعاية لأدب الحضرة.
وقال أبو نصر السرَّاج: أدب أهل الخصوصية من أهل الدين في طهارة القلوب، ومراعاة الأسرار، والوفاء بالعهود، وحفظ الوقت وقلة الالتفات إلى الخواطر والعوارض والبوادي والعوائق، واستواء السر والعلانية، وحسن الأدب في مواقف الطلب ومقامات القرب وأوقات الحضور، والأدب أدبان: أدب قولٍ، وأدب فعل، فمن تقرب إلى الله تعالى بأدب فعله منحه محبةَ القلوب.
(قال ابن المبارك): نحن إلى قليل من الأدبِ أحوج منا إلى كثير من العلم، وقال أيضًا: الأدب للعارف بمنزلة التوبة للمستأنف.
وقال النوري: من لم يتأدب للوقت فوقته مقت، وقال ذو النون: إذا خرج المريد عن حد استعمال الأدب فإنه يرجع من حيث جاء، وقال ابن المبارك أيضًا: قد أكثر الناس في الأدب، ونحن نقول هو معرفة النفس، وهذه إشارة منه إلى أن النفس هي منبع الجهالات، وترك الأدب من مخامرة الجهل، فإذا عرف النفس صادف نور العرفان، على ما ورد: «من عرف نفسه فقد عرف ربه»؛ ولهذا النور لا تظهر النفس بجهالة إلا ويقمعها بصريح العلم، وحينئذٍ يتأدب، ومن قام بآداب الحضرة فهو بغيرها أقوم، وعليها أقدر.