(الباب السابع عشر فيما يحتاج إليه الصوفي في سفره من الفرائض والفضائل)
فأما من الفقه -وإن كان هذا يذكر في كتب الفقه وهذا الكتاب غير موضوع لذلك، ولكن نقول على سبيل الإيجاز تيمنًا بذكر الأحكام الشرعية التي هي الأساس الذي يبنى عليه- لا بد للصوفي المسافر من علم التيمم والمسح على الخفين، والقصر والجمع في الصلاة.
(أما التيمم) فجائز للمريض والمسافر في الجنابة والحدث عند عدم الماء، أو الخوف من استعماله تلفًا في النفس أو المال أو زيادةً في المرض، على القول الصحيح من المذاهب، أو عند حاجته إلى الماء الموجود؛ لعطشه أو عطش دابته أو رفيقه، ففي هذه الأحوال كلها يصلي بالتيمم، ولا إعادة عليه، والخائف من البرد يصلي بالتيمم، ويعيد الصلاة على الأصح، ولا يجوز التيمم إلا بشرط الطلب للماء في مواضع الطلب، ومواضع الطلب مواضعُ تردد المسافر في منزله للاحتطاب والاحتشاش، ويكون الطلب بعد دخول الوقت، والسفرُ القصير في ذلك كالطويل، وإن صلى بالتيمم مع تيقن الماء في آخر الوقت جاز على الأصح، ولا يعيد مهما صلى بالتيمم وإن كان الوقت باقيًا، ومهما توهم وجودَ الماء بَطُل تيممه، كما إذا طلع ركب أو غير ذلك، وإن رأى الماء في أثناء الصلاة لا تبطل صلاته، ولا تلزمه الإعادة، ويستحب له الخروج منها، واستئنافها بالوضوء على الأصح، ولا يتيمم للفرض قبل دخول الوقت.
ويتيمم لكل فريضة، ويصلي مهما شاء من النوافل بتيمم واحد، ولا يجوز أداء الفرض بتيمم النافلة، ومن لم يجد ماءً ولا ترابًا يصلي ويعيد عند وجود أحدهما، ولكن إن كان مُحْدِثًا لا يمس المصحف، وإن كان جُنُبًا لا يقرأ القرآن في الصلاة، بل يذكر الله تعالى عِوَضَ القراءة، ولا يتيممُ إلا بترابٍ طاهرٍ غيرِ مخالطٍ للرمل والجَصِّ، ويجوز بالغبار على ظهر الحيوان والثوب، ويسمي الله تعالى عند التيمم، وينوي استباحة الصلاة قبل ضرب اليد على التراب، ويضم أصابعه لضربة الوجه، ويمسح جميع الوجه فلو بقي شيء من محل الفرض غير ممسوح لا يصح التيمم، ويضرب ضربة لليدين مبسوط الأصابع، ويَعُمَّ بالتراب محل الفرض، وإن لم يقدر إلا بضربتين فصاعدًا كيف أمكنه لا بد أن يَعُمَّ التراب محل الفرض، ويمسح إذا فرغ إحدى الراحتين بالأخرى حتى تصيرا ممسوحتين، ويُمِرَّ اليد على ما نزل من اللحية من غير إيصالِ التراب إلى المنابت.
(وأما المسح) فيمسح على الخُفِّ ثلاثة أيام ولياليهن في السفر، والمقيم يومًا وليلةً، وابتداء المدة من حين الحدث بعد لبس الخف لا من حين لبس الخف، ولا حاجة إلى النية عند لبس الخف، بل يحتاج إلى كمال الطهارة حتى لو لبس أحد الخفين قبل غسل الرجل الأخرى لا يصح أن يمسح على الخُفِّ، ويشترط في الخُفِّ إمكان متابعة المشي عليه، وستر محل الفرض، ويكفي مسحٌ يسيرٌ من أعلى الخف، والأَوْلى مسح أعلاه وأسفله من غير تكرار، ومتى ارتفع حكم المسح بانقضاء المدة أو ظهور شيء من محل الفرض، وإن كان عليه لفافة وهو على الطهارة يغسل القدمين دون استئناف الوضوء، على الأصح. والماسح في السفر إذا أقام يمسح كالمقيم، وهكذا المقيم إذا سافر يمسح كالمسافر، واللبد إذا رُكِّب جوربًا ونُعِلَ يجوز المسح عليه، ويجوز على المُشْرَجِ إذا ستر محل الفرض، ولا يجوز على المنسوج وجهه الذي يستر بعض القدم به والباقي باللفافة.
(فأما القصر والجمع) فيجمع بين الظهر والعصر في وقتِ إحداهما، ويتيمم لكل واحدة ولا يفصل بينهما بكلام وغيره، وهكذا الجمع بين المغرب والعشاء، ولا قصر في المغرب والصبح بل يصليهما كهيئتهما من غير قصرٍ وجمعٍ، والسنن الرواتب يصليها بالجمع بين السنتين قبل الفريضتين للظهر والعصر، وبعد الفراغ من الفريضتين يصلي ما يصلي بعد الفريضة من الظهر ركعتين أو أربعًا، وبعد الفراغ من المغرب والعشاء يؤدي السنن الراتبة لهما، ويوتر بعدهما.
(ولا يجوز) أداء الفرض على الدابة بحال إلا عند التحام القتال للغازي. ويجوز ذلك في السنن الرواتب والنوافل، وتكفيه الصلاة على ظهر الدابة، وفي الركوع والسجود الإيماء، ويكون إيماءُ السجودِ أخفض من الركوع إلا أن يكون قادرًا على التمكن، مثل أن يكون في محارة وغير ذلك، ويَقُوم توجهه إلى الطريق مقامَ استقبال القبلة، ولا يوجهها إلى غير الطريق إلا للقبلة، حتى لو حَرَّف دابته عن الصوب المتوجه إليه لا إلى نحو القبلة بطلت صلاته.
والماشي يتنفل في السفر، ويُقْنِعُه استقبال القبلة عند الإحرام، لا يُجزئه في الإحرام إلا الاستقبال، ويُقْنِعُه الإيماء للركوع والسجود، وراكبُ الدابة لا يحتاج إلى استقبال القبلة للإحرام أيضًا.
وإذا أصبح المسافر مقيمًا ثم سافر فعليه إتمام ذلك اليوم في الصوم، وهكذا إن أصبح مسافًرا ثم أقام، والصوم في السفر أفضل من الفطر، وفي الصلاة القصر أفضل من الإتمام.
فهذا القدر كافٍ للصوفي أن يعلمه من حكم الشرع في مهام سفره.
(فأما المندوب والمستحب) فينبغي أن يطلب لنفسه رفيقًا في الطريق، يعينه على أمر الدين، وقد قيل: الرفيق ثم الطريق. ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسافر الرجل وحده إلا أن يكون صوفيًّا عالمًا بآفة نفسه، يختار الوحدة على بصيرةٍ من أمره، فلا بأس بالوحدة. وإذا كانوا جماعةً ينبغي أن يكون فيهم متقدمٌ أميرٌ. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِذَا كنتم ثَلَاثَةٌ فِي سَفَرٍ فَأَمِّروا أَحَدَكم». والذي يسميه الصوفية يبشر وهو الأمير، وينبغي أن يكون الأمير أزهد الجماعة في الدنيا، وأوفرهم حظًّا من التقوى، وأتمهم مروءةً وسخاوةً وأكثرهم شفقةً.
روى عبد الله بن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «خَيْرُ الأَصْحَابِ عِنْدَ اللهِ خَيْرُهُمْ لِصَاحِبِهِ».
نُقِلَ عن عبد الله المروزي أن أبا علي الرباطي صحبه، فقال: على أن أكون أنا الأمير، أو أنت؟ فقال: بل أنت. فلم يزل يحمل الزاد لنفسه ولأبي علي على ظهره، وأمطرت السماء ذات ليلة فقام عبد الله طول الليل على رأس رفيقه يغطيه بكسائه عن المطر، وكلما قال: لا تفعل. يقول: ألست الأمير وعليك الانقياد والطاعة؟ فأما إن كان الأمير يصحب الفقراء لمحبة الاستتباع وطلب الرياسة والتعزز؛ ليتسلط على الخدام في الربط، ويُبَلِّغُ نفسَه هواها، فهذا طريق أرباب الهوى الجُهَّال المباينين لطريق الصوفية، وهو سبيل من يريد جمع الدنيا فيتخذ لنفسه رفقاءً مائلين إلى الدنيا، يجتمعون لتحصيل أغراض النفس، والدخول على أبناء الدنيا والظَّلَمة؛ للتوصل إلى تحصيل مآرب النفس، ولا يخلو اجتماعهم هذا عن الخوض في الغيبة، والدخول في المداخل المكروهة، والتنقل في الربط والاستمتاع والنزهة، وكلما كثر المعلوم في الرباط أطالوا المقام، وإن تعذرت أسباب الدين، وكلما قل المعلوم رحلوا وإن تيسرت أسباب الدين، وليس هذا طريق الصوفية، ومن المستحب أن يُوَدِّع إخوانه إذا أراد السفر، ويدعو لهم بدعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(قال) بعضهم: صحبت عبد الله بن عمر من مكة إلى المدينة، فلما أردت مفارقته شَيَّعَني، وقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «قال لُقْمَانُ لابنه: يا بني، إِنَّ اللهَ تعالى إِذَا اسْتُودِعَ شَيْئًا حَفِظَهُ، وإني أَسْتَوْدِعُ اللهَ دينك وأمانتك وَخَواتِيمَ عملك».
(وروى) زيد بن أرقم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا أراد أحدكم سفرًا فليودِّع إخوانه؛ فإن الله تعالى جاعلٌ له في دعائهم البركة».
(ورُوِي) عنه عليه السلام -أيضًا- أنه كان إذا ودع رجلًا قال: «زَوَّدَكَ اللهُ التَّقْوَى، وَغَفَرَ ذَنْبَكَ، وَوَجَّهَكَ لِلْخَيْرِ حيثما تَوَجَّهْتَ».
وينبغي أن يعتقد إخوانه إذا دعا لهم واستودعهم الله أن الله يستجيب دعاءه. فقد رُوِي أن عمر رضى الله عنه كان يعطي الناس عطاياهم؛ إذ جاء رجل معه ابن له، فقال له عمر: ما رأيت أحدًا أشبه بأحد من هذا بك. فقال الرجل: أحدثك عنه يا أمير المؤمنين، إني أردت أن أخرج إلى سفر وأمه حامل به، فقالت: تخرج وتدعني على هذه الحالة. فقلت: أستودع الله ما في بطنك، فخرجتُ ثم قدمتُ، فإذا هي قد ماتت فجلسنا نتحدث، فإذا نار تلوح على قبرها، فقلت للقوم: ما هذه النار؟ فقالوا: هذه من قبر فلانة نراها كل ليلة. فقلت: والله، إنها كانت صوامة قوامة. فأخذت المعول حتى انتهينا إلى القبر فحفرنا، وإذا سراجٌ، وإذا هذا الغلام يدب، فقيل: إن هذا وديعتك، ولو كنت استودعتنا أمه لوجدتها. فقال عمر: لهو أشبه بك من الغراب بالغراب.
وينبغي أن يُوَدِّع كل منزل يرحل عنه بركعتين، ويقول: اللهم زودني التقوى، واغفر لي ذنوبي، ووجهني للخير أينما توجهت.
(ورَوَى) أنس بن مالك قال: كان رسول الله -عليه الصلاة والسلام- لا ينزل منزلًا إلا ودعه بركعتين، فينبغي أن يودع كل منزل ورباط يرحل عنه بركعتين. وإذا ركب الدابة فليقل: سبحان الذي سخر لنا هذا، وما كنا له مُقْرِنِينَ، بسم الله، والله أكبر، توكلت على الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، اللهم أنت الحامل على الظهر، وأنت المستعان على الأمور.
والسنة أن يرحل من المنازل بُكْرة ويبتدئ بيوم الخميس. روى كعب بن مالك قال: قلما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج إلى السفر إلا يوم الخميس، وكان إذا أراد أن يبعث سريةً بعثها أول النهار، ويستحب كلما أشرف على منزل أن يقول: اللهم رب السماوات وما أظللن، ورب الأرضين وما أقللن، ورب الشياطين وما أضللن، ورب الرياح وما ذرين، ورب البحار وما جرين، أسألك خير هذا المنزل، وخير أهله، وأعوذ بك من شر هذا المنزل، وشر أهله، وإذا نزل فليصل ركعتين، ومما ينبغي للمسافر أن يصحبه آلة الطهارة، قيل: كان إبراهيم الخواص لا يفارقه أربعة أشياء في الحضر والسفر: الرِّكْوة، والحبل، والإبرة وخيوطها، والمقراض. روت عائشة -رضي الله عنها- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا سافر حمل معه خمسة أشياء: المرآة، والمُكْحُلة، والمِدْرَى، والسواك، والمُشْط. وفي رواية: المقراض.
والصوفية لا تفارقهم العصا، وهي أيضًا من السنة، روى معاذ بن جبل قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنْ أَتَّخِذْ منبرًا فقد اتخذَ إبراهيمُ، وإن أتخذِ العصا فقد اتخذها إبراهيم وموسى».
ورُوِي عن عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- أنه قال: التوكؤ على العصا من أخلاق الأنبياء، كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم عصًا يتوكأ عليها، ويأمر بالتوكؤ على العصا.
وأخذ الرِّكْوَة أيضًا من السنة، روى جابر بن عبد الله قال: بَيْنَا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يتوضأُ من ركوةٍ؛ إذ جهش الناس نحوه -أي: أسرعوا نحوه، والأصل فيه البكاء، كالصبي يتلازم بالأم، ويُسْرِع إليها عند البكاء- قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما لكم؟» قالوا: يا رسول الله، ما نجد ماءً نشرب ولا نتوضأ به إلا ما بين يديك، فوضع يده في الرِّكوة، فنظرتُ وهو يفور من بين أصابعه مثل العيون، قال: فتوضأ القوم منه. قلت: كم كنتم؟ قال: لو كنا مئة ألفٍ لكفانا، كنا خمس عشرة مئة في غزوة الحديبية.
ومن سنة الصوفية شد الوسط وهو من السنة، روى أبو سعيد قال: حج رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه مشاةً من المدينة إلى مكة، وقال: «ارْبِطوا على أوساطكم بأُزُركم». فربطنا ومَشَيْنا خلفه الهرولة.
ومن ظاهر آداب الصوفية عند خروجهم من الربط أن يصلي ركعتين في أول النهار يوم السفر بُكْرَةً -كما ذكرنا- يودع البقعة بالركعتين، ويُقَدِّمُ الخف وينفضه، ويشمر الكم اليمني ثم اليسرى، ثم يأخذ الميانبند الذي يشد به وسطه، ويأخذ خريطة المدارس، وينفضها ويأتي الموضع الذي يريد أن يلبس الخف، فيفرش السجادة طَاقَيْنِ، ويحك نعل أحد المداسين بالآخر، ويأخذ المداس باليسار والخريطة باليمين، ويضع المداس في الخريطة أعقابُه إلى أسفل، ويشد رأس الخريطة، ويدخل المداس بيده اليسرى من كمه الأيسر، ويضعه خلف ظهره، ثم يقعد على السجادة، ويقدم الخف بيساره ويَنْفُضُه، ويبتدئ باليمنى فيلبس ولا يدع شيئًا من الران أو المنطقة يقع على الأرض، ثم يغسل يديه، ويجعل وجهه إلى الموضع الذي يخرج منه، ويودع الحاضرين، فإن أخذ بعض الإخوان راويته إلى خارج الرباط لا يمنعه، وهكذا العصا والإبريق، ويودع من شيعه، ثم يَشُدُّ الراوية برفع يده اليمنى، ويُخرج اليسرى من تحت إبطه الأيمن، ويشد الراوية على الجانب الأيسر ويكون كتفه الأيمن خاليًا، وعقدة الراوية على الجانب الأيمن، فإذا وصل في طريقه إلى موضع شريفٍ، أو استقبله جمع من الإخوان، أو شيخ من الطائفة يحل الراوية ويحطها، ويستقبلهم ويسلم عليهم.
ثم إذا جاوزوه يشد الراوية، وإذا دنا من منزل؛ رباطًا كان أو غيره، يحل الراوية ويحملها تحت إبطه الأيسر، وهكذا العصا والإبريق يمسكه بيساره، وهذه الرسوم استحسنها فقراء خراسان والجبل، ولا يتعهدها أكثر فقراء العراق والشام والمغرب، ويجري بين الفقراء مشاحنة في رعايتها، فمن لا يتعاهدها يقول: هذه رسوم لا تلزم، والالتزام بها وقوفٌ مع الصور، وغفلة عن الحقائق، ومن يتعهدها يقول: هذه آداب وضعها المتقدمون، وإذا رَأَوا من يخل بها أو بشيء منها ينظرون إليه نظر الازدراء والحقارة، ويقال: هذا ليس بصوفي، وكِلا الطائفتين في الإنكار يتعدون الواجب والصحيح، في ذلك أن من يتعاهدُها لا يُنْكَر عليه، فليس بمنكر في الشرع، وهو أدبٌ حَسَنٌ، ومن لم يلتزم بذلك فلا يُنْكَر عليه، فليس بواجبٍ في الشرع، ولا مندوب إليه، وكثير من فقراء خراسان والجبل يبالغ في رعاية هذه الرسوم إلى حد يخرج إلى الإفراط، وكثيرًا ما يخل بها فقراء العراق والشام والمغاربة إلى حد يخرج إلى التفريط، والأليق أن ما ينكره الشرع يُنْكَر، وما لا ينكره لا يُنْكَر، ويجعل لتصاريف الإخوان أعذارًا، ما لم يكن فيها منكرٌ أو إخلال بمندوب إليه، والله الموفق.