(الباب الرابع والأربعون في ذكر أدبهم في اللباس ونياتهم ومقاصدهم فيه)
اللباس من حاجات النفس وضرورتها لدفع الحر والبرد، كما أن الطعام من حاجات النفس لدفع الجوع، وكما أن النفس غير قانعة بقدر الحاجة من الطعام، بل تطلب الزيادات والشهوات، فهكذا في اللباس تتفنن فيه، ولها فيه أهوية متنوعة ومآرب مختلفة، فالصوفي يَرُدُّ النفس في اللباس إلى متابعة صريح العلم.
(قيل) لبعض الصوفية: ثوبك ممزق، قال: ولكنه من وجه حلال. وقيل له: وهو وسخ، قال: ولكنه طاهر. فنظر الصادق في ثوبه أن يكون من وجه حلال؛ لأنه ورد في «الخبر» عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من اشترى ثوبًا بعشرة دراهم وفي ثمنه درهم من حرام لا يقبل الله منه صرفًا ولا عدلًا»؛ أي لا فريضة ولا نافلة.
ثم بعد ذلك نظره فيه أن يكون طاهرًا؛ لأن طهارة الثوب شرط في صحة الصلاة. وما عدا هذين النظرين فنظره في كونه يدفع الحر والبرد؛ لأن ذلك مصلحة النفس، وبعد ذلك ما تدعو النفس إليه فكله فضول وزيادة، ونظر إلى الخلق، والصادق لا ينبغي أن يلبس الثوب إلا لله، وهو ستر العورة، أو لنفسه لدفع الحر والبرد.
﴿حكي﴾ أن سفيان الثوري رضى الله عنه خرج ذات يوم وعليه ثوب قد لبسه مقلوبًا، فقيل له، ولم يعلم بذلك، فهم أن يخلعه ويغيره، ثم تركه وقال: حيث لبسته نويت أني ألبسه لله، الآن فما أغيره إلا لنظر الخلق، فلا أنقض النية الأولى بهذه. والصوفية خصوا بطهارة الأخلاق، وما رزقوا طهارة الأخلاق إلا بالصلاحية والأهلية والاستعداد الذي هيأه الله تعالى لنفوسهم، وفي طهارة الأخلاق وتعاضدها تناسبٌ واقع لوجود تناسب هيئة النفس، وتناسب هيئة النفس هو المشار إليه بقوله تعالى: ﴿فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي﴾ [الحجر: 29]. فالتناسب هو التسوية، فمن المناسب أن يكون لباسهم مشاكلًا لطعامهم، وطعامهم مشاكلًا لكلامهم، وكلامهم مشاكلًا لمقامهم؛ لأن التناسب الواقع في النفس مقيد بالعلم، والتشابه والتماثيل في الأحوال يحكم به العلم، ومتصوفة الزمان ملتزمون بشيء من التناسب مع مزج الهوى، وما عندهم من التطلع إلى التناسب رشح حال سلفهم في وجود التناسب. قال أبو سليمان الداراني: يلبس أحدهم عباءة بثلاثة دراهم، وشهوته في بطنه بخمسة دراهم، أنكر ذلك لعدم التناسب، فمن خَشُنَ ثوبه ينبغي أن يكون مأكوله من جنسه، وإذا اختلف الثوب والمأكول يدل على وجود انحراف لوجود هوًى كامن في أحد الطريق؛ إما في طرف الثوب لموضع نظر الخلق، وإما في طرف المأكول لفرط الشره، وكلا الوصفين مرض يحتاج إلى المداواة ليعود إلى حد الاعتدال.
لبس أبو سليمان الداراني ثوبًا غسيلًا، فقال له أحمد: لو لبست ثوبًا أجود من هذا؟ فقال: ليت قلبي في القلوب مثل قميص في الثياب، فكان الفقراء يلبسون المرقع، وربما كانوا يأخذون الخرق من المزابل ويرقعون بها ثوبهم، وقد فعل ذلك طائفة من أهل الصلاح، وهؤلاء ما كان لهم معلوم يرجعون إليه، فكما كانت رقاعهم من المزابل كانت لقمهم من الأبواب.
(وكان) أبو عبد الله الرفاعي مثابرًا على الفقر والتوكل ثلاثين سنة، وكان إذا حضر للفقراء طعام لا يأكل معهم، فيقال له في ذلك، فيقول: أنتم تأكلون بحق التوكل، وأنا آكل بحق المسكنة، ثم يخرج بين العشاءين لطلب الكسر من الأبواب، وهذا شأن من لا يرجع إلى معلوم، ولا يدخل تحت منة.
(وحكي) أن جماعة من أصحاب المرقعات دخلوا على بشر بن الحرث فقال لهم: يا قوم، اتقوا الله، ولا تظهروا هذا الزي؛ فإنكم تعرفون به، وتكرمون له، فسكتوا كلهم. فقال له غلام منهم: الحمد لله الذي جعلنا ممن يعرف به ويكرم له، والله ليظهرن هذا الزي حتى يكون الدين كله لله. فقال له بشر: أحسنت يا غلام مثلك من يلبس المرقعة. فكان أحدهم يبقى زمانه لا يُطْوَى له ثوب ولا يملك غير ثوبه الذي عليه.
(وروي) أن أمير المؤمنين عليًّا رضى الله عنه لبس قميصًا اشتراه بثلاثة دراهم، ثم قطع كمه من رءوس أصابعه. وروي عنه أنه قال لعمر بن الخطاب: إن أردت أن تلقى صاحبك فرقع قميصك، واخصف نعلك، وقصر أملك، وكل دون الشبع.
(وحكي) عن الجريري قال: كان في جامع بغداد رجل لا تكاد تجده إلا في ثوب واحد في الشتاء والصيف، فسئل عن ذلك فقال: قد كنت ولعت بكثرة لبس الثياب ليلة فيما يرى فرأيت النائم كأني دخلت الجنة، فرأيت جماعة من أصحابنا من الفقراء على مائدة فأردت أن أجلس معهم فإذا بجماعة من الملائكة أخذوا بيدي وأقاموني، وقالوا لي: هؤلاء أصحاب ثوب واحد، وأنت لك قميصان، فلا تجلس معهم، فانتبهت ونذرت ألَّا ألبس إلا ثوبًا واحدًا إلى أن ألقى الله تعالى.
(وقيل) مات أبو يزيد ولم يترك إلا قميصه الذى كان عليه، وكان عارية، فردوه إلى صاحبه.
(وحكي) لنا عن الشيخ حماد شيخ شيخنا أنه بقي زمانًا لا يلبس الثوب إلا مستأجرًا حتى أنه لم يلبس على ملك نفسه شيئًا.
(وقال) أبو حفص الحداد: إذا رأيت وضاءة الفقير في ثوبه فلا ترجو خيره. (وقيل:) مات ابن الكرنبي وكان أستاذ الجنيدي وعليه مرقعته. قيل: كان وزن فردكم له وتخاريصه ثلاثة عشر رطلًا، فقد يكون جمع من الصالحين على هذا الزي والتخشن، وقد يكون جمع من الصالحين يتكلفون لبس غير المرقع وزي الفقراء، ويكون نيتهم في ذلك ستر الحال أو خوف عدم النهوض بواجب حق المرقعة.
(وقيل): كان أبو حفص الحداد يلبس الناعم، وله بيت فرش فيه الرمل لعله كان ينام عليه بلا وطاء، وقد كان قوم من أصحاب الصفة يكرهون أن يجعلوا بينهم وبين التراب حائلًا، ويكون لبس أبي حفص الناعم بعلم ونية يلقى الله تعالى بصحتها، وهكذا الصادقون إن لبسوا غير الخشن من الثوب لنية تكون لهم في ذلك، فلا يعرض عليهم، غير أن لبس الخشن والمرقع يصلح لسائر الفقراء بنية التقلل من الدنيا وزهرتها وبهجتها.
وقد ورد: «من ترك ثوب جمال وهو قادر على لبسه ألبسه الله تعالى من حلل الجنة».
وأما لبس الناعم فلا يصلح إلا لعالم بحاله، بصير بصفات نفسه، متفقد خفي شهوات النفس، يلقى الله تعالى بحسن النية في ذلك، فلحسن النية في ذلك وجوه متعددة يطول شرحها، ومن الناس من لا يقصد لبس ثوب بعينه، لا لخشونته ولا لنعومته، بل يلبس ما يدخله الحق عليه، فيكون بحكم الوقت، وهذا حسن، وأحسن من ذلك أنه يتفقد نفسه فيه، فإن رأى للنفس شرهًا وشهوة خفية أو جلية في الثوب الذي أدخله الله عليه يخرجه، إلا أن يكون حاله مع الله ترك الاختيار، فعند ذلك لا يسعه إلا أن يلبس الثوب الذي ساقه الله إليه.
وقد كان شيخنا أبو النجيب السهروردي -رحمه الله- لا يتقيد بهيئة من الملبوس، بل كان يلبس ما يتفق من غير تعمد تكلف واختيار، وقد كان يلبس العمامة بعشرة دنانير، ويلبس العمامة بدانق.
وقد كان الشيخ عبد القادر -رحمه الله- يلبس هيئة مخصوصة ويتطيلس، وكان الشيخ علي بن الهيتي يلبس لبس فقراء السواد، وكان أبو بكر الفراء بزنجان يلبس فروًا خشنًا كآحاد العوام، ولكن في لبسه وهيئته نية صالحة، وشرح تفاوت الأقدام في ذلك يطول.
(وكان) الشيخ أبو السعود -رحمه الله- حاله مع الله ترك الاختيار، وقد يساق إليه الثوب الناعم فيلبسه، وكان يقال له: ربما يسبق إلى بواطن بعض الناس الإنكار عليك في لبسك هذا الثوب. فيقال: لا نلقى إلا أحد رجلين؛ رجل يطالبنا بظاهر حكم الشرع، فنقول له: هل ترى أن ثوبنا يكرهه الشرع أو يحرمه؟ فيقول: لا. ورجل يطالبنا بحقائق القوم من أرباب العزيمة فنقول له: هل ترى لنا فيما لبسنا اختياًرا، أو ترى عندنا فيه شهوة؟ فيقول: لا.
وقد يكون من الناس من يقدر على لبس الناعم ولبس الخشن، ولكن يجب أن يختار الله له هيئة مخصوصة، فيكثر اللجأ إلى الله والافتقار إليه، ويسأله أن يريه أحب الزي إلى الله تعالى وأصلحه لدينه ودنياه؛ لكونه غير صاحب غرض وهوى في زي بعينه، فالله تعالى يفتح عليه ويعرفه زيًّا مخصوصًا فيلتزم بذلك الزي، فيكون لبسه بالله، ويكون هذا أتم وأكمل ممن يكون لبسه لله، ومن الناس من يتوفر حظه من العلم وينبسط بما بسطه الله فيلبس الثوب عن علم وإيقان، ولا يبالي بما لبسه ناعمًا لبس أو خشنًا، وربما لبس ناعمًا، ولنفسه فيه اختيار وحظ، وذلك الحظ فيه يكون مكفرًا له مردودًا عليه موهوبًا له، يوافقه الله تعالى في إرادة نفسه، ويكون هذا الشخص تام التزكية تام الطهارة محبوبًا مرادًا، يسارع الله تعالى إلى مراده ومحابه، غير أن ها هنا مزلة قدم لكثير من المدعين.
﴿حكي﴾ عن يحيى بن معاذ الرازي أنه كان يلبس الصوف والخلقان في ابتداء أمره، ثم صار في آخر عمره يلبس الناعم. فقيل لأبي يزيد ذلك، فقال: مسكين يحيى لم يصبر على الدون فكيف يصبر على التحف. ومن الناس من يسبق إليه علم ما سوف يدخل عليه من الملبوس فيلبسه محمودًا فيه. وكل أحوال الصادقين على اختلاف تنوعها مستحسنة، ﴿قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا﴾ [الإسراء: 84]. ولبس الخشن من الثياب هو الأحب والأولى والأسلم للعبد، والأبعد من الآفات.
(قال) مسلمة بن عبد الملك: دخلت على عمر بن عبد العزيز أعوده في مرضه، فرأيتُ قميصه وسخًا، فقلت لامرأته فاطمة: اغسلوا ثياب أمير المؤمنين. فقالت: نفعل إن شاء الله، قال: ثم عدته فإذا القميص على حاله، فقلت: يا فاطمة، ألم آمركم أن تغسلوه. قالت: والله ما له قميص غير هذا.
(وقال) سالم: كان عمر بن عبد العزيز من ألين الناس لباسًا من قبل أن يسلم إليه الخلافة، فلما سلم إليه الخلافة ضرب رأسه بين ركبتيه، وبكى ثم دعا بأطمار له رثة فلبسها.
(وقيل): لما مات أبو الدرداء وجد في ثوبه أربعون رقعة، وكان عطاؤه أربعة آلاف.
(وقال) زيد بن وهب: لبس علي بن أبي طالب قميصًا رازيًا، وكان إذا مد كمه بلغ أطراف أصابعه، فعابه الخوارج بذلك، فقال: أتعيبوني على لباس هو أبعد من الكبر، وأجدر أن يقتدي به المسلم.
(وقيل:) كان عمر رضى الله عنه إذا رأى على رجل ثوبين رقيقين علاه بالدرة، وقال: دعوا هذه البراقات للنساء.
(وروي) عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «نوروا قلوبكم بلباس الصوف؛ فإنه مذلة في الدنيا ونور في الآخرة، وإياكم أن تفسدوا دينكم بحمد الناس وثنائهم».
(وروي) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم احتذى نعلين، فلما نظر إليهما أعجبه حسنهما، فسجد لله تعالى. فقيل له في ذلك، فقال: «خشيت أن يعرض عني ربي، فتواضعت له، لا جرم لا يبيتان في منزلي، لما تخوفت المقت من الله تعالى من أجلهما». فأخرجهما فدفعهما إلى أول مسكين لقيه، ثم أمر فاشتري له نعلان مخصوفتان.
(وروي) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لبس الصوف، واحتذى المخصوف، وأكل مع العبيد. وإذا كانت النفس محل لآفات فالوقوف على دسائسها، وخفي شهواتها، وكامن هواها عسر جدًّا، فالأليق والأجدر والأولى الأخذ بالأحوط، وترك ما يريب إلى ما لا يريب، ولا يجوز للعبد الدخول في السعة إلا بعد إتقان علم السعة، وكمال تزكية النفس، وذاك إذا غابت النفس بغيبة هواها المتبع، وتخلصت النية، وتسدد التصرف بعلم صريح واضح، وللعزيمة أقوام يركبونها ويراعونها لا يرون النزول إلى الرخص خوفًا من فوت فضيلة الزهد في الدنيا، واللباس الناعم من الدنيا.
(وقد قيل): من رق ثوبه رق دينه، وقد يرخص في ذلك لمن لا يلتزم بالزهد ويقف على رخصة الشرع.
(روى) علقمة عن عبد الله بن مسعود رضى الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِن الكبر». فقَالَ رَجُلٌ: إِنَّ الرَّجُلَ يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ ثَوْبُهُ حَسَنًا وَنَعْلُهُ حَسَنًا. فَقَالَ النبي عليه السلام: «إِنَّ اللهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ». فتكون هذه الرخصة في حق من يلبسه لا يهوى نفسه في ذلك، غير مفتخر به ومختال.
فأما من لبس الثوب للتفاخر بالدنيا والتكاثر بها فقد ورد فيه وعيد. (روى) أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إزرة المؤمن إلى نصف الساق، فيما بينه وبين الكعبين فهو في النار، من جر إزاره بطرًا لم ينظر الله إليه يوم القيامة، فبينما رجل ممن كان قبلكم يتبختر في ردائه إذ أعجبه رداؤه فخسف الله به الأرض، فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة».
ومن صح حاله بصحة علمه صحت نيته في مأكوله وملبوسه وسائر تصاريفه، وفي كل الأحوال يستقيم، ويتسدد باستقامة الباطن مع الله تعالى، وبقدر ذلك تستقيم تصاريف العبد كلها بحسن توفيق الله تعالى.