(الباب الخمسون في ذكر العمل في جميع النهار وتوزيع الأوقات)
فمن ذلك أن يلازم موضعه الذي صلى هو فيه مستقبل القبلة، إلا أن يرى انتقاله إلى زاويته أسلم لدينه؛ لئلا يحتاج إلى حديث أو التفات إلى شيء؛ فإن السكوت في هذا الوقت وترك الكلام له أثر ظاهر بَيِّنٌ، تجده أهل المعاملة وأرباب القلوب، وقد ندب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ذلك، ثم يقرأ الفاتحة وأول سورة البقرة إلى: (الْمُفْلِحُونَ) [البقرة: 5]، والآيتين (وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِد) [البقرة: 163]، وآية الكرسي والآيتين بعدها، و: (آمَنَ الرَّسُولُ) [البقرة: 285]، والآية قبلها، و: (شَهِدَ اللهُ) [آل عمران: 18]، و: (قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ) [آل عمران: 26]، و: (إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ) [الأعراف: 54] إلى (الْمُحْسِنِينَ) [الأعراف: 56] و: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ) [التوبة: 128] إلى الآخر، و: (قُلِ ادْعُوا اللهَ) [الإسراء: 110] الآيتين، وآخر الكهف من (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) [الكهف: 107]، (وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا) [الأنبياء: 87] إلى (وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ) [الأنبياء: 89] (فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ) [الروم: 17] و: (سُبْحَانَ رَبِّكَ) [الصافات: 180] إلى آخر السورة، و: (لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ) [الفتح: 27] وأول سورة الحديد إلى (بِذَاتِ الصُّدُورِ) [الحديد: 6] وآخر سورة الحشر من (لَوْ أَنْزَلْنَا) [الحشر: 22].
ثم يسبح ثلاثًا وثلاثين، وهكذا يحمد مثله، ويكبر مثله، ويتمها مئة بـ: لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، فإذا فرغ من ذلك يشتغل بتلاوة القرآن حفظًا، أو من المصحف، أو يشتغل بأنواع الأذكار، ولا يزال كذلك من غير فتور وقصور ونعاس؛ فإن النوم في هذا الوقت مكروه جدًّا، فإن غلبه النوم فليقم في مصلاه قائمًا مستقبل القبلة، فإن لم يذهب النوم بالقيام يخط خطوات نحو القبلة يتأخر بالخطوات كذلك، ولا يستدبر القبلة؛ ففي إدامة استقبال القبلة وترك الكلام والنوم ودوام الذكر في هذا الوقت أثر كبير وبركة غير قليلة، وجدنا ذلك بحمد الله، ونوصي به الطالبين، وأثر ذلك في حق من يجمع في الأذكار بين القلب واللسان أكثر وأظهر، وهذا الوقت أول النهار، والنهار مظنة الآفات، فإذا أحكم أوله بهذه الرعاية فقد أحكم بنيانه، وتبتنى أوقات النهار جميعًا على هذا البناء، فإذا قارب طلوع الشمس يبتدئ بقراءة المسبعات العشر، وهي من تعليم الخضر عليه السلام علمها إبراهيم التيمي، وذكر أنه تعلمها من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وينال بالمداومة عليها جميع المتفرق في الأذكار والدعوات، وهي عشرة أشياء: سبعة سبعة الفاتحة، والمعوذتان، و«قل هو الله أحد» و«قل يا أيها الكافرون» وآية الكرسي، وسبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، والصلاة على النبي وآله، ويستغفر لنفسه ولوالديه وللمؤمنين والمؤمنات، ويقول سبعًا: اللهم افعل بي وبهم عاجلًا وآجلًا في الدين والدنيا والآخرة ما أنت له أهل، ولا تفعل بنا يا مولانا ما نحن له أهل، إنك غفور حليم، جواد كريم، رءوف رحيم.
(وروي) أن إبراهيم التيمي لما قرأ هذه بعد أن تعلمها من الخضر رأى في المنام أنه دخل الجنة ورأى الملائكة والأنبياء -عليهم السلام- وأكل من طعام الجنة. وقيل: إنه مكث أربعة أشهر لم يطعم. وقيل: لعله كان ذلك لكونه أكل من طعام الجنة، فإذا فرغ من المسبعات أقبل على التسبيح والاستغفار والتلاوة إلى أن تطلع الشمس قدر رمح.
(روي) عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لأَنْ أَقْعُدَ في مجلس أذكر اللهَ فيه مِنْ صَلَاةِ الْغَدَاةِ إلى طلوع الشَّمْسُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أُعْتِقَ أَرْبَعَ رقاب».
ثم يصلي ركعتين قبل أن ينصرف من مجلسه، فقد نقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يصلي الركعتين، وبهاتين الركعتين تتبين فائدة رعاية هذا الوقت، وإذا صلى الركعتين بجمع هم وحضور فهم وحسن تدبر لما يقرأ يجد في باطنه أثرًا ونورًا وروحًا وأنسًا، إذا كان صادقًا، والذي يجده من البركة ثواب معجل له على عمله هذا، وأحب أن يقرأ في هاتين الركعتين في الأولى آية الكرسي، وفي الأخرى: (آمَنَ الرَّسُولُ) [البقرة: 285]، و: (اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) [النور: 35] إلى آخر الآية، وتكون نيته فيهما الشكر لله على نعمه في يومه وليلته، ثم يصلي ركعتين أخريين يقرأ المعوذتين فيهما، في كل ركعة سورة، وتكون صلاته هذه ليستعيذ بالله تعالى من شر يومه وليلته، ويذكر بعد هاتين الركعتين كلمات الاستعاذة، فيقول: أعوذ باسمك وكلمتك التامة من شر السامة والهامة، وأعوذ باسمك وكلمتك التامة من شر عذابك وشر عبادك، وأعوذ باسمك وكلمتك التامة من شر ما يجري به الليل والنهار، إن ربي الله، لا إله إلا هو، عليه توكلت وهو رب العرش العظيم.
ويقول بعد الركعتين الأوليين: اللهم إني أصبحت لا أستطيع دفع ما أكره، ولا أملك نفع ما أرجو، وأصبحت مرتهنًا بعملي، وأصبح أمري بيد غيري، فلا فقير أفقر مني، اللهم لا تشمت بي عدوي، ولا تسئ بي صديقي، ولا تجعل مصيبتي في ديني، ولا تجعل الدنيا أكبر همي، ولا مبلغ علمي، ولا تسلط عَلَيَّ من لا يرحمني، اللهم إني أعوذ بك من الذنوب التي تزيل النعم، وأعوذ بك من الذنوب التي توجب النقم.
ثم يصلي ركعتين أخريين بنية الاستخارة لكل عمل يعمله في يومه وليلته، وهذه الاستخارة تكون بمعنى الدعاء على الإطلاق، وإلا فالاستخارة التي وردت بها الأخبار هي التي يصليها أمام كل أمر يريده، ويقرأ في هاتين الركعتين «قل يا أيها الكافرون» و«قل هو الله أحد». ويقرأ دعاء الاستخارة -كما سبق ذكره في غير هذا الباب- ويقول فيه: كل قول وعمل أريده في هذا اليوم اجعل فيه الخيرة.
ثم يصلي ركعتين أخريين، يقرأ في الأولى سورة الواقعة، وفي الأخرى سورة الأعلى، ويقول بعدها: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، واجعل حبك أحب الأشياء إلي، وخشيتك أخوف الأشياء عندي، واقطع عني حاجات الدنيا بالشوق إلى لقائك، وإذ أقررت أعين أهل الدنيا بدنياهم فأقرر عيني بعبادتك، واجعل طاعتك في كل شيء مني يا أرحم الراحمين.
ثم يصلي بعد ذلك ركعتين يقرأ فيهما شيئًا من حزبه من القرآن، ثم بعد ذلك إن كان متفرغًا ليس له شغل في الدنيا يتنقل في أنواع العمل في الصلاة والتلاوة والذكر إلى وقت الضحى، وإن كان ممن له في الدنيا شغل إما لنفسه أو لعياله فليمض لحاجته ومهامه بعد أن يصلي ركعتين لخروجه من المنزل، وهكذا ينبغي أن يفعل أبدًا لا يخرج من البيت إلى جهةٍ إلا بعد أن يصلي ركعتين؛ ليقيه الله سوء المخرج، ولا يدخل البيت إلا ويصلي ركعتين ليقيه الله سوء المدخل بعد أن يسلم على من في المنزل من الزوجة وغيرها.
وإن لم يكن في البيت أحد يسلم أيضًا ويقول: السلام على عباد الله الصالحين المؤمنين. وإن كان متفرغًا فأحسن أشغاله في هذا الوقت إلى الصلاة صلاة الضحى، فإن كان عليه قضاء صلى صلاته يوم أو يومين أو أكثر وإلا يصل ركعات يطولها ويقرأ فيها القرآن، فقد كان من الصالحين من يختم القرآن في الصلاة بين اليوم والليلة وإلا فليصل أعدادًا من الركعات خفيفة بفاتحة الكتاب، و«قل هو الله أحد»، وبالآيات التي في القرآن وفيها الدعاء، مثل قوله تعالى: ﴿رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ المَصِيرُ﴾ [الممتحنة: 4]. وأمثال هذه الآية، يقرأ في كل ركعة آية منها إما مرة أو يكررها مهما شاء، ويقدر للطالب أن يصلي بين الصلاة التي ذكرناها بعد طلوع الشمس وبين صلاة الضحى مئة ركعة خفيفة، وقد كان في الصالحين من ورده بين اليوم والليلة مئة ركعة إلى مائتين إلى خمسمئة إلى ألف ركعة.
ومن ليس له في الدنيا شغل، وقد ترك الدنيا على أهلها فما باله يبطل ولا يتنعم بخدمة الله تعالى.
(قال) سهل بن عبد الله التستري: لا يكمل شغل قلب عبد بالله الكريم وله في الدنيا حاجة. فإذا ارتفعت الشمس وتنصف الوقت من صلاة الصبح إلى الظهر كما يتنصف العصر بين الظهر والمغرب يصلي الضحى، فهذا الوقت أفضل الأوقات لصلاة الضحى.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «صَلَاةُ الضحى إِذَا رَمِضَتِ الْفِصَالُ». وهو أن ينام الفصيل في ظل أمه عند حر الشمس. وقيل: الضحى: إذا ضحيت الأقدام بحر الشمس.
وأقل صلاة الضحى ركعتان، وأكثرها اثنتا عشرة ركعة، ويجعل لنفسه دعاء بعد كل ركعتين، ويسبح ويستغفر، ثم بعد ذلك إن كان هناك حق يقضي مما ندب إليه من زيارة أو عيادة يمضي فيه، وإلا فيديم العمل لله تعالى من غير فتور ظاهرًا وباطنًا، وقلبًا وقالبًا، وإلا فباطنًا، وترتيب ذلك أنه يصلي ما دام منشرحًا ونفسه مجيبة، فإن سئم ينزل من الصلاة إلى التلاوة؛ فإن مجرد التلاوة أخف على النفس من الصلاة، فإن سئم التلاوة أيضًا يذكر الله بالقلب واللسان، فهو أخف من القراءة، فإن سئم الذكر يدع ذكر اللسان ويلازم بقلبه المراقبة، والمراقبة علم القلب بنظر الله تعالى إليه، فما دام هذا العلم ملازمًا لقلبه فهو مراقب، والمراقبة عين الذكر وأفضله، فإن عجز عن ذلك أيضًا وتملكته الوساوس وتزاحم في باطنه حديث النفس، فلينم ففي النوم السلامة، وإلا فكثرة حديث النفس تقسي القلب ككثرة الكلام؛ لأنه كلام من غير لسان، فيحترز عن ذلك.
قال سهل بن عبد الله: أسوأ المعاصي حديث النفس، والطالب يريد أن يعتبر باطنه كما يعتبر ظاهره، فإنه بحديث النفس وما يتخايل له من ذكر ما مضى ورأى وسمع كشخص آخر في باطنه، فيقيد الباطن بالمراقبة والرعاية، كما يقيد الظاهر بالعمل وأنواع الذكر، ويمكن للطالب المجد أن يصلي من صلاة الضحى إلى الاستواء مئة ركعة أخرى، وأقل من ذلك عشرون ركعة، يصليها خفيفة أو يقرأ في كل ركعتين جزءًا من القرآن أو أقل أو أكثر، والنوم بعد الفراغ من صلاة الضحى وبعد الفراغ من أعداد أخر من الركعات حسن.
(قال سفيان:) كان يعجبهم إذا فرغوا أن يناموا طلبًا للسلامة. وهذا النوم فيه فوائد: منها أنه يعين على قيام الليل، ومنها أن النفس يستريح، ويصفو النهار لبقية النهار والعمل فيه، والنفس إذا استراحت عادت جديدة. فبعد الانتباه من نوم النهار تجد في الباطن نشاطًا آخر وشغفًا آخر كما كان في أول النهار، فيكون للصادق في النهار نهاران يغتنمهما بخدمة الله تعالى والدأب في العمل. وينبغي أن يكون انتباهه من نوم النهار قبل الزوال بساعة حتى يتمكن من الوضوء والطهارة قبل الاستواء، بحيث يكون وقت الاستواء مستقبل القبلة ذاكرًا أو مسبحًا أو تاليًا.
قال الله تعالى: ﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ﴾ [هود: 114].
وقال: ﴿وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا﴾ [طه: 130].
قيل: قبل طلوع الشمس صلاةُ الصبح، وقبل غروبها صلاةُ العصر.
﴿وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ﴾ [طه: 130]. أراد العشاء الأخيرة.
﴿وَأَطْرَافَ النَّهَارِ﴾ [طه: 130]. أراد الظهر والمغرب؛ لأن الظهر صلاة في آخر الطرف الأول من النهار، وآخر الطرف الآخر غروب الشمس، وفيها صلاة المغرب، فصار الظهر آخر الطرف الأول، والمغرب آخر الطرف الآخر، فيستقبل الطرف الآخر باليقظة والذكر كما استقبل الطرف الأول، وقد عاد بنوم النهار جديدًا كما كان بنوم الليل، ويصلي في أول الزوال قبل السنة والفرض أربع ركعات بتسليمة واحدة، كان يصليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذه صلاة الزوال قبل الظهر في أول أوقاتها، ويحتاج أن يراعي لهذه الصلاة أول الوقت بحيث يفطن للوقت قبل المؤذنين حين يذهب وقت الكراهية بالاستواء، فيشرع في صلاة الزوال، ويسمع الأذان وقد توسط هذه الصلاة، ثم يستعد لصلاة الظهر، فإن وجد في باطنه كدرًا من مخالطة أو مجالسة اتفقت يستغفر الله تعالى، ويتضرع إليه، ولا يشرع في صلاة الظهر إلا بعد أن يجد الباطن عائدًا إلى حالة من الصفاء، والذائقون حلاوة المناجاة لا بد أن يجدوا صفو الأنس في الصلاة، ويتكدرون بيسير من الاسترسال في المباح، ويصير على بواطنهم من ذلك عقد وكدر، وقد يكون ذلك بمجرد المخالطة والمجالسة مع الأهل والولد مع كون ذلك عبادة.
ولكن حسنات الأبرار سيئات المقربين، فلا يدخل الصلاة إلا بعد حل العُقَد وإذهاب الكدر، وحل العقد بصدق الإنابة والاستغفار والتضرع إلى الله تعالى، ودواء ما يحدث من الكدر بمجالسة الأهل والولدان، أن يكون في مجالسته غير راكن إليهم كل الركون، بل يسترق القلب في ذلك نظرات إلى الله تعالى، فتكون تلك النظرات كفارة لتلك المجالسة، إلا أن يكون قوي الحال لا يحجبه الخلق عن الحق، فلا ينعقد على باطنه عقدة، فهو كما يدخل في الصلاة لا يجدها ويجد باطنه وقلبه؛ لأنه حيث استروحت نفس هذا إلى المجالسة كان استرواح نفسه منغمرًا بروح قلبه؛ لأنه يجالس ويخالط، وعين ظاهره ناظرة إلى الخلق، وعين قلبه مطالعة للحضرة الإلهية، فلا ينعقد على باطنه عقدة، وصلاة الزوال التي ذكرناها تحل العقد، وتهيئ الباطن لصلاة الظهر، فيقرأ في صلاة الزوال بمقدار سورة البقرة في النهار الطويل، وفي القصير ما يتيسر من ذلك.
قال الله تعالى: ﴿وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ﴾ [الرُّوم: 18]، وهذا هو الإظهار، فإن انتظر بعد السنة حضور الجماعة للفرض، وقرأ الدعاء الذي بين الفريضة والسنة من صلاة الفجر فحسن. وكذلك ما ورد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا به إلى صلاة الفجر، ثم إذا فرغ من صلاة الظهر يقرأ الفاتحة وآية الكرسي، ويسبح ويحمد ويكبر ثلاثًا وثلاثين- كما وصفنا- ولو قدر على الآيات كلها التي ذكرناها بعد صلاة الصبح وعلى الأدعية أيضًا كان ذلك خيرًا كثيرًا وفضلًا عظيمًا، ومن له همة ناهضة وعزيمة صادقة لا يستكثر شيئًا لله تعالى، ثم يحيي بين الظهر والعصر كما يحيي بين العشاءين -على الترتيب الذي ذكرناه من الصلاة والتلاوة والذكر والمراقبة- ومن دام سهره ينام نومة خفيفة في النهار الطويل بين الظهر والعصر، ولو أحبه بين الظهر والعصر بركعتين يقرأ فيهما ربع القرآن، أو يقرأ ذلك في أربع ركعات فهو خير كثير، وإن أراد أن يحيي هذا الوقت بمئة ركعة في النهار الطويل أمكن ذلك، أو بعشرين ركعة يقرأ فيها «قل هو أحد» ألف مرة في كل ركعة خمسين، ويستاك قبل الزوال إذا كان صائمًا، وإن لم يكن صائمًا فأي وقت تغير فيه الفم.
وفي الحديث: «السِّوَاكُ مَطْهَرَةٌ لِلْفَمِ مَرْضَاةٌ لِلرَّبِّ». وعند القيام إلى الفرائض يستحب.
(قيل:) إن الصلاة بالسواك تفضل على الصلاة بغير سواك سبعين ضعفًا. وقيل: هو خبر.
وإن أراد أن يقرأ بين الصلاتين في صلاته في عشرين ركعة في كل ركعة آية أو بعض آية، يقرأ في الركعة الأولى: ﴿رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾ [البقرة: 201].
(ثم) في الثانية: ﴿رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الكَافِرِينَ﴾ [البقرة: 250]. (ثم) ﴿رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا﴾ [البقرة: 286]. إلى السورة. (ثم) ﴿رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا﴾ [آل عمران: 8]. الآية. (ثم) ﴿رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ﴾ [آل عمران: 193]. الآية. (ثم) ﴿رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ﴾ [آل عمران: 53]. (ثم) ﴿أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا﴾ [الأعراف: 155]. (ثم) ﴿فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي﴾ [يوسف: 101]. (ثم) ﴿رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ﴾ [إبراهيم: 38]. الآية. (ثم) ﴿وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا﴾ [طه: 114]. (ثم) ﴿لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ﴾ [الأنبياء: 87]. (ثم) ﴿رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا﴾ [الأنبياء: 89]. (ثم) ﴿وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ﴾ [المؤمنون: 118]. (ثم) ﴿رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا﴾ [الفرقان: 74]. (ثم) ﴿رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ﴾ [النمل: 19]. (ثم) ﴿يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ﴾ [غافر: 19]. (ثم) ﴿رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ﴾ [الأحقاف: 15]. (الآية) من سورة الأحقاف. (ثم) ﴿رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ﴾ [الحشر: 10]. الآية. (ثم) ﴿رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا﴾ [الممتحنة: 4]. (ثم) ﴿رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا﴾ [نوح: 28].
مهما يُصَلِّ فليقرأ بهذه الآيات. وبالمحافظة على هذه الآيات في الصلاة مواطئًا للقلب واللسان يوشك أن يرقى إلى مقام الإحسان، ولو ردد فرد آية من هذه في ركعتين من الظهر أو العصر كان في جميع الوقت مناجيًا لمولاه، وداعيًا وتاليًا ومصليًا، والدأب في العمل واستيعاب أجزاء النهار بلذاذة وحلاوة من غير سآمة لا يصح إلا لعبد تزكت نفسه بكمال التقوى، والاستقصاء في الزهد في الدنيا، وانتزع منه متابعة الهوى، ومتى بقي على الشخص من التقوى والزهد والهوى بقية لا يدوم روحه في العمل، بل ينشط وقتًا ويسأم وقتًا، ويتناوب النشاط والكسل فيه لبقاء متابعة شيء من الهوى بنقصان تقوًى أو محبة دنيا، وإذا صح في الزهد والتقوى فإن ترك العمل بالجوارح لا يفتر عن العمل بالقلب، فمن رام دوام الروح واستحلاء الدأب في العمل فعليه بحسم مادة الهوى، والهوى روح النفس لا يزول، ولكن تزول متابعته، والنبي — ما استعاذ من وجود الهوى، ولكن استعاذ من متابعته فقال: «أعوذ بك من هوى متُبَّع»، ولم يستعذ من وجود الشح فإنه طبيعة النفس، ولكن استعاذ من طاعته، فقال: «وشح مطاع».
ودقائق متابعة الهوى تتبين على قدر صفاء القلب وعلو الحال، فقد يكون متبعًا للهوى باستحلاء مجالسة الخلق ومكالمتهم أو النظر إليهم، وقد يتبع الهوى بتجاوز الاعتدال في النوم والأكل وغير ذلك من أقسام الهوى المتبع، وهذا شغل من ليس له شغل إلا في الدنيا.
ثم يصلي العبد قبل العصر أربع ركعات، فإن أمكنه تجديد الوضوء لكل فريضة كان أكمل وأتم، ولو اغتسل كان أفضل، فكل ذلك له أثر ظاهر في تنوير الباطن وتكميل الصلاة. ويقرأ في الأربع قبل العصر «إذا زلزلت» «والعاديات» و«القارعة» و«ألهاكم»، ويصلي العصر ويجعل من قراءته في بعض الأيام «والسماء ذات البروج»، وسمعت أن قراءة سورة البروج في صلاة العصر أمان من الدماميل.
ويقرأ بعد العصر ما ذكرنا من الآيات والدعاء وما يتيسر له من ذلك، فإذا صلى العصر ذهب وقت التنقل بالصلاة وبقي وقت الأذكار والتلاوة، وأفضل من ذلك مجالسة من يزهده في الدنيا، ويسدد كلامه عرا التقوى من العلماء الزاهدين المتكلمين بما يقوي عزائم المريدين، فإذا صحت نية القائل والمستمع فهذه المجالسة أفضل من الانفراد والمداومة على الأذكار، وإن عدمت هذه المجالسة وتعذرت، فليتروح بالتنقل في أنواع الأذكار، وإن كان خروجه لحوائجه وأمر معاشه في هذا الوقت يكون أفضل وأولى من خروجه في أول النهار، ولا يخرج من المنزل إلا وهو على الوضوء، وكره جمعٌ من العلماء تحية الطهارة بعد صلاة العصر، وأجازه المشايخ والصالحون، ويقول كلما خرج من منزله: بسم الله، ما شاء الله، حسبي الله، لا قوة إلا بالله، اللهم إليك خرجت وأنت أخرجتني، وليقرأ الفاتحة والمعوذتين، ولا يدع أن يتصدق كل يوم بما يتيسر له ولو تمرة أو لقمة؛ فإن القليل بحسن النية كثير.
وروي أن عائشة -رضي الله عنها- أعطت السائل عنبة واحدة، وقالت: إن فيها لمثاقيل ذر كثير.
وجاء في الخبر: «كل امرئ يوم القيامة تحت ظل صدقته». ويكون من ذكره من العصر إلى المغرب مئة مرة: «لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير».
فقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن من قال ذلك مئة مرة:« كَانَ لَهُ عَدْل عَشْرِ رِقَابٍ، وَكُتِبَتْ لَهُ مئة حَسَنَةٍ، وَمُحِيَتْ عَنْهُ مئة سَيِّئَةٍ، وَكَانَتْ لَهُ حِرْزًا مِنَ الشَّيْطَانِ يَوْمَهُ ذَلِكَ حَتَّى يُمْسِيَ، وَلَمْ يَأْتِ أَحَدٌ بِأَفْضَلَ مِمَّا جَاءَ بِهِ إِلَّا أَحَدٌ عَمِلَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ». ومئة مرة: لا إله إلا الله الملك الحق المبين، فقد ورد: «أن من قال في يومه مئة مرة: لا إله إلا الله الملك الحق المبين لم يعمل أحد في يومه أفضل من عمله». ويقول مئة مرة: سبحان الله والحمد لله الكلمات، ومئة مرة: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم وبحمده، أستغفر الله، ومئة مرة: لا إله إلا الله الملك الحق المبين، ومئة مرة: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، ومئة مرة: أستغفر الله العظيم الذي لا إله إلا هو الحي القيوم، وأسأله التوبة، ومئة مرة: ما شاء الله لا قوة إلا بالله، ورأيت بعض الفقراء من المغرب بمكة وله سبحة فيها ألف حبة في كيس له، ذكر أن ورده أن يديرها كل يوم اثنتي عشرة مرة بأنواع الذكر.
(ونقل) عن بعض الصحابة أن ذلك كان ورده بين اليوم والليلة، ونقل عن بعض التابعين كان ورده من التسبيح ثلاثين ألفًا بين اليوم والليلة، وليقل مئة مرة بين اليوم والليلة هذا التسبيح: سبحان الله العلي الديان، سبحان الله شديد الأركان، سبحان من يذهب بالليل ويأتي بالنهار، سبحان من لا يشغله شأن عن شأن، سبحان الله الحنان المنان، سبحان الله المسبَّح في كل مكان.
(روي) أن بعض الأبدال بات على شاطئ البحر فسمع في هذه الليلة هذا التسبيح، فقال: من الذي أسمع صوته ولا أرى شخصه؟ فقال: أنا ملك من الملائكة موكل بهذا البحر أسبح الله تعالى بهذا التسبيح منذ خلقت. فقلت: ما اسمك؟ فقال: مهليهيائيل. فقلت: ما ثواب هذا التسبيح؟ قال: من قاله مئة مرة لم يمت حتى يرى مقعده من الجنة أو يُرى له.
(وروي) أن عثمان رضى الله عنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تفسير قوله تعالى: ﴿لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ [الزُّمر: 63]. فقال: «سألتني عن شيء عظيم، ما سألني غيرك، هو: لا إله إلا الله، والله أكبر، وسبحان الله، والحمد لله، ولا حول ولا قوة إلا بالله عز وجل، وأستغفر الله الأول الآخر، الظاهر الباطن، له الملك، وله الحمد، بيده الخير وهو على كل شيء قدير، من قالها عشرًا حين يصبح وحين يمسي أعطي ست خصال؛ فأول خصلة: أن يحرس من إبليس وجنوده، الثانية: أن يعطى قنطارًا من الأجر، الثالثة: يرفع له درجة في الجنة، الرابعة: يزوجه الله من الحور العين، الخامسة: اثنا عشر ملكًا يستغفرون له، السادسة: يكون له من الأجر كمن حج واعتمر».
ويقول أيضًا في هذا الوقت وفي أول النهار: اللهم أنت خلقتني، وأنت هديتني، وأنت تطعمني، وأنت تسقيني، وأنت تميتني، وأنت تحييني، أنت ربي، لا رب لي سواك، ولا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك.
ويقول: ما شاء الله لا قوة إلا بالله، ما شاء الله كل نعمة من الله، ما شاء الله الخير كله بيد الله، ما شاء الله لا يصرف السوء إلا الله.
ويقول: حسبي الله، لا إله إلا هو عليه توكلت، وهو رب العرش العظيم، ثم يستعد لاستقبال الليل بالوضوء والطهارة، ويقرأ المسبعات قبل الغروب، ويديم التسبيح والاستغفار بحيث تغيب الشمس وهو في التسبيح والاستغفار، ويقرأ عند الغروب أيضًا والشمس والليل والمعوذتين، ويستقبل الليل كما استقبل النهار.
قال الله تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا﴾ [الفرقان: 62].
فكما أن الليل يعقب النهار، والنهار يعقب الليل ينبغي أن يكون العبد بين الذكر والشكر، يعقب أحدهما الآخر، ولا يتخللهما شيء كما لا يتخلل بين الليل والنهار شيء.
والذكر جميعه أعمال القلب والشكر أعمال الجوارح.
قال الله تعالى: ﴿اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا﴾ [سبأ: 13]. والله الموفق والمعين.