(الباب السادس والعشرون في خاصية الأربعينية التي يتعاهدها الصوفية)
ليس مطلوب القوم من الأربعين شيئًا مخصوصًا لا يطلبونه في غيرها، ولكن لما طرقتهم مخالفات حكم الأوقات أحبوا تقييد الوقت بالأربعين رجاء أن ينسحب حكم الأربعين على جميع زمانهم فيكونوا في جميع أوقاتهم كهيئتهم في الأربعين، على أن الأربعين خصت بالذكر في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أخلص لله أربعين صباحًا ظهرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه». وقد خصَّ الله تعالى الأربعين بالذكر في قصة موسى عليه السلام، وأمره بتخصيص الأربعين بمزيد تبتل، قال الله تعالى: ﴿وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً﴾ [الأعراف: 142]، وذلك أن موسى عليه السلام وعد بني إسرائيل -وهم بمصر- أن الله تعالى إذا أهلك عدوهم واستنقذهم من أيديهم يأتيهم بكتاب من عند الله تعالى فيه تبيان الحلال والحرام والحدود والأحكام، فلما فعل الله ذلك وأهلك فرعون، سأل موسى ربه الكتاب فأمره الله تعالى أن يصوم ثلاثين يومًا وهو ذو القعدة، فلما تمت الثلاثون ليلة أنكر خلوف فمه، فتسوك بعود خرنوب، فقالت له الملائكة: كنا نشم من فيك رائحة المسك، فأفسدته بالسواك فأمره الله تعالى أن يصوم عشرة أيام من ذي الحجة، وقال له: أما علمت أن خلوف فم الصائم أطيب عندي من ريح المسك.
ولم يكن صوم موسى عليه السلام ترك الطعام بالنهار وأكلَه بالليل، بل طوى الأربعين من غير أكل، فدل على أن خلو المعدة من الطعام أصلٌ كبير في الباب، حتى احتاج موسى إلى ذلك مستعدًّا لمكالمة الله تعالى، والعلومُ اللدنية في قلوبِ المنقطعين إلى الله تعالى ضربٌ من المكالمة ومن انقطع إلى الله أربعين يومًا مخلصًا متعاهدًا نفسه بخفة المعدة يفتح الله عليه العلوم اللدنية، كما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، غير أن تعيين الأربعين من المدة في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي أمر الله تعالى موسى عليه السلام بذلك، والتحديد والتقييد بالأربعين لحكمة فيه، ولا يطَّلِع أحد على حقيقة ذلك إلا الأنبياء إذا عرفهم الحق ذلك، أو من يخصه الله تعالى بتعريف ذلك من غير الأنبياء.
ويلوح في سر ذلك معنى والله أعلم، وذلك أن الله تعالى لما أراد بتكوين آدم من تراب قدر التخمير بهذا القدر من العدد كما ورد: خمر طينة آدم بيده أربعين صباحًا، فكان آدم لما كان مستصلحًا لعمارة الدارين.
وأراد الله تعالى منه عمارة الدنيا، كما أراد منه عمارة الجنة كونه من التراب تركيبًا يناسب عالم الحكمة والشهادة، وهذه الدار الدنيا، وما كانت عمارة الدنيا تأتي منه وهو غير مخلوق من أجزاء أرضية سفلية بحسب قانون الحكمة، فمن التراب كوَّنه، وأربعين صباحًا خمَّر طينته؛ ليبعد بالتخمير أربعين صباحًا بأربعين حِجَابًا من الحضرة الإلهية، كل حجاب هو معنى مودع فيه يصلح به لعمارة الدنيا، ويتعوق به عن الحضرة الإلهيةِ ومواطن القرب؛ إذ لو لم يتعوق بهذا الحجاب ما عمرت الدنيا، فتأصل البعد عن مقام القرب فيه لعمارة عالم الحكمة، وخلافة الله تعالى في الأرض، فالتبتل لطاعة الله تعالى، والإقبال عليه والانتزاع عن التوجه إلى أمر المعاش بكل يوم يخرج عن حجاب هو معنى فيه مودع، وعلى قدر زوال كل حجاب ينجذب، ويتخذ منزلًا في القرب من الحضرة الإلهية التي هي مجمع العلوم ومصدرها.
فإذا تمَّت الأربعون زالت الحجب وانصبت إليه العلوم والمعارف انصبابًا، ثم العلوم والمعارف هي أعيان انقلبت أنوارًا باتصال إكسير نور العظمة الإلهية بها، فانقلبت أعيان حديث النفس علومًا إلهاميةً، وتصدت أجرام حديث النفس لقبول أنوار العظمة، فلولا وجود النفس وحديثُها ما ظهرت العلوم الإلهية؛ لأن حديث النفس وعاءٌ وجوديٌّ لقبول الأنوار، وما للقلب في ذاته لقبول العلم شيء.
وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ظهرت ينابيعُ الحكمة من قلبه على لسانه» أشار إلى القلبِ باعتبار أن للقلب وجهًا إلى النفس باعتبار توجهه إلى عالم الشهادة، وله وجه إلى الروح باعتبار توجهه إلى عالم الغيب، فيستمد القلب العلوم المكونة في النفس ويخرجها إلى اللسان الذي هو ترجمانه، فظهور العلوم من القلب؛ لأنها متأصلة فيه، فللقلب والروح مراتب من قرب الملهم سبحانه وتعالى فوق رتب الإلهام، فالعبد بانقطاعه إلى الله تعالى واعتزال الناس يقطع مسافات وجوده، ويستنبط من معدن نفسه جواهر العلوم.
وقد ورد في الخبر: «النَّاس مَعَادِنَ كمعادن الذهب والفضة، خِيَارُهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ خِيَارُهُمْ فِي الْإِسْلَامِ إِذَا فَقِهُوا».
ففي كل يوم بإخلاصه في العمل لله يكشف طبقة من الطباق الترابية الجبلية المبعدة عن الله تعالى إلى أن يكشف باستكمال الأربعين أربعين طبقة في كل يوم طبقة من أطباق حجابه، وآيةُ صحة هذا العبد وعلامة تأثره بالأربعين ووفائه بشروط الإخلاص أن يزهد بعد الأربعين في الدنيا، ويتجافى عن دار الغرور، وينيب إلى دار الخلود؛ لأن الزهد في الدنيا من ضرورة ظهور الحكمة، ومن لم يزهد في الدنيا ما ظفر بالحكمة، ومن لم يظفر بالحكمة بعد الأربعين تبين أنه قد أخلَّ بالشروط ولم يخلص لله تعالى، ومن لم يخلص لله ما عبد الله؛ لأن الله تعالى أمرنا بالإخلاص كما أمرنا بالعمل، فقال تعالى: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾ [البيِّنة: 5].
(أخبرنا) الشيخ طاهرُ بن أبي الفضل -إجازة- قال: أنا أبو بكر أحمد بن خلف -إجازة- قال: أنا أبو عبد الرحمن السلمي قال: أنا أبو منصور الضبعي قال: حدثنا محمد بن أشرس قال: حدثنا حفص بن عبد الله قال: حدثنا إبراهيم بن طهمان عن عاصم عن زر عن صفوان بن عسَّال رضى الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا كان يوم القيامة يجيء الإخلاص والشرك يجثوان بين يدي الرب عزَّ وجل فيقول الرب للإخلاص انطلق أنت وأهلك إلى الجنة، ويقول للشرك: انطلق أنت وأهلك إلى النار».
وبهذا الإسناد قال السلمي: سمعت علي بن سعيد وسألته عن الإخلاص: ما هو؟ قال: سمعت إبراهيم الشقيقي وسألته عن الإخلاص: ما هو؟ قال: سمعت محمد بن جعفر الخصاف وسألته عن الإخلاص: ما هو؟ قال: سألت أحمد بن بشار عن الإخلاص: ما هو؟ قال: سألت أبا يعقوب الشروطي عن الإخلاص: ما هو؟ قال: سألت أحمد بن غسان عن الإخلاص: ما هو؟ قال: سألت أحمد بن علي الهجيمي عن الإخلاص: ما هو؟ قال: سألت الحسن عن الإخلاص: ما هو؟ قال: سألت حذيفة عن الإخلاص: ما هو؟ قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن الإخلاص: ما هو؟ قال: «سألت جبريل عليه السلام عن الإخلاص: ما هو؟ قال سألت رب العزة عن الإخلاص: ما هو؟ قال: هو سر من سري، أودعته قلب من أحببت من عبادي».
فمن الناس من يدخل الخلوة على مراغمة النفس؛ إذ النفس بطبعها كارهةٌ للخلوة، ميالة إلى مخالطة الخلق، فإذا أزعجها عن مقار عادتها وحبسها على طاعة الله تعالى يعقب كل مرارة تدخل عليها حلاوة في القلب.
(قال) ذو النون -رحمه الله-: لم أر شيئًا أبعث على الإخلاص من الخلوة ومن أحب الخلوة فقد استمسك بعمود الإخلاص، وظفر بركن من أركان الصدق، وقال الشبلي -رحمه الله لرجل استوصاه-: الزم الوحدة، وامح اسمك عن القوم، واستقبل الجدار حتى تموت.
(قال) يحيى بن معاذ -رحمه الله-: الوحدة منية الصديقين، ومن الناس من ينبعث من باطنه داعية الخلوة، وتنجذب النفس إلى ذلك، وهذا أتم وأكمل وأدل على كمال الاستعداد.
وقد روي من حال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يدل على ذلك فيما حدثنا شيخنا ضياء الدين أبو النجيب -إملاء- قال: أخبرنا الحافظ إسماعيل بن أحمد المقري قال: أنا جعفر بن الحكاك المكي قال: أنا أبو عبد الصنعاني قال: أنا أبو عبد الله البغوي قال: أنا إسحاق الديري قال: أنا عبد الرزاق عن معمر قال: أخبرني الزهري عن عروة عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: أَوَّلُ مَا بُدِئ بِهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْوَحْي الرُّؤْيَا الصادقة فِي النَّوْمِ، فَكَانَ لَا يَرَى رُؤْيَا إِلَّا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ، ثُمَّ حُبِّبَ إِلَيْهِ الْخَلَاءُ، فَكَانَ يأتي حِرَاء فَيَتَحَنَّثُ فِيهِ اللَّيَالِيَ ذَوَاتِ الْعَدَدِ وَيَتَزَوَّدُ لِذَلِكَ، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى خَدِيجَةَ، فَيَتَزَوَّدُ لِمِثْلِهَا، حَتَّى جَاءَهُ الْحَقُّ وَهُوَ فِي غَارِ حِرَاءٍ، فَجَاءَهُ الْمَلَكُ فيه فَقَالَ: اقْرَأْ. فَقَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَا أَنَا بِقَارِئٍ، فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْد، ثُمَّ أَرْسَلَنِي، فَقَالَ اقْرَأْ. فَقُلْتُ مَا أَنَا بِقَارِئٍ، فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّانِيَةَ حَتَّى بَلَغَ مِن الْجَهْد، ثُمَّ أَرْسَلَنِي، فَقَالَ اقْرَأْ. فَقُلْتُ مَا أَنَا بِقَارِئٍ. فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّالِثَةَ حتى بلغ مني الجهد، ثُمَّ أَرْسَلَنِي، فَقَالَ: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ﴾ [العلق: 1، 2]. حتى بلغ ﴿مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾ [العلق: 5]». فَرَجَعَ بِهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ترجف بوادره، حتى دَخَلَ عَلَى خَدِيجَةَ فَقَالَ: «زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي»، فَزَمَّلُوهُ حَتَّى ذَهَبَ عَنْهُ الرَّوْعُ، فَقَالَ لِخَدِيجَةَ: «ما لي؟» وَأَخْبَرَهَا الْخَبَرَ، فقال: «قَدْ خَشِيتُ عَلَى عقلي». فَقَالَتْ: كَلَّا، أبشر فَوَاللهِ لا يُخْزِيكَ اللهُ أَبَدًا، إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وتصدق الحديث، وَتَحْمِلُ الْكَلَّ، وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ. ثم انْطَلَقَتْ بِهِ خَدِيجَةُ حَتَّى أَتَتْ بِهِ وَرَقَةَ بْنَ نَوْفَلِ وَكَانَ امْرَأً تَنَصَّرَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَكَانَ يَكْتُبُ الْكِتَابَ العربي، وَيَكْتُبُ مِنَ الإِنْجِيلِ بالعربية مَا شَاءَ اللهُ أَنْ يَكْتُبَ، وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا قَدْ عَمِيَ، فَقَالَتْ لَهُ خَدِيجَةُ يَا عَمِّ اسْمَعْ مِنَ ابْنِ أَخِيكَ. فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ يَا ابْنَ أَخِي مَاذَا تَرَى؟ فَأَخْبَرَهُ الخبر رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم. فَقَالَ لرسول الله صلى الله عليه وسلم: هَذَا هو النَّامُوسُ الَّذِي أنزل عَلَى مُوسَى يَا لَيْتَنِي جَذَعًا، لَيْتَنِي فيها أَكُونُ حَيًّا حين يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «أَوَمُخْرِجِيَّ هُمْ؟». قَالَ ورقة: نَعَمْ، إنه لَمْ يَأْتِ أحد قَطُّ بمَا جِئْتَ بِهِ إِلَّا عُودِيَ وأوذي، وَإِنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُكَ أَنْصُرْكَ نَصْرًا مُؤَزَّرًا.
وحدث جابر بن عبد الله رضى الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يُحَدِّثُ عَنْ فَتْرَةِ الْوَحْيِ فَقَالَ فِي حَدِيثِهِ: «فبينما أَنَا أَمْشِي سَمِعْتُ صَوْتًا مِنَ السَّمَاءِ، فَرَفَعْتُ رأسي فَإِذَا الْمَلَكُ الَّذِي جَاءَنِي بِحِرَاءٍ جَالِسٌ عَلَى كُرْسِيٍّ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ، فجثثت مِنْهُ رعبًا، فَقُلْتُ: زَمِّلُونِي زملوني، فدثروني. فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ﴾ [المدَّثر: 1، 2]. إِلَى: ﴿وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ﴾ [المدَّثر: 5]».
وقد نقل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذهب مرارًا كي يردي نفسه من شواهق الجبال، فكلما وافى ذروة جبل لكي يلقي نفسه منه تبدى له جبرائيل —، فقال: يا محمد، إنك لرسول الله حقًّا فيسكن لذلك جأشه وإذا طالت عليه فترة الوحي عاد لمثل ذلك، فيتبدى له جبريل، فيقول له مثل ذلك.
فهذه الأخبار المنبئة عن بدء أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم هي الأصل في إيثار المشايخ الخلوة للمريدين والطالبين، فإنهم إذا أخلصوا لله تعالى في خلواتهم يفتح الله عليهم ما يؤنسهم في خلوتهم تعويضًا من الله إياهم عما تركوا لأجله، ثم خلوة القوم مستمرة، وإنما الأربعون واستكمالها له أثر ظاهر في ظهور مبادي بشائر الحق سبحانه وتعالى وسنوح مواهبه السنيَّة.