(الباب الثاني في تخصيص الصوفية بحسن الاستماع)
حدثنا شيخنا شيخ الإسلام أبو النجيب السهروردي -إملاء- قال: أنا أبو منصور المُقْرِي، قال: أنا الإمام الحافظ أبو بكر الخطيب، قال: أنا أبو عمرو الهاشمي، قال: أنا أبو علي اللؤلؤي قال: أنا أبو داود السجستاني قال: حدثنا مسدد قال: حدثنا يحيى عن شعبة قال: حدثني عمر بن سليمان -من ولد عمر بن الخطاب- عن عبد الرحمن بن أبان عن أبيه عن زيد بن ثابت قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «نَضَّرَ اللهُ امْرَأً سَمِعَ مِنَّا حَدِيثًا فَحَفِظَهُ حَتَّى يُبَلِّغَهُ غيره، فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ، وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ ولَيْسَ بِفَقِيهٍ». أساس كل خير حسن الاستماع. قال الله تعالى: ﴿وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ﴾ [الأنفال: 23].
يقول بعضهم: علامة الخير في السماع أن يسمع العبد بغناء أوصافه ونعوته، ويسمعه بحق من حق. وقال بعضهم: لو عَلِمَهُمْ أهلًا للسماع لفتح آذانهم للاستماع، فمن تملكته الوساوس وغلب على باطنه حديث النفس لا يقدر على حسن الاستماع، فالصوفية وأهل القرب لما علموا أن كلام الله تعالى ورسائله إلى عباده ومخاطباته إياهم رَأَوْا كل آية من كلامه تعالى بحرًا من أبحر العلم بما تتضمن من ظاهر العلم وباطنه، وجليه وخفيه، وبابًا من أبواب الجنة باعتبار ما تُنَبِّهُ أو تدعو إليه من العمل، ورَأَوْا كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق به عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى، من عند الله تعالى يتعين الاستماع إليه، فكان من أهم ما عندهم الاستعداد للاستماع، ورَأَوْا أن حسن الاستماع قرع باب الملكوت، واستنزال بركة الرغبوت والرهبوت، ورَأَوْا أن الوساوس أدخنة ثائرة من نار النفس الأمارة بالسوء وقتام يتراكم من نفث الشيطان، وإن الحظوظ العاجلة والأقسام الدنيوية التي هي مناط الهوى ومثار الردى بمثابة الحطب الذي تزداد النار به تأججًا، ويزداد القلب به تحرجًا، فرفضوا الدنيا وزهدوا فيها، فلما انقطعت عن نار النفس أحطابها، وفترت نيرانها وقل دخانها، شهدت بواطنهم، وقلوبهم مصادر العلوم، فهيئوا مواردها بصفاء الفهوم، فلما شهدوا سمعوا.
قال الله تعالى: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ﴾ [ق: 37]، (قال الشبلي) -رحمه الله-: موعظة القرآن لمن قلبه حاضر مع الله، لا يغفل عنه طرفة عين.
قال يحيى بن معاذ الرازي: القلب قلبان؛ قلب: قد احتشى بأشغال الدنيا حتى إذا حضر أمرٌ من أمور الطاعة لم يَدْرِ صاحبه ما يصنع من شغل قلبه بالدنيا، وقلب: قد احتشى بأحوال الآخرة حتى إذا حضر أمرٌ من أمور الدنيا لم يدر صاحبه ما يصنع؛ لذهاب قلبه في الآخرة. فانظر، كم بين بركة تلك الأفهام الثابتة وشؤم هذه الأشغال الفانية التي أقعدتك عن الطاعة.
وقال بعضهم: لمن كان له قلب سليم من الأغراض والأمراض. قال الحسين بن منصور: لمن كان له قلب لا يخطر فيه إلا شهود الرب، وأنشد:
أنعي إليك قلوبًا طالما هطلت |
* | سحائبُ الوحي فيها أبحرَ الحِكَم |
(وقال) ابن عطاء: قلب لَاحَظَ الحق بعين التعظيم فذاب له وانقطع إليه عما سواه.
وقال الواسطي: أي ﴿لَذِكْرَى﴾ لقوم مخصوصين لا لسائر الناس. لمن كان له قلب؛ أي: في الأزل. وهم الذين قال الله تعالى فيهم: ﴿أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ﴾ [الأنعام: 122].
وقال أيضًا: المشاهدة تُذْهِل، والحجبة تُفْهِم؛ لأن الله تعالى إذا تجلى لشيء خضع له وخشع، وهذا الذي قاله الواسطي صحيح في حق أقوام، وهذه الآية تَحْكُمُ بخلاف هذا لأقوام آخرين، وهم أرباب التمكين، يُجْمَع لهم بين المشاهدة والفهم، فموضع الفهم محل المحادثة والمكالمة، وهو سمع القلب، وموضع المشاهدة بصر القلب، وللسمع حكمة وفائدة، وللبصر حكمة وفائدة، فمن هو في سُكْر الحال يغيب سَمْعُهُ في بصره، ومن هو في حال الصحو والتمكين لا يغيب سمعه في بصره؛ لتملكه ناصية الحال ،ويفهم بالوعاء الوجودي المستعد لفهم المقال؛ لأن الفهم مورد الإلهام والسماع، والإلهام والسماع يستدعيان وعاءً وجوديًّا، وهذا الوجود موهوب مُنَشَّأٌ إنشاءً ثانيًا، للتمكن في مقام الصحو، وهو غير الوجود الذي يتلاشي عند لمعان نور المشاهدة لمن جاز على ممر الفناء إلى مقارِّ البقاء.
وقال ابن سمعون: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ﴾ يعرف آداب الخدمة، وآداب القلب، وهي ثلاثة أشياء، فالقلب إذا ذاق طعم العبادة عُتِقَ من رِقِّ الشهوة، فمن وقف على شهوته وجد ثُلُث الأدب، ومن افتقر إلى ما لم يجد من الأدب بعد الاشتغال بما وجد فقد وجد ثلثي الأدب. والثالث: امتلاء القلب بالذي بدأ بالفضل عند الوفاء تفضلًا فقد وجد كل الأدب.
وقال محمد بن علي الباقر: موت القلب من شهوات النفس، فكلما رفض شهوةً نال من الحياة بقسطها، فالسماع للأحياء لا للأموات، قال الله تعالى: ﴿إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ المَوْتَى﴾ [النمل: 80].
قال سهل بن عبد الله: القلب رقيق تؤثر فيه الخطرات المذمومة، وأثر القليل عليه كثير، قال الله تعالى: ﴿وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ﴾ [الزُّخرف: 36]، فالقلب عَمَّال لا يفتر، والنفْس يقظانة لا ترقد، فإن كان العبد مستمعًا إلى الله تعالى، وإلا فهو مستمعٌ إلى الشيطان والنفْس، فكل شيء سَدَّ باب الاستماع فمن حركة النفْس، وفي حركتها يَطْرُق الشيطان.
(وقد ورد): «لولا أن الشياطين يحومون على قلوب بني آدم لنظروا إلى ملكوت السماوات».
وقال الحسين: بصائر المبصرين ومعارف العارفين ونور العلماء الربانيين وطرق السابقين الناجين والأزل والأبد وما بينهما من الحدث لمن كان له قلب أو ألقى السمع.
وقال ابن عطاء: هو القلب الذي يلاحظ الحق ويشاهده ولا يغيب عنه خطرة ولا فترة فيسمع به، بل يسمع منه ويشهد به، بل يشهده، فإذا لاحظ القلب الحق بعين الجلال فزع وارتعد، وإذا طالعه بعين الجمال هدأ واستقر.
وقال بعضهم: لمن كان له قلب بصير يقوى على التجريد مع الله تعالى، والتفريد له حتى يخرج من الدنيا والخلق والنفْس، فلا يشتغل بغيره، ولا يركن إلى سواه فقلب الصوفي مجرد عن الأكوان ألقى سمعه وشهد بصره، فسمع المسموعات وأبصر المبصرات وشاهد المشهودات؛ لتخلصه إلى الله تعالى، واجتماعه بين يدي الله، والأشياء كلها عند الله، وهو عنده، فسمع وشاهد، فأبصر وسمع جُمَلَهَا، ولم يسمع ويشاهد تفاصيلها؛ لأن الجُمَلَ تدرك لسعة عين الشهود، والتفاصيل لا تدرك لضيق وعاء الوجود، والله تعالى هو العالم بالجمل والتفاصيل، وقد مثل بعض الحكماء تفاوت الناس في الاستماع وقال: إن الباذِر خرج ببذره، فملأ منه كفه فوقع منه شيء على ظهر الطريق، فلم يلبث أن انحط عليه الطير فاختطفه، ووقع منه شيء على الصفوان -وهو الحجر الأملس- عليه تراب يسير وندى قليل، فنبت حتى إذا وصلت عروقه إلى الصفا لم تجد مساغًا تنفذ فيه، فيبس، ووقع منه شيء في أرض طيبة فيها شوكٌ نابتٌ فنبت، فلما ارتفع خنقه الشوك فأفسده، واختلط به ووقع منه شيء على أرض طيبة ليست على ظهر الطريق ولا على الصفوان ولا فيها شوك فنبت ونما وصلح.
فمثل الباذر مثل الحكيم، ومثل البذر كمثل صواب الكلام، ومثل ما وقع على ظهر الطريق مثل الرجل يسمع الكلام وهو لا يريد أن يسمعه، فما يلبث الشيطان أن يختطفه من قلبه فينساه، ومثل الذي وقع على الصفوان مثل الرجل يستمع الكلام فيستحسنه، ثم تُفْضِي الكلمةُ إلى قلبٍ ليس فيه عزم على العمل، فيُنْسَخُ من قلبه.
ومثل الذي وقع في أرض طيبة فيها شوكٌ مثل الرجل يسمع الكلام وهو يَنْوِي أن يعمل به، فإذا اعترضت له الشهوات قيدته عن النهوض بالعمل، فيترك ما نوى عمله؛ لغلبة الشهوة، كالزرع يختنق بالشوك.
ومثل الذي وقع في أرض طيبة مثل المستمع الذي ينوي عمله، فيفهمه ويعمل به، ويجانب هواه، وهذا الذي جانب الهوى وانتهج سبيل الهدى هو الصوفي؛ لأن للهوى حلاوة، والنفس إذا تَشَرَّبَت حلاوة الهوى فهي تركن إليه وتستلذه، واستلذاذ الهوى هو الذي يخنُقُ النبت كالشوك، وقلب الصوفي نازله حلاوة الحب الصافي، والحب الصافي تعلق الروح بالحضرة الإلهية، ومن قوة انجذاب الروح إلى الحضرة الإلهية بداعية الحب تستتبع القلب والنفس، وحلاوة الحب للحضرة الإلهية تغلب حلاوة الهوى؛ لأن حلاوة الهوى كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار؛ لكونها لا ترتقي عن حد النفس، وحلاوة الحب كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء؛ لأنها متأصلة في الروح، فرعها عند الله تعالى، وعروقها ضاربة في أرض النفس، فإذا سمع الكلمة من القرآن أو من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم يتشربها بالروح والقلب والنفس، ويفديها بكُلِّيَّته، ويقول:
أَشُمُّ منك نَسِيمًا لستُ أعرفه |
* | أظن لمياء جرت فيك أذيالا |
فتعمه الكلمة وتشمله، وتصير كل شعرة منه سمعًا، وكل ذرة منه بصرًا، فيسمع الكل بالكل، ويبصر الكل بالكل، ويقولون:
إن تأملتكم فكلي عيون |
* | أو تذكرتكم فكلي قلوب |
قال الله تعالى: ﴿فَبَشِّرْ عِبَادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ القَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الأَلْبَابِ﴾ [الزُّمر: 17، 18].
قال بعضهم: اللب والعقل مئة جزء؛ تسعة وتسعون في النبي صلى الله عليه وسلم، وجزء في سائر المؤمنين، والجزء الذي في سائر المؤمنين واحد وعشرون سهمًا، فسهم يتساوى المؤمنون كلهم فيه، وهو شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وعشرون جزءًا يتفاضلون فيها على مقادير حقائق إيمانهم.
قيل: في هذه الآية إظهار فضيلة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ أي: الأحسن ما يأتي به؛ لأنه لما وقعت له صحبة التمكين، ومقارنة الاستقرار قبل خلق الكون ظهرت عليه الأنوار في الأحوال كلها، وكان معه أحسن الخطاب، وله السبق في جميع المقامات، ألا تراه صلى الله عليه وسلم يقول: «نَحْنُ الآخِرُونَ السَّابِقُونَ». يعني: الآخرون وجودًا، السابقون في الخطاب الأول في الفضل في محل القدس.
وقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا للهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ﴾ [الأنفال: 24].
قال الجُنَيْد: تنسموا روح ما دعاهم إليه فأسرعوا إلى محو العلائق المشغلة، وهجموا بالنفوس على معانقة الحذر، وتجرعوا مرارة المكابدة، وصدقوا الله في المعاملة، وأحسنوا الأدب فيما توجهوا إليه، وهانت عليهم المصائب، وعرفوا قدر ما يطلبون، وسجنوا هممهم عن التفلت إلى مذكور سوى وليهم، فَحَيَوْا حياةَ الأبد بالحي الذي لم يَزَلْ ولا يَزَالُ.
(وقال الواسطي) -رحمه الله تعالى-: حياة بها تصفيتها عن كل معلول لفظًا وفعلًا.
وقال بعضهم: استجيبوا لله بسرائركم، وللرسول بظواهركم، فحياة النفوس بمتابعة الرسول صلى الله عليه وسلم، وحياة القلوب بمشاهدة الغيوب، وهو الحياء من الله تعالى برؤية التقصير.
(وقال ابن عطاء): في هذه الآية الاستجابة على أربعة أوجه؛ أولها: إجابة التوحيد، والثاني: إجابة التحقيق، والثالث: إجابة التسليم، والرابع: إجابة التقريب، فالاستجابة على قدر السماع، والسماع من حيث التفهم، والفهم على قدر المعرفة بقدر الكلام، والمعرفة بالكلام على قدر المعرفة والعلم بالمتكلم، ووجوه الفهم لا تنحصر؛ لأن وجوه الكلام لا تنحصر.
قال الله تعالى: ﴿قُلْ لَوْ كَانَ البَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ البَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي﴾ [الكهف: 109]. فالله تعالى في كل كلمة من القرآن كلماتُه التي ينفد البحر دون نفادها، فكل الكلام كلمةٌ نظرًا إلى ذات التوحيد، وكل كلمة كلماتٌ نظرًا لسعة العلم الأزلي.
(حدثنا) شيخنا أبو النجيب السهروردي قال: أنبأنا الرئيس أبو علي بن نبهان، قال: أنا الحسن بن شاذان، قال: أنا دعلج بن أحمد، قال: أنا أبو الحسن بن عبد العزيز البغوي، قال: أنا أبو عبيد بن القاسم بن سلام قال: حدثنا حجاج عن حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن الحسن، يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما نزل من القرآن آية إلا ولها ظهر وبطن، ولكل حرف حَدٌّ، ولكل حد مطلعٌ». قال: فقلت: يا أبا سعيد، ما المطلع؟ قال: يَطْلُعُ قوم يعملون به.
قال أبو عبيد: أحسِب أن قول الحسن هذا إنما ذهب إلى قول عبد الله بن مسعود.
قال أبو عبيد: حدثني حجاج عن شعبة عن عمرو بن مُرَّةَ عن مُرَّةَ عن عبد الله بن مسعود قال: ما من حرف أو آية إلا وقد عمل بها قوم، أو لها قوم سيعملون بها، فالمطلَع: المصعد يصعد إليه من معرفة علمه، فيكون المطلَع الفَهْم بفتح الله تعالى على كل قلب بما يرزق من النور، واختلف الناس في معنى الظهر والبطن. قال قوم: الظهر: لفظ القرآن، والبطن: تأويله. وقيل: الظهر: صورة القصة مما أخبر الله تعالى عن غضبه على قومٍ وعقابه إياهم، فظاهر ذلك إخبارٌ عنهم، وباطنه عِظَةٌ وتنبيه لمن يقرأ ويسمع من الأمة. وقيل: ظاهره: تنزيله الذي يجب الإيمان به، وباطنه: وجوب العمل به. وقيل: ظهره: تلاوته كما أنزل. قال الله تعالى: ﴿وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا﴾ [المزمل: 4]. وبطنه: التدبير والتفكر فيه. قال الله تعالى: ﴿كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ [ص: 29].
وقيل: قوله: «لكل حرف حد» أي: في التلاوة، لا يجاوز المصحف الذي هو الإمام، وفي التفسير: لا يجاوز المسموع المنقول، وفرق بين التفسير والتأويل، فالتفسير علم نزول الآية وشأنها وقصتها والأسباب التي نزلت فيها، وهذا محظور على الناس كافةً القول فيه، إلا بالسماع والأثر، وأما التأويل: فصرف الآية إلى معنًى تحتمله، إذا كان المحتمل الذي يراه يوافق الكتاب والسنة، فالتأويل يختلف باختلاف حال المُئَوِّل على ما ذكرناه من صفاء الفهم، ورتبة المعرفة، ومنصب القرب من الله تعالى.
(قال أبو الدرداء): لا يفقه الرجل كل الفقه حتى يرى للقرآن وجوهًا كثيرة، فما أعجب قول عبد الله بن مسعود: ما من آية إلا ولها قوم سيعملون بها، وهذا الكلام مُحَرِّضٌ لكل طالبٍ صاحبِ هِمَّةٍ أن يُصَفِّيَ مواردَ الكلام، ويفهم دقيق معانيه وغامض أسراره من قلبه، فللصوفي بكمال الزهد في الدنيا، وتجريد القلب عما سوى الله تعالى مطلعٌ من كل آية، وله بكل مرة في التلاوة مطلعٌ جديد، وفهم عتيد، وله بكل فهم عمل جديد، ففهمهم يدعو إلى العمل، وعملهم يجلب صفاء الفهم ودقيق النظر في معاني الخطاب، فمن الفهم علم، ومن العلم عمل، والعلم والعمل يتناوبان فيه، وهذا العمل آنفا إنما هو عمل القلوب، وعمل القلوب غير عمل القالب، وأعمال القلوب للطفها وصداقتها مشاكلةٌ للعلوم؛ لأنها نيات وطويات وتعلقات روحية، وتأدبات قلبية، ومسامرات سرية، وكلما أَتَوْا بعملٍ من هذه الأعمال رُفِعَ لهم عِلْمٌ من العلم، واطلعوا على مَطْلَعٍ من فهم الآية جديد، ويخالج سري أن يكون المَطْلَعُ ليس بالوقوف بصفاء الفهم على دقيق المعنى وغامض السر في الآية، ولكن المطلع أن يطلع عند كل آية على شهود المتكلم بها؛ لأنها مُسْتَوْدَعُ وَصْفٍ من أوصافه ونعتٍ من نعوته، فتتجدد له التجليات بتلاوة الآيات وسماعها، ويصير له مَرَاءٍ مُنْبِئَةٌ عن عظيم الجلال.
ولقد نُقِلَ عن جعفر الصادق رضى الله عنه أنه قال: لقد يُجْلِي الله تعالى لعباده في كلامه، ولكن لا يبصرون، فيكون لكل آية مَطْلَعٌ من هذه الوجه، فالحدُّ: حد الكلام، والمَطْلَعُ: الترقي عن حد الكلام إلى شهود المتكلم.
وقد نقل عن جعفر الصادق أيضًا أنه خر مغشيًّا عليه وهو في الصلاة، فسئل عن ذلك فقال: ما زلت أردد الآية حتى سمعتها من المتكلم بها، فالصوفي لما لاح له نور ناصية التوحيد، وألقى سمعه عند سماع الوعد والوعيد، وقلبه بالتخلص عما سوى الله تعالى صار بين يدي الله حاضرًا شهيدًا، يرى لسانه أو لسان غيره في التلاوة كشجرة موسى عليه السلام حيث أسمعه الله منها خطابه إياه، بأني أنا الله، فإذا كان سماعه من الله تعالى، واستماعه إلى الله صار سمعه بصره، وبصره سمعه، وعلمه عمله، وعمله علمه، وعاد آخره أوله، وأوله آخره، ومعنى ذلك أن الله تعالى خاطب الذَّرَّ بقوله:﴿أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ﴾ [الأعراف: 172]. فسَمِعَتِ النداءَ على غاية الصفاء، ثم لم تزل الذرات تتقلب في الأصلاب وتنتقل إلى الأرحام.
قال الله تعالى: ﴿الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ (218) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ﴾ [الشعراء: 218، 219]؛ يعني: تقلُّب ذرتك في أصلاب أهل السجود من آبائك الأنبياء، فما زالت تنتقل الذرات حتى برزت بين أجسادها، فاحتجبت بالحكمة عن القدرة، وبعالم الشهادة عن عالم الغيب، وتراكم ظلمتها بالتقلب في الأطوار، فإذا أراد الله تعالى بالعبد حُسْنَ الاستماع بأن يصيره صوفيًّا صافيًا لا يزال يرقيه في رتب التزكية والتحلية حتى يخلص من مَضِيق عالم الحكمة إلى فضاء القدرة، ويُزال عن بصيرته النافذة سجف الحكمة، فيصير سماعه: ألست بربكم كشفًا وعيانًا، وتوحيده وعرفانه تبيانًا وبرهانًا وتندرج له ظُلَمُ الأطوار في لوامع الأنوار.
قال بعضهم: أنا أذكر خطاب: ألست بربكم، إشارة منه إلى هذا الحال. فإذا تحقق الصوفي بهذا الوصف صار وقته سرمدًا، وشهوده مؤبدًا، وسماعه متواليًا متجددًا، يسمع كلام الله تعالى وكلام رسوله حق السماع.
قال سفيان بن عيينة: أول العلم الاستماع، ثم الفهم، ثم الحفظ، ثم العمل، ثم النشر، وقال بعضهم: تعلم حُسْنَ الاستماع كما تتعلم حسن الكلام. وقيل: من حسن الاستماع إمهالُ المتكلم حتى يقضي حديثه، وقلة التلفت إلى الجوانب، والإقبال بالوجه، والنظر إلى المتكلم، والوعي.
قال الله تعالى لنبيه —: ﴿وَلَا تَعْجَلْ بِالقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ﴾ [طه: 114].
وقال: ﴿لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ﴾ [القيامة: 16].
هذا تعليم من الله تعالى لرسوله عليه السلام حسن الاستماع. قيل: معناه: لا تُمْلِهِ على الصحابة حتى تتدبر معانيه، حتى تكون أنت أول من يَخْلُص بغرائبه وعجائبه. وقيل: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه جبرائيل عليه السلام وأوحى إليه لا يفتر من قراءة القرآن مخافة الانفلات والنسيان، فنهاه الله تعالى عن ذلك؛ أي: لا تعجل بقراءته قبل أن يفرغ جبرائيل من إلقائه إليك. وقد تكون مطالعة العلوم وأخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم بمعنى السماع، ويحتاج المطالع للعلوم والأخبار وسير أهل الصلاح وحكاياتهم وأنواع الحكم والأمثال التي فيها نجاة من عذاب الآخرة أن يكون في ذلك كله متأدبًا بآداب حسن الاستماع؛ لأنه نوع من ذلك، وكما أن القلب استعد بحسن الاستماع بالزهادة والتقوى حتى أخذ من كل ما سمعه أحسنه، فيكون آخذًا بالمطالعة من كل شيء أحسنه.
ومن الأدب في المطالعة أن العبد إذا أراد أن يطالع شيئًا من الحديث والعلم يَعْلَمُ أنه قد تكون مطالعة ذلك بداعية النفس وقلة صبرها على الذكر والتلاوة والعمل، فتستروح بالمطالعة كما تَتَرَوَّح بمجالسة الناس ومكالمتهم، فليتفقد المتفطن نفسه في ذلك، ولا يستحلي مطالعة الكتب إلى حَدٍّ يأخذ ذلك من وقته، ويراعي الإفراط فيه، فإذا أراد مطالعة كتاب أو شيء من العلم لا يبادر إليه إلا بعد التثبت والإنابة والرجوع إلى الله تعالى، وطلب التأييد من رحمة الله تعالى فيه؛ فإنه قد يُرْزَقُ بالمطالعة ما يكون من مزيد حاله، ولو قدم الاستخارة لذلك كان حسنًا؛ فإن الله تعالى يفتح عليه باب الفهم والتفهيم موهبةً من الله زيادةً على ما يتبين من صورة العلم، فللعلم صورة ظاهرة، وسر باطن؛ وهو الفهم.
والله تعالى نَبَّه على شرف الفهم بقوله: ﴿فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا﴾ [الأنبياء: 79]. أشار إلى الفهم بمزيد اختصاصٍ وتمييزٍ عن الحكم والعلم.
قال الله تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ﴾ [فاطر: 22]. فإذا كان المُسْمِع هو الله تعالى يُسْمِع تارةً بواسطة اللسان، وتارة بما يرزق بمطالعة الكتب من التبيان، فصار ما يفتح الله تعالى بمطالعة الكتب على معنى ما يرزق من المسموع ببركة حسن الاستماع؛ ليتفقد العبد حاله في ذلك، ويتعلم علمه وأدبه؛ فإنه باب كبير من أبواب الخير، وعمله صالح من أعمال المشايخ والصوفية والعلماء الزاهدين المتبتلين لاستفتاح أبواب الرحمة، والمزيد من كل شيء ينفع سلوك الآخرة.
(الباب الثالث في بيان فضيلة علوم الصوفية والإشارة إلى أنموذج منها)