(الباب الثاني والستون في شرح كلمات مشيرة إلى بعض الأحوال في اصطلاح الصوفية)
(أخبرنا) الشيخ الثقة أبو الفتح محمد بن عبد الباقي بن سليمان -إجازة- قال: أنا أبو الفضل حمد بن أحمد قال: أنا: الحافظ أبو نعيم الأصفهاني قال: حدثنا محمد بن إبراهيم قال: حدثنا أبو مسلم الكشي قال: حدثنا مسور بن عيسى قال: حدثنا القاسم بن يحيى قال: حدثنا ياسين الزيات عن أبي الزبير عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«إن من معادن التقوى تعلمك إلى ما قد علمت علم ما لم تعلم، والنقص فيما علمت قلة الزيادة فيه، وإنما يُزَهِّدُ الرجلَ في علم ما لم يعلم قلةُ الانتفاع بما قد علم».
فمشايخ الصوفية أحكموا أساس التقوى، وتعلموا العلم لله تعالى، وعملوا بما علموا لموضع تقواهم، فعلمهم الله تعالى ما لم يعلموا من غرائب العلوم ودقيق الإشارات، واستنبطوا من كلام الله تعالى غرائب العلوم وعجائب الأسرار، وترسخ قدمهم في العلم.
(قال) أبو سعيد الخراز: أول الفهم لكلام الله العمل به؛ لأن فيه العلم والفهم والاستنباط، وأول الفهم إلقاء السمع والمشاهدة لقوله تعالى: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ﴾ [ق: 37].
(وقال أبو بكر) الواسطي: الراسخون في العلم هم الذين رسخوا بأرواحهم في غيب الغيب وفي سر السر، فعرَّفهم ما عرفهم، وأراد منهم من مقتضى الآيات ما لم يُرِد من غيرهم، وخاضوا بحر العلم بالفهم لطلب الزيادات، فانكشف لهم من مدخور الخزائن والمخزون تحت كل حرف وآية من الفهم وعجائب النص، فاستخرجوا الدرر والجواهر ونطقوا بالحكمة.
(وقد ورد في الخبر) عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه سفيان بن عيينة عن ابن جريج عن عطاء عن أبي هريرة أنه قال: «إن من العلم كهيئة المكنون، لا يعلمه إلا العلماء بالله، فإذا نطقوا به لا ينكره إلا أهل الغرة بالله».
(أخبرنا) أبو زرعة قال: أنا أبو بكر بن خلف قال: حدثنا أبو عبد الرحمن قال: سمعت النصرآباذي يقول: سمعت ابن عائشة يقول: سمعت القرشي يقول: هي أسرار الله تعالى يبديها إلى أمناء أوليائه وسادات النبلاء، من غير سماع ولا دراسة، وهي من الأسرار التي لم يطلع عليها إلا الخواص.
(وقال) أبو سعيد الخراز: للعارفين خزائن أودعوها علومًا غريبة وأنباءً عجيبة، يتكلمون فيها بلسان الأبدية، ويخبرون عنها بعبارة الأزلية، وهي من العلم المجهول، فقوله: بلسان الأبدية وعبارة الأزلية؛ إشارة إلى أنهم بالله ينطقون.
وقد قال تعالى على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم: «بي ينطق». وهو العلم اللدني الذي قال الله تعالى فيه في حق الخضر: ﴿آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا﴾ [الكهف: 65]. فمما تداولته ألسنتهم من الكلمات تفهيمًا من بعضهم للبعض وإشارة منهم، أحوال يجدونها، ومعاملات قلبية يعرفونها.
قولهم: الجمع والتفرقة.
(قيل): أصل الجمع والتفرقة قوله تعالى: ﴿شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾ [آل عمران: 18]؛ فهذا جمع، ثم فرق فقال: ﴿وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ﴾ [آل عمران: 18]. وقوله تعالى: ﴿آمَنَّا بِاللهِ﴾ [البقرة: 136]. جمع ثم فرق بقوله: ﴿وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا﴾ [البقرة: 136]. والجمع أصل، والتفرقة فرع، فكل جمع بلا تفرقة زندقة، وكل تفرقة بلا جمع تعطيل.
(وقال الجنيد): القرب بالوجد جمع، وغيبته في البشرية تفرقة. وقيل: جمعهم في المعرفة، وفرقهم في الأحوال، والجمع: اتصال لا يشاهد صاحبه إلا الحق، فمتى شاهد غيره فما جمع، والتفرقة شهود لمن شاء بالمباينة، وعباراتهم في ذلك كثيرة، والمقصود أنهم أشاروا بالجمع إلى تجريد التوحيد، وأشاروا بالتفرقة إلى الاكتساب، فعلى هذا لا جمع إلا بتفرقة.
ويقولون: فلان في عين الجمع، يعنون استيلاء مراقبة الحق على باطنه، فإذا عاد إلى شيء من أعماله عاد إلى التفرقة، فصحة الجمع بالتفرقة، وصحة التفرقة بالجمع؛ فهذا يرجع حاصله إلى أن الجمع من العلم بالله، والتفرقة من العلم بأمر الله، ولابد منهما جميعًا.
(قال) المزين: الجمع عين الفناء بالله، والتفرقة العبودية متصل بعضها بالبعض، وقد غلط قوم وادعوا أنهم في عين الجمع، وأشاروا إلى صرف التوحيد، وعطلوا الاكتساب فتزندقوا، وإنما الجمع حكم الروح، والتفرقة حكم القالب، وما دام هذا التركيب باقيًا فلا بد من الجمع والتفرقة.
(وقال) الواسطي: إذا نظرت إلى نفسك فرقت، وإذا نظرت إلى ربك جمعت، وإذا كنت قائمًا بغيرك فأنت فانٍ بلا جمع ولا تفرقة.
(وقيل): جمعهم بذاته، وفرقهم في صفاته، وقد يريدون بالجمع والتفرقة أنه إذا أثبت لنفسه كسبًا ونظر إلى أعماله فهو في التفرقة، وإذا أثبت الأشياء بالحق فهو في الجمع، ومجموع الإشارات ينبئ أن الكون يفرق والمكون يجمع، فمن أفرد المكون جمع، ومن نظر إلى الكون فرق، فالتفرقة عبودية والجمع توحيد، فإذا أثبت طاعته نظر إلى كسبه فرق، وإذا أثبتها بالله جمع، وإذا تحقق بالفناء فهو جمع الجمع، ويمكن أن يقال: رؤية الأفعال تفرقة، ورؤية الصفات جمع، ورؤية الذات جمع الجمع.
(سئل) بعضهم عن حال موسى عليه السلام في وقت الكلام، فقال: أقنى موسى عن موسى، فلم يكن لموسى خبر من موسى، ثم كلم فكان المكلم والمكلم هو، وكيف كان يطيق موسى حمل الخطاب ورد الجواب لولا بإياه سمع، ومعنى هذا أن الله تعالى منحه قوة بتلك القوة سمع، ولولا تلك القوة ما قدر على السمع، ثم أنشد القائل متمثلًا:
وبدا له من بعد ما اندمل الهوى |
* | برق تألق موهنًا لمعانه |
يبدو كحاشية الرداء ودونه |
* | صعب الذرى متمتع أركانه |
فبدا لينظر كيف لاح فلم يطق |
* | نظرًا إليه ورده أشجانه |
فالنار ما اشتملت عليه ضلوعه |
* | والماء ما سمحت به أجفانه |
(ومنها) قولهم: التجلي والاستتار:
(قال) الجنيد: إنما هو تأديب وتهذيب وتذويب، فالتأديب محل الاستتار وهو للعوام والتهذيب للخواص وهو التجلي، والتذويب للأولياء وهو المشاهدة، وحاصل الإشارات في الاستتار والتجلي راجع إلى ظهور صفات النفس.
(ومنها) الاستتار:
وهو إشارة إلى غيبة صفات النفس لقوة صفات القلب.
(ومنها) التجلي:
ثم التجلي قد يكون بطريق الأفعال، وقد يكون بطريق الصفات، وقد يكون بطريق الذت، والحق تعالى أبقى على الخواص موضع الاستتار؛ رحمة منه لهم ولغيرهم، فأما لهم فلأنهم به يرجعون إلى مصالح النفوس، وأما لغيرهم فلأنه لولا مواضع الاستتار لم ينتفع بهم؛ لاستغراقه في جمع الجمع، وبروزهم لله الواحد القهار.
(قال بعضهم): علامة تجلي الحق للأسرار هو ألَّا يشهد السر ما يتسلط عليه التعبير ويحويه الفهم، فمن عبر أو فهم فهو صاحب استدلال لا ناظر إجلال. (وقال بعضهم): التجلي: رفع حجبة البشرية، لا أن يتلون ذات الحق عز وجل، والاستتار: أن تكون البشرية حائلة بينك وبين شهود الغيب.
(ومنها التجريد والتفريد):
الإشارة منهم في التجريد والتفريد أن العبد يتجرد عن الأغراض فيما يفعله، لا يأتي بما يأتي به نظرًا إلى الأغراض في الدنيا والآخرة، بل ما كوشف به من حق العظمة يؤديه حسب جهده عبودية وانقيادًا، والتفريد ألَّا يرى نفسه فيما يأتي به بل يرى منة الله عليه؛ فالتجريد بنفي الأغيار، والتفريد بنفي نفسه، واستغراقه في رؤية نعمة الله عليه، وغيبته عن كسبه.
(ومنها الوجد والتواجد والوجود):
فالوجد: ما يرد على الباطن من الله يكسبه فرحًا أو حزنًا، ويغيره عن هيئته، ويتطلع إلى الله تعالى، وهو فرحة يجدها المغلوب عليه بصفات نفسه، ينظر منها إلى الله تعالى، والتواجد استجلاب الوجد بالذكر، والتفكر والوجود اتساع فرجة الوجد بالخروج إلى فضاء الوجدان، فلا وجد مع الوجدان، ولا خبر مع العيان؛ فالوجد بعرضية الزوال، والوجود ثابت بثبوت الجبال، وقد قيل:
قد كان يطربني وجدي فأقعدني |
* | عن رؤية الوجد من في الوجد موجود |
والوجد يطرب من في الوجد راحته |
* | والوجد عند حضور الحق مفقود |
(ومنها الغلبة):
الغلبة: وجد متلاحق، فالوجد كالبرق يبدو، والغلبة كتلاحق البرق وتواتره يغيب عن التمييز، فالوجد ينطفئ سريعًا، والغلبة تبقى للأسرار حرزًا منيعًا.
(ومنها) المسامرة:
وهي تفرد الأرواح بخفي مناجاتها، ولطيف مناغاتها في سر السر بلطيف إدراكها للقلب لتفرد الروح بها، فتلتذ بها دون القلب.
(ومنها) السكر والصحو:
فالسكر: استيلاء سلطان الحال. والصحو: العود إلى ترتيب الأفعال وتهذيب الأقوال.
(قال) محمد بن خفيف: السكر: غليان القلب عند معارضات ذكر المحبوب. (وقال الواسطي): مقامات الوجد أربعة: الذهول، ثم الحيرة، ثم السكر، ثم الصحو، كمن سمع بالبحر، ثم دنا منه، ثم دخل فيه، ثم أخذته الأمواج، فعلى هذا من بقي عليه أثر من سريان الحال فيه فعليه أثر من السكر، ومن عاد كل شيء منه إلى مستقره فهو صاحٍ، فالسكر لأرباب القلوب، والصحو للمكاشفين بحقائق الغيوب.
(ومنها) المحو والإثبات:
المحو: بإزالة أوصاف النفوس، والإثبات: بما أدير عليهم من آثار الحب كئوس، أو المحو: محو رسوم الأعمال بنظر الفناء إلى نفسه وما منه، والإثبات: إثباتها بما أنشأ الحق له من الوجود به، فهو بالحق لا بنفسه بإثبات الحق إياه مستأنفًا بعد أن محاه عن أوصافه.
قال ابن عطاء: يمحو أوصافهم ويثبت أسرارهم.
(ومنها) علم اليقين وعين اليقين وحق اليقين:
فعلم اليقين: ما كان من طريق النظر والاستدلال. وعين اليقين: ما كان من طريق الكشوف والنوال. وحق اليقين: ما كان بتحقيق الانفصال عن لوث الصلصال بورود رائد الوصال.
قال فارس: علم اليقين لا اضطراب فيه، وعين اليقين هو العلم الذي أودعه الله الأسرار، والعلم إذا انفرد عن نعت اليقين كان علمًا بشبهة، فإذا انضم إليه اليقين كان علمًا بلا شبهة. وحق اليقين هو حقيقة ما أشار إليه علم اليقين وعين اليقين.
وقال الجنيد: حق اليقين: ما يتحقق العبد بذلك، وهو أن يشاهد الغيوب كما يشاهد المرئيات مشاهدة عيان، ويحكم على الغيب فيخبر عنه بالصدق، كما أخبر الصديق حين قال لما قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ماذا أبقيت لعيالك؟»، قال: الله ورسوله.
وقال بعضهم: علم اليقين: حال التفرقة. وعين اليقين: حال الجمع. وحق اليقين: جمع الجمع بلسان التوحيد. وقيل: لليقين اسم ورسم، وعلم وعين وحق؛ فالاسم والرسم للعوام، وعلم اليقين للأولياء، وعين اليقين للخواص الأولياء، وحق اليقين للأنبياء -عليهم الصلاة والسلام-، وحقيقة حق اليقين اختص بها نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
(ومنها الوقت):
والمراد بالوقت ما هو غالب على العبد، وأغلب ما على العبد وقته؛ فإنه كالسيف يمضي الوقت بحكمه ويقطع، وقد يراد بالوقت ما يهجم على العبد لا بكسبه، فيتصرف فيه فيكون بحكمه، يقال: فلان بحكم الوقت؛ يعني مأخوذًا عما منه بما للحق.
(ومنها الغيبة والشهود):
فالشهود هو الحضور وقتًا بنعت المراقبة، ووقتًا بوصف المشاهدة، فما دام العبد موصوفًا بالشهود والرعاية فهو حاضر، فإذا فَقَدَ حال المشاهدة والمراقبة خرج من دائرة الحضور فهو غائب، وقد يعنون بالغيبة عن الأشياء بالحق، فيكون على هذا المعنى حاصل ذلك راجعًا إلى مقام الفناء.
(ومنها الذوق والشرب والري):
فالذوق إيمان، والشرب علم، والري حال، فالذوق لأرباب البوادر، والشرب لأرباب الطوالع واللوائح واللوامع، والري لأرباب الأحوال، وذلك أن الأحوال هي التي تستقر، فما لم يستقر فليس بحال، وإنما هي لوامع وطوالع. وقيل: الحال لا تستقر؛ لأنها تحول، فإذا استقرت تكون مقامًا.
(ومنها المحاضرة والمكاشفة والمشاهدة):
فالمحاضرة لأرباب التلوين، والمشاهدة لأرباب التمكين، والمكاشفة بينهما إلى أن تستقر، فالمشاهدة والمحاضرة لأهل العلم، والمكاشفة لأهل العين، والمشاهدة لأهل الحق؛ أي: حق اليقين.
(ومنها الطوارق والبوادي والبادة والواقع والقادح والطوالع واللوامع واللوائح):
وهذه كلها ألفاظ متقاربة المعنى، ويمكن بسط القول فيها، ويكون حاصل ذلك راجعًا إلى معنى واحد يكثر بالعبارة، فلا فائدة فيه، والمقصود أن هذه الأسماء كلها مبادي الحال ومقدماته، وإذا صح الحال استوعب هذه الأسماء كلها ومعانيها.
(ومنها التلوين والتمكين):
فالتلوين لأرباب القلوب؛ لأنهم تحت حجب القلوب، وللقلوب تخلص إلى الصفات، وللصفات تعدد بتعدد جهاتها، فظهر لأرباب القلوب بحسب تعدد الصفات تلوينات، ولا تجاوز للقلوب وأربابها عن عالم الصفات، وأما أرباب التمكين فخرجوا عن مشائم الأحوال، وخرجوا حجب القلوب، وباشرت أرواحهم سطوع نور الذات، فارتفع التلوين لعدم التغير في الذات، إذ جَلَّت ذاته عن حلول الحوادث والتغيرات، فلما خلصوا إلى مواطن القرب من أنصبة تجلي الذات ارتفع عنهم التلوين، فالتلوين حينئذٍ يكون في نفوسهم؛ لأنها في محل القلوب لموضع طهارتها وقدسها، والتلوين الواقع في النفوس لا يخرج صاحبه عن حال التمكن؛ لأن جريان التلوين في النفس لبقاء رسم الإنسانية، وثبوت القدم في التمكين كشف حق الحقيقة، وليس المعنى بالتمكين ألَّا يكون للعبد تغير؛ فإنه بشر، وإنما المعنى فيه أن ما كوشف من الحقيقة لا يتوارى عنه أبدًا ولا يتناقص بل يزيد، وصاحب التلوين قد يتناقص الشيء في حقه عند ظهور صفات نفسه، وتغيب عنه الحقيقة في بعض الأحوال، ويكون ثبوته على مستقر الإيمان وتلوينه في زوائد الأحوال.
(ومنها النفس):
ويقال: النفس للمنتهي، والوقت للمبتدي، والحال للمتوسط، فكأنه إشارة منهم إلى أن المبتدئ يطرقه من الله تعالى طارق لا يستقر، والمتوسط صاحب حال غالب حاله عليه، والمنتهي صاحب نفس متمكن من الحال، لا يتناوب عليه الحال بالغيبة والحضور، بل تكون المواجيد مقرونة بأنفاسه مقيمة، لا تتناوب عليه، وهذه كلها أحوال لأربابها، ولهم منها ذوق وشرب، والله ينفع ببركتهم، آمين.