(الباب الثاني والعشرون في القول في السماع قبولًا وإيثارًا)
قال الله تعالى: ﴿فَبَشِّرْ عِبَادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ القَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الأَلْبَابِ﴾ [الزُّمر: 17، 18]، قيل: أحسنه أي أهداه وأرشده.
وقال عز وجل: ﴿وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الحَقِّ﴾ [المائدة: 83].
هذا السماع هو السماع الحق الذي لا يختلف فيه اثنان من أهل الإيمان، محكوم لصاحبه بالهداية واللب، وهذا سماع ترد حرارته على برد اليقين، فتفيض العين بالدمع؛ لأنه تارةً يثير حزنًا، والحزن حار، وتارة يثير شوقًا، والشوق حار، وتارة يثير ندمًا، والندم حار، فإذا أثار السماع هذه الصفات من صاحب قلب مملوء ببرد اليقين أبكى وأدمع؛ لأن الحرارة والبرودة إذا اصطدمًا عصرا ماءً، فإذا ألمَّ السماع بالقلب تارةً يخف إلمامه فيظهر أثره في الجسد، ويقشعر منه الجلد.
قال الله تعالى: ﴿تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ﴾ [الزُّمر: 23]، وتارة يعظم وقعه ويتصوب أثره إلى فوق نحو الدماغ كالمخبر للعقل، فيعظم وقع المتجدد الحادث فتندفق منه العين بالدمع، وتارة يتصوَّب أثره إلى الروح، فتموج منه الروح موجًا، يكاد يضيق عنه نطاق القلب، فيكون من ذلك الصياح والاضطراب، وهذه كلها أحوال يجدها أربابها من أصحاب الحال، وقد يحكيها بدلائل هوى النفس أرباب المحال.
(روي) أن عمر رضى الله عنه كان ربما مر بأية في ورده، فتخنقه العبرة، ويسقط ويلزم البيت اليوم واليومين، حتى يعاد ويحسب مريضًا، فالسماع يستجلب الرحمة من الله الكريم، روى زيد بن أسلم قال: قرأ أبيُّ بن كعب عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرقوا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اغتنموا الدعاء عند الرقة؛ فإنها رحمة من الله تعالى».
وروت أم كلثوم قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا اقشعر جلد العبد من خشية الله تحاتت عنه الذنوب كما تحات عن الشجرة اليابسة ورقها».
وورد أيضًا: «إذا اقشعر الجلد من خشية الله حرمه الله تعالى على النار».
وهذه جملة لا تنكر، ولا اختلاف فيها، إنما الاختلاف في استماع الأشعار بالألحان، وقد كثرت الأقوال في ذلك وتباينت الأحوال، فمن منكر يلحقه بالفسق، ومن مولع به يشهد بأنه واضح الحق، ويتجاذبان في طرفي الإفراط والتفريط.
قيل لأبي الحسن بن سالم: كيف تنكر السماع وقد كان الجنيد وسريٌّ السقطي وذو النون يسمعون؟ فقال: كيف أنكر السماع، وقد أجازه وسمعه من هو خير مني، فقد كان جعفر الطيار يسمع، وإنما المنكر اللهو واللعب في السماع، وهذا قول صحيح.
(أخبرنا) الشيخ طاهرُ بن أبي الفضل عن أبيه الحافظ المقدسي قال: أنا أبو القاسم الحسين بن محمد بن الحسن الخوافي قال: أنا أبو محمد عبد الله بن يوسف قال: حدثنا أبو بكر بن وثاب قال: حدثنا عمرو بن الحرث قال: حدثنا الأوزاعي عن الزهري عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها-: أَنَّ أَبَا بَكْرٍ دَخَلَ عَلَيْهَا وَعِنْدَهَا جَارِيَتَانِ تغنيان وتضربان بدفين، ورسول الله صلى الله عليه وسلم مسجًى بثوبه، فَانْتَهَرَهُمَا أَبُو بَكْرٍ، فَكَشَفَ رسول الله صلى الله عليه وسلم عَنْ وَجْهِهِ وقال: «دَعْهُمَا يَا أَبَا بَكْرٍ؛ فَإِنَّهَا أَيَّامُ عِيدٍ».
وقالت عائشة -رضي الله عنها-: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسترني بردائِه وأنا أنظر إلى الحبشة يلعبون في المسجد حتى أكون أنا أسأم.
وقد ذكر الشيخ أبو طالب المكي -رحمه الله- ما يدل على تجويزه، ونقل عن كثير من السلف صحابي وتابعي وغيرهم.
وقول الشيخ أبي طالب المكي يعتبر لوفور علمه، وكمال حاله، وعلمه بأحوال السلف ومكان ورعه وتقواه، وتحريه الأصوب والأولى.
وقال في السماع: حرام وحلال وشبهة، فمن سمعه بنفس مشاهدة شهوة وهوى فهو حرام، ومن سمعه بمعقوله على صفة مباح من جارية أو زوجة كان شبهة؛ لدخول اللهو فيه، ومن سمعه بقلب يشاهد معانيَ تدله على الدليل، ويشهده طرفات الجليل فهو مباح، وهذا قول الشيخ أبي طالب المكي، وهو الصحيح، فإذن لا يطلق القول بمنعه وتحريمه، والإنكار على من يسمع كفعل القراء المتزهدين المبالغين في الإنكار، ولا يفسح فيه على الإطلاق كفعل بعض المستهترين به المهملين شروطه وآدابه المقيمين على الإصرار، ونفصل الأمر فيه تفصيلًا، ونوضح الماهية فيه تحريمًا وتحليلًا، فأما الدف والشبابة، وإن كان فيهما في مذهب الشافعي فسحة فالأولى تركهما، والأخذ بالأحوط والخروج من الخلاف، وأما غير ذلك؛ فإن كان من القصائد في ذكر الجنة والنار والتشويق إلى دار القرار، ووصف نعم الملك الجبار وذكر العبادات، والترغيب في الخيرات، فلا سبيل إلى الإنكار، ومن ذلك القبيل قصائد الغزاة والحجاج في وصف الغزو والحج مما يثير كامن العزم من الغازي، وساكن الشوق من الحاج، وأما ما كان فيه ذكر القدود والخدود ووصف النساء فلا يليق بأهل الديانات الاجتماع لمثل ذلك.
وأما ما كان من ذكر الهجر والوصل والقطيعة والصد مما يقرب حمله على أمور الحق سبحانه وتعالى من تلون أحوال المريدين ودخول الآفات على الطالبين، فمن سمع ذلك، وحدث عنده ندم على ما فات، أو تجدد عنده عزم لما هو آت فكيف ينكر سماعه.
وقد قيل: إن بعض الواجدين يقتات بالسماع، ويتقوى به على الطي والوصال، ويثير عنده من الشوق ما يذهب عنه لهب الجوع، فإذا استمع العبد إلى بيت من الشعر وقلبه حاضر فيه كأن يسمع الحادي يقول مثلًا:
أتوب إليك يا رحمن إني |
* | أسأت وقد تضاعفت الذنوب |
فأما من هوى ليلى وحبي |
* | زيارتها فإني لا أتوب |
فطاب قلبه لما يجده من قوة عزمه على الثبات في أمر الحق إلى الممات يكون في سماعه هذا ذكر الله تعالى.
قال بعض أصحابنا: كنا نعرف مواجيدَ أصحابنا في ثلاثة أشياء: عند المسائل، وعند الغضب، وعند السماع.
وقال الجنيد: تنزل الرحمة على هذه الطائفة في ثلاثة مواضع: عند الأكل؛ لأنهم يأكلون عن فاقة، وعند المذاكرة؛ لأنهم يتحاورون في مقامات الصديقين وأحوال النبيين، وعند السماع؛ لأنهم يسمعون بوجد، ويشهدون حقًّا.
وسئل رويم عن وجد الصوفية عند السماع، فقال: يتنبهون للمعاني التي تعزب عن غيرهم فيشير إليهم إلي فيتنعمون بذلك من الفرح، ويقع الحجاب للوقت، فيعود ذلك الفرح بكاء، فمنهم من يمزق ثيابه، ومنهم يبكي، ومنهم من يصيح.
(أخبرنا) أبو زرعة -إجازة- عن ابن خلف -إجازة- عن السلمي قال: سمعت أبا سهل محمد بن سليمان يقول: المستمع بين استتار وتجلٍ فالاستتار يورث التلهب، والتجلي يورث المزيد، فالاستتار يتولد منه حركات المريدين، وهو محل الضعف والعجز، والتجلي يتولد منه السكون للواصلين، وهو محل الاستقامة والتمكين، وكذلك محل الحضرة ليس فيه إلا الذبول تحت موارد الهيبة.
قال الشيخ أبو عبد الرحمن السلمي: سمعت جدي يقول: المستمع ينبغي أن يستمع بقلب حي ونفس ميتة، ومن كان قلبه ميتًا ونفسه حيًّا لا يحل له السماع.
وقيل في قوله تعالى: ﴿يَزِيدُ فِي الخَلْقِ مَا يَشَاءُ﴾ [فاطر: 1]، الصوت الحسن.
وقال —:«لَلهُ أَشَدُّ أَذنًا إِلَى الرَّجُلِ الْحَسَنِ الصَّوْتِ بِالْقُرْآنِ مِنْ صَاحِبِ قَيْنَةِ إِلَى قَيْنَتِهِ».
نقل عن الجنيد قال: رأيت إبليس في النوم، فقلت له: هل تظفر من أصحابنا بشيء، أو تنال منهم شيئًا؟ فقال: إنه يعسر علي شأنهم، ويعظم على أن أصيب منهم شيئًا إلا في وقتين، قلت: أي وقت؟ قال: وقت السماع، وعند النظر، فإني استرق منهم فيه، وأدخل عليهم به، قال: فحكيت رؤياي لبعض المشايخ، فقالوا: لو رأيته قلت له: يا أحمق، من سمع منه إذا سمع ونظر إليه إذا نظر، أتربح أنت عليه شيئًا أو تظفر بشيء منه؟ فقلت: صدقت.
(وروت) عائشة -رضي الله عنها- قالت: كانت عندي جارية تسمعني، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي على حالها، ثم دخل عمر ففرت، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عمر: ما يضحكك يا رسول الله؟ فحدثته حديث الجارية، فقال: لا أبرح حتى أسمع ما سمع رسول الله، فأمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسمعته.
وذكرَ الشيخ أبو طالب المكي قال: كان لعطاء جاريتان تلحنان، وكان إخوانه يجتمعون إليهما، وقال: أدركنا أبا مروان القاضي وله جوارٍ يسمعن التلحين أعدهن للصوفية، وهذا القول نقلته من قول الشيخ أبي طالب، فقال: وعندي اجتناب ذلك هو الصواب، وهو لا يسلم إلا بشرط طهارة القلب، وغض البصر، والوفاء بشرط قوله تعالى: ﴿يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ﴾ [غافر: 19].
وما هذا القول من الشيخ أبي طالب المكي إلا مستغرب عجيب، والتنزه عن مثل ذلك هو الصحيح.
وفي الحديث في مدح داود عليه السلام أنه كان حسن الصوت بالنياحة على نفسه، وبتلاوة الزبور حتى كان يجتمع الإنس والجن والطير لسماع صوته، وكان يحمل من مجلسه آلاف من الجنائز.
وقال عليه السلام في مدح أبي موسى الأشعرى: «لَقَدْ أُعطي مِزْمَارًا مِنْ مَزَامِيرِ آلِ دَاوُدَ».
(وروي) عنه عليه السلام أنه قال: «إِنَّ مِنَ الشِّعْرِ لَحِكْمَةً».
ودخل رجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده قوم يقرءون القرآن، وقوم ينشدون الشعر فقال: يا رسول الله، قرآن وشعر؟ فقال: «من هذا مرة، ومن هذا مرة».
وأنشد النابغة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم أبياتَه التي فيها
ولا خير في حلم إذا لم يكن له |
* | بوادر تحمي صفوه أن يكدرا |
ولا خير في امرئ إذا لم يكن له |
* | حكيم إذا ما أورد الأمر أصدرا |
فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أحسنت يا أبا ليلى، لا يفضض الله فاك»، فعاش أكثر من مئة سنة وكان أحسن الناس ثغرًا.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يضع لحسان منبرًا في المسجد، فيقوم على المنبر قائمًا يهجو الذين كانوا يهجون رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ رُوحَ الْقُدُسِ مَعَ حَسَّانَ مَا دام ينافح عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم».
(ورأى) بعض الصالحين أبا العباس الخضر، قال: فقلت له: ما تقول في السماع الذي يختلف فيه أصحابُنا؟ فقال: هو الصفا الزلال، لا يثبت عليه إلا أقدام العلماء.
ونقل عن ممشاد الدينوري قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام، فقلت: يا رسول الله هل تنكر من هذا السماع شيئًا؟ فقال: ما أنكره، ولكن قل لهم يفتتحون قبله بقراءة القرآن ويختمون بعده بالقرآن، فقلت: يا رسول الله إنهم يؤذوني وينبسطون، فقال: احتملهم يا أبا علي هم أصحابك، فكان ممشاد يفتخر، ويقول: كناني رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأما وجه الإنكار فيه فهو أن يرى جماعة من المريدين دخلوا في مبادي الإرادة ونفوسهم ما تمرنت على صدق المجاهدة حتى يحدث عندهم علم بظهور صفات النفس وأحوال القلب حتى تنضبط حركاتهم بقانون العلم، ويعلمون ما لهم وعليهم مشتغلين به.
(حكي) أن ذا النون لما دخل بغداد دخل عليه جماعة ومعهم قوَّال، فاستأذنوه أن يقول شيئًا، فأذن له فأنشد القوال:
صغير هواك عذبني |
* | فكيف به إذا احتنكا |
وأنت جمعت من قلبي |
* | هوى قد كان مشتركا |
أما ترثي لمكتئب |
إذا ضحك الخلي بكى
|
فطاب قلبه وقام وتواجد وسقط على جبهته، والدم يقطر من جبهته ولا يقع على الأرض، ثم قام واحد منهم، فنظر إليه ذو النون فقال: اتق الذي يراك حين تقوم، فجلس الرجل، وكان جلوسه لموضع صدقه وعلمه أنه غير كامل الحال غير صالح للقيام متواجدًا، فيقوم أحدهم من غير تدبر وعلم في قيامه، وذلك إذا سمع إيقاعًا موزونًا بسمع يؤدي ما سمعه إلى طبع موزون فيتحرك بالطبع الموزون للصوت الموزون والإيقاع الموزون، وينسبل حجاب نفسه المنبسط بانبساط الطبع على وجه القلب، ويستفزه النشاط المنبعث من الطبع، فيقوم يرقص موزونًا ممزوجًا بتصنع، وهو محرم عند أهل الحق، ويحسب ذلك طيبة للقلب، وما رأى وجه القلب وطيبته بالله تعالى، ولعمري، هو طيبة القلب، ولكن قلب ملون بلون النفس، ميال إلى الهوى، موافق للردى، لا يهتدي إلى حسن النية في الحركات، ولا يعرف شروط صحة الإرادات، ولمثل هذا الراقص قيل: الرقص نقص؛ لأنه رقص مصدره الطبع، غير مقترن بنية صالحة؛ لاسيما إذا انضاف إلى ذلك شوب حركاته بصريح النفاق بالتودد والتقرب إلى بعض الحاضرين من غير نية، بل دلالة نشاط النفس من المعانقة وتقبيل اليد والقدم، وغير ذلك من الحركات التي لا يعتمدها من المتصوفة إلا من ليس له من التصوف إلا مجرَّد زي وصورة، أو يكون القوال أمرد تنجذب النفوس إلى النظر إليه، وتستلذ ذلك، وتضمر خواطر السوء، أو يكون للنساء إشراف على الجمع.
وتتراسل البواطن المملوءة من الهوى بسفارة الحركات والرقص، وإظهار التواجد، فيكون ذلك عين الفسق المجمع على تحريمه، فأهل المواخير حينئذٍ أرجى حالًا ممن يكون هذا ضميره وحركاته؛ لأنهم يرون فسقهم، وهذا لا يراه، ويريه عبادة لمن لا يعلم ذلك، أفترى أحدًا من أهل الديانات يرضى بهذا ولا ينكره؟ فمن هذا الوجه توجَّه للمنكر الإنكار، وكان حقيقًا بالاعتذار، فكم من حركات موجبة للمقت، وكم من نهضات تذهب رونق الوقت، فيكون إنكار المنكر على المريد الطالب يمنعه عن مثل هذه الحركاتِ، ويحذره من مثل هذه المجالس.
وهذا إنكار صحيح، وقد يرقص بعض الصادقين بإيقاع ووزن من غير إظهار وجد وحال، ووجه نيته في ذلك أنه ربما يوافق بعض الفقراء في الحركة، فيتحرك بحركة موزونة غير مدع بها حالًا ووجدًا، يجعل حركته في طرف الباطل؛ لأنها وإن لم تكن محرمةً في حكم الشرع، ولكنها غير محللة بحكم الحال لما فيها من اللهو، فتصير حركاته ورقصه من قبيل المباحات التي تجري عليه من الضحك والمداعبة، وملاعبة الأهل والولد، ويدخل ذلك في باب الترويح للقلب، وربما صار ذلك عبادةً بحسن النية إذا نوى به استجمام النفس.
كما نقل عن أبي الدرداء أنه قال: إنه لأستجم نفسي بشيء من الباطل ليكون ذلك عونًا لي على الحق.
ولموضع الترويح كرهت الصلاة في أوقات؛ ليستريح عمال الله، وترتفق النفوس ببعض مآربها من ترك العمل، وتستطيب أوطان المهل، والآدمي بتركيبه المختلف، وترتيب خلقه المتنوع بتنوع أصول خِلقته -وقد سبق شرحه في غير هذا الباب- لا تفي قواه بالصبر على الحق الصرف، فيكون التفسح في أمثال ما ذكرناه من المباح الذي ينزع إلى لهو ما باطلًا يستعان به على الحق، فإن المباح وإن لم يكن باطلًا في حقيقة الشرع؛ لأن حد المباح ما استوى طرفاه واعتدل جانباه، ولكنه باطل بالنسبة إلى الأحوال.
ورأيت في بعض كلام سهل بن عبد الله يقول في وصفه للصادق: الصادق يكون جهله مزيدًا لعلمه، وباطله مزيدًا لحقه، ودنياه مزيدًا لآخرته؛ ولهذا المعنى حُبِّب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم النساء، ليكون ذلك حظ نفسه الشريفة الموهوب لها حظوظها الموفر عليها حقوقها لموضع طهارتها وقدسها، فيكون ما هو نصيب الباطل الصرف في حق الغير من المباحات المقبولة برخصة الشرع المردودة بعزيمة الحال في حقه صلى الله عليه وسلم متَّسمًا بسمة العبادات.
وقد ورد في فضيلة النكاح ما يدل على أنه عبادة، ومن ذلك من طريق القياس اشتماله على المصالح الدينية والدنيوية، على ما أطنب في شرحه الفقهاء في مسألة التخلي لنوافل العبادات، فإذن يخرج هذا الراقص بهذه النية المتبرئ من دعوى الحال في ذلك من زمن إنكار المنكر، فيكون رقصه لا عليه ولا له، وربما كان بحسن النية في التزويج يصير عبادة، سيما إن أضمر في نفسه فرحًا بربه، ونظر إلى شمول رحمته وعطفه، ولكن لا يليق الرقص بالشيوخ، ومن يقتدي به، لما فيه من مشابهة اللهو، واللهو لا يليق بمنصبهم، ويباين حال المتمكن مثل ذلك.
وأما وجه منع الإنكار في السماع فهو أن المنكر للسماع على الإطلاق من غير تفصيل لا يخلو من أحد أمور ثلاثة: إما جاهل بالسنن والآثار، وإما مغترٌّ بما أتيح له من أعمال الأخيار، وإما جامد الطبع لا ذوق له، فيصر على الإنكار. وكل واحد من هؤلاء الثلاثة يقابل بما سوف يقبل. أما الجاهل بالسنن والآثار فيعرف بما أسلفناه من حديث عائشة -رضي الله عنها-، وبالأخبار والآثار الواردة في ذلك، وفي حركة بعض المتحركين تعرف رخصة رسول الله صلى الله عليه وسلم للحبشة في الرقص، ونظر عائشة -رضي الله عنها- إليهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا إذا سلمت الحركة من المكاره التي ذكرناها.
وقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعلي رضى الله عنه: «أَنْتَ مِنِّي وَأَنَا مِنْكَ». فَحَجَلَ. وَقَالَ لِجَعْفَرٍ: «أَشْبَهْتَ خَلْقِي وَخُلُقِي». فَحَجَلَ. وَقَالَ لِزَيْدٍ: «أَنْتَ أَخُونَا وَمَوْلَانَا». فَحَجَلَ.
وكان حجل جعفر في قصة ابنة حمزة لما اختصم فيها علي وجعفر وزيد.
وأما المنكر المغرور بما أتيح له من أعمال الأخبار فيقال: تقربك إلى الله بالعبادة لشغل جوارحِك بها، ولولا نية قلبك ما كان لعمل جوارحك قدر؛ فـ «إنما الأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى»، والنية لنظرك إلى ربك خوفًا أو رجاء، فالسامع من الشعر بيتًا يأخذ منه معنى يذكره ربَّه، إما فرحًا أو حزنًا أو انكسارًا أو افتقارًا، كيف يقلب قلبه في أنواع ذلك ذاكرًا لربه ولو سمع صوت طائر طاب له ذلك الصوت، وتفكر في قدرة الله تعالى، وتسويته حنجرة الطائر، وتسخيره حلقه، ومنشأ الصوت وتأديته إلى الأسماع كان في جميع ذلك الفكر مسبحًا مقدسًا، فإذا سمع صوت آدمي، وحضره مثل ذلك الفكر، وامتلأ باطنه ذكرًا وفكرًا؛ كيف ينكر ذلك؟.
(حكى بعض الصالحين) قال: كنت معتكفًا في جامع جُدَّة على البحر، فرأيت يومًا طائفة يقولون في جانب منه شيئًا، فأنكرت ذلك بقلبي، وقلت: في بيت من بيوت الله تعالى يقولون الشعر! فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام تلك الليلة وهو جالس في تلك الناحية، وإلى جنبه أبو بكر، وإذا أبو بكر يقول شيئًا من القول، والنبي صلى الله عليه وسلم يستمع إليه، ويضع يده على صدره كالواجد بذلك فقلت في نفسي: ما كان ينبغي لي أن أنكر على أولئك الذين كانوا يسمعون وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمع، وأبو بكر إلى جنبه يقول: فالتفت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول: هذا حق بحق، أو: حق من حق.
بلى إذا كان ذلك الصوت من أمرد يخشى بالنظر إليه الفتنة، أو من امرأة غير محرم وإن وجد من الأذكار والأفكار ما ذكرنا يحرم سماعه لخوف الفتنة لا لمجرد الصوت، ولكن يجعل سماعَ الصوت حريم الفتنة، ولكل حرام حريم ينسحب عليه حكم المنع لوجه المصلحة كالقبلة للشاب الصائم؛ حيث جعلت حريم حرام الوقاع، وكالخلوة بالأجنبية وغير ذلك، فعلى هذا قد تقتضي المصلحة المنع من السماع إذا علم حال السامع وما يؤديه إليه سماعه، فيجعل المنع حريم الحرام هكذا، وقد ينكر السماع جامد الطبع عديم الذوق، فيقال له: العِنِّينُ لا يعلم لذة الوقاع، والمكفوفُ ليس له بالجمال البارع استمتاع، وغير المصاب لا يتكلم بالاسترجاع، فماذا ينكِر من محب تربَّى باطنه بالشوق والمحبة؟ ويرى انحباس روحه الطيارة في مضيق قفص النفس الأمارة، يمر بروحه نسيم أُنس الأوطان، وتلوح له طوالع جنود العرفان، وهو بوجود النفس في دار الغربة يتجرع كأس الهجران، يئن تحت أعباء المجاهدة، ولا تُحمل عنه سوانح المشاهدة، وكلما قطع منازل النفس بكثرة الأعمال، لا يقرب من كعبة الوصال، ولا يُكشف له المسبل من الحجاب، فيتروح بنفس الصعداء، ويرتاح باللائح من شدة البرحاء، ويقول مخاطبًا للنفس والشيطان وهما المانعان:
أيا جبلي نعمان بالله خَلِّيَا |
* | نسيم الصبا يخلص إلي نسيمها |
فإن الصبا ريح إذا ما تنسمت |
* | على قلبِ محزون تجلت همومها |
أجد بردها أو تشف مني حرارة |
* | على كبد لم يبق إلا صميمها |
ألا إن أدوائي بليلى قديمة |
* | وأقتل داء العاشقين قديمها |
ولعل المنكر يقول: هل المحبة إلا امتثال الأمر؟ وهل يعرف غير هذا؟ وهل هناك إلا الخوف من الله؟ وينكر المحبة الخاصة التي تختص بالعلماء الراسخين والأبدال المقربين، ولِمَا تقرر في فهمه القاصر أن المحبة تستدعي مثالًا وخيالًا وأجناسًا وأشكالًا أنكر محبة القوم، ولم يعلم أن القوم بلغوا في رتب الإيمان إلى أتم من المحسوس، وجادوا من فرط الكشف والعيان بالأرواح والنفوس.
روى أبو هريرة رضى الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه ذكر غلامًا كان في بني إسرائيل على جبل، فقال لأمه: من خلق السماء؟ قالت: الله، قال: من خلق الأرض؟ قالت: الله، قال: من خلق الجبال؟ قالت: الله، قال: من خلق الغيم؟ قالت: الله. فقال: إني أسمع لله شأنًا، ورمى بنفسه من الجبل فتقطع.
فالجمال الأزلي الإلهي منكشف للأرواح غير مكيَّف للعقل، ولا مفسَّر للفهم؛ لأن العقل موكَل بعالم الشهادة، لا يهتدي من الله سبحانه إلا إلى مجرد الوجود، ولا يتطرق إلى حريم الشهود ،المتجلي في طي الغيب المنكشف للأرواح بلا ريب، وهذه الرتبة من مطالعة الجمال رتبة خاصة، وأعم منها -من رتبة المحبة الخاصة دون العامة- مطالعة جمال الكمال من الكبرياء والجلال والاستقلال بالمنح والنوال، والصفات المنقسمة إلى ما ظهر منها في الآباد، ولازم الذات الآزال، فللكمال جمال لا يدرك بالحواس ولا يستنبط بالقياس، وفي مطالعة ذلك الجمال أخذ طائفة من المحبين خُصُّوا بتجلي الصفات، ولهم بحسب ذلك ذوق وشوق ووجد وسماع، والأولون منحوا قسطًا من تجلي الذات، فكان وجدهم على قدر الوجود، وسماعهم على حد الشهود.
(وحكى) بعض المشايخ قال: رأينا جماعة ممن يمشي على الماء والهواء، يسمعون السماع، ويجدون به، ويتولهون عنده.
(وقال) بعضهم: كنا على الساحل فسمع بعض إخواننا، فجعل يتقلب على الماء، يمره ويجيء حتى رجع إلى مكانه.
(ونُقِل) أن بعضهم كان يتقلب على النار عند السماع، ولا يحس بها.
(ونُقِل) أن بعض الصوفية ظهر منه وجد عند السماع، فأخذ شمعة فجعلها في عينه. قال الناقل: قربتُ من عينه أنظرُ فرأيت نارًا أو نورًا يخرج من عينه يَرُدُّ نار الشمعة.
(وحُكي) عن بعضهم: أنه كان إذا وجد عند السماع ارتفع الأرض في الهواء أذرعًا، يمر ويجيء فيه.
(وقال) الشيخ أبو طالب المكي -رحمه الله- في كتابه: إن أنكرنا السماع مجملًا مطلقًا غير مقيد مفصل يكون إنكارًا على سبعين صديقًا، وإن كنا نعلم أن الإنكار أقرب إلى قلوب القراء والمتعبدين إلا أنا لا نفعل ذلك؛ لأنا نعلم ما لا يعلمون. وسمعنا عن السلف من الأصحاب والتابعين ما لا يسمعون.
وهذا قول الشيخ عن علمه الوافر بالسنن والآثار، مع اجتهاده وتحريه الصواب، ولكن نبسط لأهل الإنكار لسان الاعتذار، ونوضح لهم الفرق بين سماع يُؤْثَر وبين سماع يُنْكَر.
(وسَمِع) الشبلي قائلا يقول:
أسائل عن سلمى فهل من مخبر |
* | يكون له علم بها أين تنزل |
فزعق الشبلي وقال: لا والله ما في الدارين عنه مخبر.
(وقيل) الوجد سر صفات الباطن، كما أن الطاعة سر صفات الظاهر، وصفات الظاهر الحركة والسكون، وصفات الباطن الأحوال والأخلاق.
وقال أبو نصر السراج: أهل السماع على ثلاث طبقات: فقوم يرجعون في سماعهم إلى مخاطبات الحق لهم فيما يسمعون، وقوم يرجعون فيما يسمعون إلى مخاطبات أحوالهم ومقامهم وأوقاتهم، فهم مرتبطون بالعلم، ومطالبون بالصدق فيما يشيرون لله من ذلك. وقوم هم الفقراء المجردون الذين قطعوا العلائق ولم تتلوث قلوبهم بمحبة الدنيا والجمع والمنع، فهم يسمعون لطيبة قلوبهم، ويليق بهم السماع؛ فهم أقرب الناس إلى السلامة، وأسلمهم من الفتنة، وكل قلب ملوث بحب الدنيا فسماعه سماع طبع وتكلف.
وسئل بعضهم عن التكلف في السماع، فقال: هو على ضربين: تكلف في المستمع؛ لطلب جاه أو منفعة دنيوية، وذلك تلبيس وخيانة، وتكلف فيه؛ لطلب الحقيقة، كمن يطلب الوجد بالتواجد، وهو بمنزلة التباكي المندوب إليه، وقول القائل: إن هذه الهيئة من الاجتماع بدعة، يقال له: إنما البدعة المحذورة الممنوع منها بدعة تزاحم سنة مأمورًا بها، وما لم يكن هكذا فلا بأس به، وهذا كالقيام للداخل لم يكن، فكان في عادة العرب ترك ذلك حتى نقل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدخل ولا يُقام له، وفي البلاد التي فيها هذا القيام لهم عادة إذا اعتمد ذلك لتطييب القلوب والمداراة لا بأس به؛ لأن تركه يوحش القلوب ويوغر الصدور، فيكون ذلك من قبيل العشرة وحسن الصحبة، ويكون بدعةً لا بأس بها؛ لأنها لم تزاحم سنة مأمورة.