(الباب الثالث عشر في فضيلةِ سكان الرباط)
قال الله تعالى: ﴿فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (36) رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ﴾ [النور: 36، 37].
قيل: إن هذه البيوت هي المساجد، وقيل: بيوت المدينة.
وقيل: بيوت النبي عليه الصلاة والسلام، (وقيل:) لما نزلت هذه الآية قام أبو بكر رضى الله عنه وقال: يا رسول الله، هذه البيوت منها بيتُ علي وفاطمة؟ قال: «نعم، أفضلها».
(وقال) الحسنُ: بقاعُ الأرض كلها جعلت مسجدًا لرسول الله -عليه الصلاة والسلام-. فعلى هذا الاعتبار بالرجال الذاكرين لا بصور البقاع وأي بقعة حوت رجالًا بهذا الوصف هي البيوت التي أَذِن الله أن تُرفع.
روى أنس بن مالك رضى الله عنه أنه قال: «ما من صباح ولا رواح إلا وبقاع الأرض ينادي بعضها بعضًا: هل مر بك اليوم أحدٌ صلى عليك؟ أو: ذكر الله عليك؟ فمن قائلة: نعم، ومن قائلة: لا، فإذا قالت: نعم علمت أن لها عليها بذلك فضلًا، وما من عبد ذكر الله تعالى على بقعة من الأرض أو صلى لله عليها إلا شهدت له بذلك عند ربه، وبكت عليه يوم يموت.
(وقيل): في قوله تعالى: ﴿فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ﴾ [الدُّخان: 29] تنبيه على فضيلة أهل الله تعالى من أهل طاعته؛ لأن الأرض تبكي عليهم، ولا تبكي على من ركن إلى الدنيا واتبع الهوى، فسكان الرباط هم الرجال؛ لأنهم ربطوا نفوسهم على طاعة الله تعالى، وانقطعوا إلى الله، فأقام لهم الدنيا خادمةً.
(روى) عمرانُ بن الحصين قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من انقطع إلى الله كفاه الله مؤنتَه، ورَزَقه من حيث لا يحتسب، ومن انقطع إلى الدنيا وَكَلَه الله إليها». وأصل الرباط ما يربط فيه الخيول، ثم قيل لكل ثغر يدفع أهله عمن وراءهم: رباط، فالمجاهد المرابط يدفع عمن وراءه، والمقيم في الرباط على طاعة الله يُدْفَع به وبدعائه البلاءُ عن العباد والبلاد.
(أخبرنا) الشيخ العالم رضي الدين أبو الخير أحمد بن إسماعيل القزويني -إجازة- قال: أنا أبو سعيد محمد بن أبي العباس الخليلي قال: أخبرنا القاضي محمد بن سعيد الفرخزاذي قال: أنا أبو إسحاق أحمد بن محمد قال: أنا الحسين بن محمد قال: حدثنا أبو بكر بن خرجة قال: حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: حدثني أبو حُمَيْدٍ الحمصيُّ قال: حدثنا يحيى بن سعيد (3)القطار -(3)قوله بالهامش: القطار، هكذا بنسخةٍ، وفي أخرى: العطار، ولعله: القطان بالنون، وليحرر- قال: حدثنا حفص بن سليمان عن محمد بن سوقة عن وبرة بن عبد الرحمن عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله تعالى ليدفع بالمسلم الصالح عن مئةٍ من أهل بيته ومن جيرانه البلاءَ».
(وروي) عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لَوْلَا عِبَادٌ للَّهِ رُكَّعٌ، وَصِبْيَةٌ رُضَّعٌ، وَبَهَائِمُ رُتَّعٌ لَصُبَّ عَلَيْكُمُ الْعَذَابُ صَبًّا ثُمَّ يرض رَضًّا». 7
(وروى) جابر بن عبد الله قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله تعالى لَيُصْلِحُ بصلاح الرجل ولدَه، وولدَ ولدِه، وأهلَ دويرته ودويرات حوله، ولا يزالون في حفظ الله ما دام فيهم».
(وروى) داود بن صالح قال: قال لي أبو سلمة بن عبد الرحمن: يا ابن أخي، هل تدري في أي شيء نزلت هذه الآية: ﴿اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا﴾ [آل عمران: 200]؟ قلت: لا، قال: يا ابن أخي، لم يكن في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم غزو يربط فيه الخيل، ولكنه انتظار الصلاة بعد الصلاة، فالرباط لجهاد النفس، والمقيم في الرباط مرابط مجاهدٌ نفسَه، قال الله تعالى: ﴿وَجَاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ﴾ [الحج: 78]. قال عبد الله بن المبارك: هو مجاهدة النفس والهوى، وذلك حق الجهاد، وهو الجهاد الأكبر على ما روي في «الخبر»، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال حين رجع من بعض غزواته: «رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر».
(وقيل:) إن بعض الصالحين كتب إلى أخٍ له يستدعيه إلى الغزو، فكتب إليه: يا أخي، كل الثغور مجتمعة لي في بيت واحد، والبابُ عَلَيَّ مردود. فكتب إليه أخوه: لو كان الناس كلهم لزموا ما لزمته اختلت أمور المسلمين وغلب الكفار، فلا بد من الغزو والجهاد. فكتب إليه: يا أخي، لو لزم الناس ما أنا عليه، وقالوا في زواياهم على سجادتهم: ألله أكبر، انهدم سور قسطنطينية.
(وقال بعض الحكماء:) ارتفاع الأصوات في بيوت العبادات بحسن النيات، وصفاء الطويات يحل ما عقدته الأفلاك الداثرات، فاجتماع أهل؛ إذ الربط أصح على الوجه الموضوع له الربط، وتحقق أهل الربط بحسن المعاملة ورعاية الأوقات، وتوقي ما يُفْسِدُ الأعمال، واعتماد ما يصحح الأحوال عادت البركة على البلاد والعباد.
(قال سري السقطي) في قوله تعالى: ﴿اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا﴾ [آل عمران: 200]: اصبروا عن الدنيا رجاء السلامة، وصابروا عند القتال بالثبات والاستقامة، ورابطوا أهواء النفس اللوامة، واتقوا ما يعقب لكم الندامة، لعلكم تفلحون غدًا على بساط الكرامة. وقيل: اصبروا على بلائي، وصابروا على نعمائي، ورابطوا في دار أعدائي، واتقوا محبة مَن سوائي، لعلكم تفلحون غدًا بلقائي.
وهذه شرائط ساكن الرباط: قطعُ المعاملة مع الخلق، وفتحُ المعاملة مع الحق، وتركُ الاكتساب اكتفاءً بكفالة مسبب الأسباب، وحبسُ النفس عن المخالطات، واجتناب التبعات، وعانق ليله ونهاره العبادة متعوضًا بها عن كل عادة، شغله حفظ الأوقات، وملازمة الأوراد وانتظار الصلوات، واجتناب الغفلات؛ ليكون بذلك مرابطًا مجاهدًا.
(حدثنا) شيخنا أبو النجيب السهروردي قال: أنا ابن نبهان محمد الكاتب قال: أن الحسن بن شاذان قال: أنا دعلج قال: أنا البغوي عن أبي عُبَيْدٍ القاسم بن سلام قال: حدثنا صفوان عن الحرث عن سعيد بن المسيب عن علي بن أبي طالب رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِسْبَاغُ الْوُضُوءِ في الْمَكَارِهِ وإعمال الأقدام إِلَى الْمَسَاجِدِ وَانْتِظَارُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ يغسل الخطايا غسلًا».
وفي رواية: «أَلَا أخبركم بمَا يَمْحُو اللهُ بِهِ الْخَطَايَا وتُرْفَع بِهِ الدَّرَجَاتِ؟». قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ. قَالَ «إِسْبَاغُ الْوُضُوءِ في الْمَكَارِهِ، وَكَثْرَةُ الْخُطَا إِلَى الْمَسَاجِدِ، وَانْتِظَارُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ، فَذَلِكُمُ الرِّبَاطُ، فَذَلِكُمُ الرِّبَاطُ، فَذَلِكُمُ الرِّبَاطُ».