(الباب الحادي والعشرون في شرح حال المتجرد والمتأهل من الصوفية وصحة مقاصدهم)
الصوفي يتزوج لله، كما يتجرد لله، فلتجرده مقصد وأوان، ولتأهله مقصد وأوان، والصادق يعلم أوان التجرد والتأهل؛ لأن الطبعَ الجموح للصوفي ملجم بلجام العلم، مهما يصلح له التجرد لا يستعجله الطبع إلى التزوج، ولا يقدم على التزوج إلا إذا انصلحت النفس واستحقت إدخال الرفق عليها، وذلك إذا صارت منقادةً مطواعة مجيبة إلى ما يراد منها، بمثابة الطفل الذي يتعاهد بما يروق له ويمنع عما يضره، فإذا صارت النفس محكومة مطواعة فقد فاءت إلى أمر الله، وتنصلت عن مشاحة القلب، فيصلح بينهما بالعدل، وينظر في أمرِهما بالقسط، ومن صبر من الصوفية على العذوبة هذا الصبر إلى حين بلوغ الكتاب أجلَه ينتخب له الزوجة انتخابًا، ويهيئ الله له أعوانًا وأسبابًا، وينعم برفيق يدخل عليه، ورزق يساق إليه، ومتى استعجل المريد واستفزه الطبع وخامره الجهل بثوران دخان الشهوة المطفئة لشعاع العلم، وانحط من أوج العزيمة الذي هو قضية حالِه وموجب إرادته وشريطة صدق طلبه إلى حضيض الرخصة التي هي رحمة من الله تعالى لعامة خلقه؛ يحكم عليه بالنقصان، ويشهد له بالخسران، ومثل هذا الاستعجال هو حضيض الرجال.
قال سهل بن عبد الله التستري: إذا كان للمريد مال يتوقع به زيادة فدخل عليه الابتلاء فرجوعه في الابتلاء إلى حال دون ذلك نقصان وحدث.
وسمعت بعض الفقراء وقد قيل له: لم لا تتزوج؟ فقال: المرأة لا تصلح إلا للرجال، وأنا ما بلغت مبلغ الرجال فكيف أتزوج؟ فالصادقون لهم أوان بلوغ عنده يتزوجون، وقد تعارضت الأخبار وتماثلت الآثار في فضيلة التجريد والتزويج، وتنوع كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك لتنوع الأحوال، فمنهم من فضيلته في التجريد، ومنهم من فضيلته في التأهل.
وكل هذا التعارض في حق من نار توقانه برد وسلام لكمال تقواه وقهره هواه، وإلا ففي غير هذا الرجل الذي يخاف عليه الفتنة يجب النكاح في حال التوقان المفرط، ويكون الخلاف بين الأئمة في غير التائق، فالصوفي إذا صار متأهلا يتعين على الإخوان معاونته بالإيثار، ومسامحته في الاستكثار إذا رؤي ضعيف الحال قاصرًا عن رتبة الرجال، كما وصفنا من صبر حتى ظفر لما بلغ الكتاب أجله.
(أخبرنا) أبو زرعة عن والده أبي الفضل المقدسي الحافظ قال: أنا أبو محمد عبد الله بن محمد الخطيب قال: أنا أبو الحسين محمد بن عبد الله ابن أخي ميمي قال: أنا أبو القاسم عبيد الله بن محمد بن عبد العزيز قال: حدثنا محمد بن هارون قال: أنا أبو المغيرة قال: حدثنا صفوان بن عمرو قال: حدثنا عبد الرحمن بن جبير عن أبيه عن عوف بن مالك قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جاءه فيء قسمه في يومه، فأعطى المتأهل حظين، والعزب حظًّا واحدًا، فدعينا، وكنت أدعى قبل عمار بن ياسر، فأعطاني حظين وأعطاه حظًا واحدًا، فسخط حتى عرف ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجهه ومن حضره، فبقيت معه سلسلة من ذهب، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يرفعها بطرف عصاه وتسقط، وهو يقول: «كيف أنتم يوم يكثر لكم من هذا؟»، فلم يجبه أحد، فقال عمار: وددنا يا رسول الله لو قد أكثر لنا من هذا.
فالتجرد عن الأزواج والأولاد أعون على الوقت للفقير وأجمع لهمه وألذ لعيشه.
ويصلح للفقير في ابتداء أمره قطع العلائق ومحو العوائق والتنقل في الأسفار وركوب الأخطار والتجرد عن الأسباب، والخروج عن كل ما يكون حجابًا، والتزوج انحطاط من العزيمة إلى الرخص، ورجوع من التروح إلى النغص، وتقيد بالأولاد والأزواج، ودوران حول مظان الاعوجاج، والتفات إلى الدنيا بعد الزَّهادة، وانعطاف على الهوى بمقتضى الطبيعة والعادة.
(قال) أبو سليمان الداراني: ثلاث من طلبهن فقد ركن إلى الدنيا: من طلب معاشًا، أو تزوج امرأة، أو كتب الحديث.
(وقال:) ما رأيت أحدًا من أصحابنا تزوج فثبت على مرتبته.
(أخبرنا) الشيخ طاهر قال: أنا والدي أبو الفضل قال: أنا محمد بن إسماعيل المقري قال: أنا أحمد بن الحسن قال: أنا حاجب الطوسي قال: حدثنا عبد الرحيم قال: حدثنا الفزاري عن سليمان التيمي عن أبي عثمان النهدي عن أسامة بن زيد -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَا تَرَكْتُ بَعْدِي فِتْنَةً أَضَرَّ عَلَى الرِّجَالِ مِنَ النِّسَاءِ».
وروى رجاء بن حيوة عن معاذ بن جبل قال: ابتلينا بالضراء فصبرنا، وابتلينا بالسراء فلم نصبر، وإن أخوف ما أخاف عليكم فتنة النساء إذا تسورن بالذهب، ولبسن ريط الشام وعصب اليمن، وأتعبن الغني، وكلفن الفقير ما لا يجد.
وقال بعض الحكماء: معالجة العزوبة خير من معالجة النساء.
وسئل سهل بن عبد الله عن النساء، فقال: الصبر عنهن خير من الصبر عليهن، والصبر عليهن خير من الصبر على النار.
وقيل في تفسير قوله تعالى: ﴿وَخُلِقَ الإِنْسَانُ ضَعِيفًا﴾ [النساء: 28]؛ لأنه لا يصبر على النساء.
وقيل في قوله تعالى: ﴿رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ﴾ [البقرة: 286] الغلمة.
فإن قدر الفقير على مقاومة النفس ورزق العلم الوافر بحسن المعاملة في معالجة النفس، وصبر عنهن، فقد حاز الفضل، واستعمل العقل، واهتدى إلى الأمر السهل.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خيرُكم بعد المائتين رجل خفيف الحاذ». قيل: يا رسول الله، وما خفيف الحاذ؟ قال: «الذي لا أهلَ ولا ولد».
وقال بعض الفقراء لما قيل له تزوج: أنا إلى أن أطلق نفسي أحوج مني إلى التزوج، وقيل لبشر بن الحرث: إن الناس يتكلمون فيك، فقال: ما يقولون؟ قيل: يقولون: إنه تارك للسنة؛ يعني النكاح، فقال: قولوا لهم أنا مشغول بالفرض عن السنة.
(وكان يقول): لو كنت أعول دجاجة خفت أن أكون جلادًا على الجسر، والصوفي مبتلى بالنفس ومطالبتها، وهو في شغل شاغل عن نفسه، فإذا انضاف إلى مطالبات نفسه مطالبات زوجته يضعف طلبه، وتكل إرادته، وتفتر عزيمته، والنفس إذا أطمعت طمعت وإذا أقنعت قنعت، فيستعين الشاب الطالب على حسم مواد خاطر النكاح بإدامة الصوم، فإن للصوم أثرًا ظاهرًا في قمع النفس وقهرِها.
وقد ورد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بجماعة من الشبان وهم يرفعون الحجارة، فقال: «يَا مَعْشَرَ الشَّبَان مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فليصم فإن الصوم لَهُ وِجَاءٌ»، أصل الوجاء رض الخصيتين، كانت العرب تجأ الفحل من الغنم لتذهب فحولته ويسمن، ومنه الحديث: ضحى رسول الله صلى الله عليه وسلم بكبشين أملحين موجوأين.
وقد قيل: هي النفس إن لم تشغلها شغلتك، فإذا أدام الشاب المريد العمل، وأذاب نفسه في العبادة تقل عليه خواطر النفس، وأيضًا شغله بالعبادة يثمر له حلاوة المعاملة، ومحبة الإكثار منه، ويفتح عليه باب السهولة والعيش في العمل، فيغار على حاله ووقته أن يتكدر بهمِّ الزوجة.
ومن حسن أدب المريد في عزوبته ألَّا يمكن خواطر النساء من باطنه، وكلما خطر له خاطرُ النساء والشهوة يفر إلى الله تعالى بحسن الإنابة، فيتداركه الله تعالى حينئذٍ بقوة العزيمةِ، ويؤيده بمراغمة النفس، بل ينعكس على نفسه نور قلبه ثوابا لحسن إنابته، فتسكن النفس عن المطالبة، ثم يعرض على نفسه ما يدخل عليه بالنكاح من الدخول في المداخل المذمومة المؤدية إلى الذل والهوان، وأخذ الشيء من غير وجهه، وما يتوقع من القواطع بسبب التفات الخواطر إلى ضبط المرأة وحراستها، والكلف التي لا تنحصر.
وقد سئل عبد الله بن عمر عن جهد البلاء، فقال: كثرة العيال، وقلة المال. وقد قيل: كثرة العيال أحد الفقرين، وقلة العيال أحد اليسارين.
وكان إبراهيم بن أدهم يقول: من تعود أفخاذ النساء لا يفلح؛ ولا شك أن المرأة تدعو إلى الرفاهية والدعة، وتمنع عن كثرة الاشتغال بالله وقيام الليل وصيام النهار، ويتسلط على الباطن خوف الفقر ومحبة الادخار، وكل هذا بعيد عن المتجرد.
وقد ورد: إذا كان بعد المائتين أبيحت العزوبة لأمتي. فإن توالت على الفقير خواطر النكاح، وزاحمت باطنه سيما في الصلاة والأذكار والتلاوة فليستعن بالله أولًا، ثم بالمشايخ والإخوان ويشرح الحال لهم، ويسألهم مسألة الله له في حسن الاختيار، ويطوف على الأحياء والأموات والمساجد والمشاهد ويستعظم الأمر، ولا يدخل فيه بقلة الاكتراث فإنه باب فتنة كبيرة، وخطر عظيم.
وقد قال الله تعالى: ﴿إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ﴾ [التغابن: 14].
ويكثر الضراعة إلى الله تعالى، ويكثر البكاء بين يديه في الخلوات، ويكرر الاستخارة، وإن رزق القوة والصبر حتى يستبين له من فضل الله الخيرة في ذلك، فهو الكمال والتمام فقد يكشف الله تعالى للصادق منعًا أو إطلاقًا في منامه أو يقظته، أو على لسان من يثق إلى دينه وحاله أنه إذا أشار لا يشير إلا على بصيرة، وإذا حكم لا يحكم إلا بحق، فعند ذلك يكون تزوجه مدبرًا معانًا فيه.
(وسمعنا) أن الشيخ عبد القادر الجيلي قال له بعض الصالحين: لم تزوجت؟ فقال: ما تزوجت حتى قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: تزوج، فقال له ذلك الرجل: الرسول صلى الله عليه وسلم يأمر بالرخص، وطريق القوم التزم بالعزيمة، فلا أعلم ما قال الشيخ في جوابه، ولكني أقول: رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمره بالرخصة، وأمره على لسان الشرع، فأما من التجأ إلى الله تعالى، وافتقر إليه واستخاره فيكاشفه الله بتنبيهه إياه في منامه، وأمره هذا لا يكون أمر رخصة، بل هو أمر يتبعه أرباب العزيمة؛ لأنه من علم الحال لا من علم الحكم، ويدل على صحة ما وقع لي ما نقل عنه أنه قال: كنت أريد الزوجة مدة من الزمان، ولا أجترئ على التزوج؛ خوفًا من تكدير الوقت، فلما صبرت إلى أن بلغ الكتاب أجله ساق الله لي أربع زوجات ما فيهن إلا من تنفق علي إرادة ورغبة، فهذه ثمرة الصبر الجميل الكامل، فإذا صبر الفقير، وطلب الفرج من الله يأتيه الفرج والمخرج، ومن يتق الله يجعل له مخرجًا ويرزقه من حيث لا يحتسب، فإذا تزوج الفقير بعد الاستقصاء والإكثار من الضراعة والدعاء، وورد عليه وارد من الله تعالى بإذن فيه فهو الغاية والنهاية، وإن عجز عن الصبر إلى ورود الإذن واستنفد جهده في الدعاء والضراعة فقد يكون ذلك حظه من الله تعالى، ويعان عليه لحسن نيته وصدق مقصده وحسن رجائه واعتماده على ربه.
وقد نقل عن عبد الله بن عباس أنه قال: لا يتم نسك الشاب حتى يتزوج، ونقل عن شيخ من مشايخ خراسان أنه كان يُكثر التزوج حتى لم يكن يخلو عن زوجتين أو ثلاث، فعوتب في ذلك فقال: هل يعرف أحد منكم أنه جلس بين يدي الله تعالى جلسة، أو وقف وقفة في معاملته فخطر على قلبه خاطر شهوة؟ فقالوا: قد يصيبنا ذلك، فقال: لو رضيت في عمري كله بمثل حالكم في وقت واحد ما تزوجت قط، ولكني ما خطر على قلبي خاطر شهوة قط شغلني عن حالي إلا نفذته لأستريح منه، وأرجع إلى شغلي، ثم قال: منذ أربعين سنة ما خطر على قلبي خاطر معصية.
فالصادقون ما دخلوا في النكاح إلا على بصيرة، وقصدوا حسم مواد النفس، وقد يكون للأقوياء والعلماء الراسخين في العلم أحوال في دخولهم في النكاح تختص بهم، وذلك أنهم بعد طول المجاهدات والمراقبات والرياضات تطمئن نفوسهم، وتقبل قلوبهم، وللقلوب إقبال وإدبار، يقول بعضهم: إن للقلوب إقبالًا وإدبارًا، فإذا أدبرت روحت بالإرفاق، وإذا أقبلت ردت إلى الميثاق، فتبقى قلوبهم دائمة الإقبال إلا اليسير، ولا يدوم إقبالها إلا لطمأنينة النفوس، وكفها عن المنازعة، وترك التشبث في القلوب، فإذا اطمأنت النفوس واستقرت من طيشها ونفورها وشراستها توفرت عليها حقوقها، وربما يصير من حقوقها حظوظها؛ لأن في أداء الحق إقناعًا، وفي أخذ الحظ اتساعًا، وهذا من دقيق علم الصوفية، فإنهم يتسعون بالنكاح المباح إيصالًا إلى النفس حظوظها؛ لأنها ما زالت تخالف هواها حتى صار داؤها، وصارت الشهوات المباحة واللذات المشروعة لا تضرها، ولا تفتر عليها عزائمها، بل كلما وصلت النفوس الزكية إلى حظوظها ازداد القلب انشراحًا وانفساحًا، ويصير بين القلب والنفس موافقة، يعطف أحدهما على الآخر ويزداد كل واحد مهما بما يدخل على الآخر من الحظ، كلما أخذ القلب حظه من الله خلع على النفس خلع الطمأنينة، فيكون مزيد السكينة للقلب مزيد الطمأنينة للنفس وينشد:
إن السماء إذا اكتست كست الثرى |
* | حللًا يدبجها الغمام الراهم |
وكلما أخذت النفس حظها تروح القلب، تروح الجار المشفق براحة الجار.
(سمعت) بعض الفقراء يقول: النفس تقول للقلب: كن معي في الطعام أكن معك في الصلاة، وهذا من الأحوال العزيزة، لا تصلح إلا لعالم رباني، وكم من مدع يهلك بتوهمه هذا في نفسه، ومثل هذا العبد يزداد بالنكاح ولا ينقص، والعبد إذا كمل علمه يأخذ من الأشياء ولا تأخذ الأشياء منه، وقد كان الجنيد يقول: أنا أحتاج إلى الزوجة كما أحتاج إلى الطعام.
(وسمع) بعضُ العلماء بعض الناس يطعن في الصوفية، فقال: يا هذا ما الذي ينقصهم عندك؟ فقال: يأكلون كثيرًا، فقال: وأنت أيضًا لو جعت كما يجوعون أكلت كما يأكلون، ثم قال: ويتزوجون كثيرًا، قال: وأنت أيضًا لو حفظت فرجك كما يحفظون تزوجت كما يتزوجون، قال: وأي شيء أيضًا؟ قال: يسمعون القول، قال: وأنت أيضًا لو نظرت كما ينظرون سمعت كما يسمعون.
(وكان سفيان بن عيينة) يقول: كثرة النساء ليست من الدنيا؛ لأن عليًّا رضى الله عنهكان أزهد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان له أربع نسوة وسبع عشرة سرية، وكان ابن عباس رضى الله عنه يقول: خير هذه الأمة أكثرها نساء.
(وقد ذكر في أخبار الأنبياء) أن عابدًا تبتل للعبادة حتى فاق أهل زمانه، فذكر لنبي ذلك الزمان، فقال: نعم الرجل لولا أنه تارك لشيء من السنة، فنمي ذلك إلى العباد فأهمه، فقال: ما تنفعني عبادتي وأنا تارك السنة، فجاء إلى النبي عليه السلام فسأله، فقال: نعم إنك تارك التزوج.
فقال: ما تركته لأني أحرمه، وما منعني منه إلا أني فقير لا شيء لي، وأنا عيال على الناس يطعمني هذا مرة وهذا مرة، فأكره أن أتزوج بامرأة أعضلها أو أرهقها جهدًا، فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: وما يمنعك إلا هذا؟ قال: نعم، فقال: أنا أزوجك ابنتي، فزوجه النبي عليه السلام ابنته.
وكان عبد الله بن مسعود يقول: لو لم يبقَ من عمري إلا عشرة أيام أحببت أن أتزوج ولا ألقى الله عزبًا. وما ذكر الله تعالى في القرآن من الأنبياء إلا المتأهلين.
(وقيل): أن يحيى بن زكريا عليهما السلام تزوَّج لأجل السنة، ولم يكن يقربها.
(وقيل): أن عيسى عليه السلام: سينكح إذا نزل إلى الأرض ويولد له.
(وقيل): أن ركعة من متأهل خير من سبعين ركعة من عزب.
(أخبرنا) الشيخ الطاهر بن أبي الفضل قال: أنا أبو منصور محمد بن الحسين بن أحمد بن الهيثم المقومي القزويني قال: أنا أبو طلحة القاسم بن أبي البدر الخطيب قال: حدثنا أبو الحسن علي بن إبراهيم بن سلمة القطان قال: حدثنا أبو عبد الله محمد بن يزيد بن ماجه قال: حدثنا أحمد بن الأزهر قال: حدثنا آدم قال: حدثنا عيسى بن ميمون عن القاسم عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «النِّكَاحُ سُنَّتِي فَمَنْ لَمْ يَعْمَلْ بِسُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي فَتَزَوَّجُوا فَإِنِّي مُكَاثِرٌ بِكُمُ الأُمَمَ، وَمَنْ كَانَ ذَا طَوْلٍ فَلْيَنْكِحْ، وَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَعَلَيْهِ بِالصِّيَامِ؛ فَإِنَّ الصَّوْمَ لَهُ وِجَاءٌ».
ومما ينبغي للمتأهل أن يحذر من الإفراط في المخالطة والمعاشرة مع الزوجة إلى حد ينقطع عن أوراده وسياسة أوقاته، فإن الإفراط في ذلك يقوي النفس وجنودها، ويفتر ناهض الهمة.
(وللمتأهل) بسبب الزوجة فتنتان: فتنة لعموم حالِه، وفتنة لخصوص حاله؛ ففتنة عموم حاله الإفراط في الاهتمام بأسباب المعيشة.
(كان الحسن) يقول: والله ما أصبح اليوم رجل يطيع امرأته فيما تهوى إلا أكبه الله على وجهه في النار.
(وفي الخبر) يأتي على الناس زمان يكون هلاك الرجل على يد زوجته وأبويه وولده؛ يعيرونه بالفقر، ويكلفونه ما لا يطيق، فيدخل في المداخل التي يذهب فيها دينه فيهلك.
(وروي) أن قومًا دخلوا على يونس عليه السلام فأضافهم، وكان يدخل ويخرج إلى منزله، فتؤذيه امرأته وتستطيل عليه، وهو ساكت، فعجبوا من ذلك وهابوه أن يسألوه فقال: لا تعجبوا من هذا فإني سألت الله فقلت: يا رب ما كنت معاقبي به في الآخرة فعجله لي في الدنيا، فقال: إن عقوبتك بنت فلان تزوج بها، فتزوجت بها وأنا صابر على ما ترون.
فإذا أفرط الفقير في المداراة ربما تعدى حد الاعتدال في وجوه المعيشة متطلبًا رضا الزوجة فهذا فتنة عموم حاله.
وفتنة خصوص حاله الإفراط في المجالسة والمخالطة، فتنطلق النفس عن قيد الاعتدال، وتسترق الغرض بطول الاسترسال، فيستولي على القلب بسبب ذلك السهو والغفلة، ويستجلس مقار المهلة، فيقل الوارد لقلة الأوراد، ويتكدر الحال لإهمال شروط الأعمال، وألطف من هذين الفتنتين فتنة أخرى تختص بأهل القرب والحضور، وذلك أن للنفوس امتزاجًا، وبرابطة الامتزاج تعتضد وتشتد وتتطرى طبيعتها الجامدة، وتلتهب نارها الخامدة، فدواء هذه الفتنة أن يكون للمتأهل عند المجالسة عينان باطنان ينظر بهما إلى مولاه، وعينان ظاهران يستعملهما في طريق هواه.
وقد قالت رابعة في معنى هذا نظمًا:
إني جعلتك في الفؤاد محدثي |
* | وأبحت جسمي من أراد جلوسي |
فالجسم مني للجليس مؤانس |
* | وحبيب قلبي في الفؤاد أنيسي |
(وألطف من هذا فتنة أخرى) يخشاها المتأهل، وهو أن يصير للروح استرواح إلى لطف الجمال، ويكون ذلك الاسترواح موقوفًا على الروح، ويصير ذلك وليجة في حب الروح المخصوص بالتعلق بالحضرة الإلهية، فتتبلد الروح، وينسد باب المزيد من الفتوح، وهذه البلادة في الروح يعز الشعور بها فلتحذر، ومن هذا القبيل دخلت الفتنة على طائفة قالوا بالمشاهدة، وإذا كان في باب الحلال وليجة في الحب يتولد منها بلادة الروح في القيام بوظائف حب الحضرة الإلهية فما ظنك فمن يدعي ذلك في باب غير مشروع يغره سكون النفس، فيظن أنه لو كان من قبيل الهوى ما سكنت النفس، والنفس لا تسكن في ذلك دائما، بل تسلب من الروح ذلك الوصف، وتأخذه إليها على أني استبحثت عما يبتلي به المفتونون بالمشاهدة، فوجدت المحمي من ذلك من صورة الفسق عنده رغوة شراب الشهوة؛ إذ لو ذهب علة الشراب ما بقيت الرغوة، فليحذر ذلك جدًّا، ولا يسمع ممن يدعي فيه حالًا وصحة، فإنه كذاب مدع.
ولهذا المعنى قال الأطباء: الجماع يسكن هيجان العشقِ، وإن كان من غير المعشوق فليعلم أن مستنده الشهوة، ويكذب من يدعي فيه حالًا وهذه فتن المتأهل.
وفتنة العزب مرور النساء بخاطره وتصورهن في متخيله، ومن أعطي الطهارة في باطنه لا يدنس باطنه بخواطر الشهوة، وإذا سنح الخاطر يمحوه بحسن الإنابة واللياذ بالهرب، ومتى سامر الفكر كثف الخاطر، وخرج من القلب إلى الصدر، وعند ذلك يحذر إحساس العضو بالخاطر فيصير ذلك عملًا خفيًّا، وما أقبح مثل هذا بالصادق المتطلع إلى الحضور واليقظة! فيكون ذلك فاحشة الحال، وقد قيل: مرور الفاحشة بقلب العارفين كفعل الفاعلين لها، والله أعلم.