(الباب الثاني والأربعون في ذكر الطعام وما فيه من المصلحة والمفسدة)
الصوفي بحسن نيته، وصحة مقصده، ووفور علمه، وإتيانه بآدابه تصير عاداته عبادة، والصوفي موهوب وقته لله، ويريد حياته لله. كما قال الله تعالى لنبيه آمرًا له: ﴿قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [الأنعام: 162]. فتدخل على الصوفي أمور العادة لموضع حاجته وضرورة بشريته، ويحف بعاداته نور يقظته، وحسن نيته، فتتنور العادات، وتتشكل بالعبادات؛ ولهذا ورد: نوم العالِم عبادة، ونفَسه تسبيح. هذا مع كون النوم عين الغفلة، ولكن كل ما يستعان به على العبادة يكون عبادة، فتناول الطعام أصل كبير يحتاج إلى علوم كثيرة؛ لاشتماله على المصالح الدينية والدنيوية، وتعلق أثره بالقلب والقالب، وبه قوام البدن بإجراء سنة الله تعالى بذلك، والقلب مركب القلب، وبهما عمارة الدنيا والآخرة.
(وقد ورد) «أرض الجنة قيعان، ثباتها التسبيح والتقديس». والقالب بمفرده على طبيعة الحيوانات، يستعان به على عمارة الدنيا، والروح والقلب على طبيعة الملائكة يستعان بهما على عمارة الآخرة، وباجتماعهما صلحا لعمارة الدارين. والله تعالى رَكَّب الآدمي بلطيف حكمته من أخص جواهر الجسمانيات والروحانيات، وجعله مستودع خلاصة الأرضين والسماوات، وجعل عالم الشهادة، وما فيها من النبات والحيوان لقوام بدن الآدمي.
قال الله تعالى: ﴿خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا﴾ [البقرة: 29]. فَكَوَّن الطبائع وهي: الحرارة، والرطوبة، والبرودة، واليبوسة، وَكَوَّن بواسطتها النبات، وجعل النبات قوامًا للحيوانات، وجعل الحيوانات مسخرة للآدمي، يستعين بها على أمر معاشه لقوام بدنه. فالطعام يصل إلى المعدة، وفي المعدة طِبَاع أربع، فإذا أراد الله اعتدال مزاج البدن أخذ كل طبع من طباع المعدة ضده من الطعام، فتأخذ الحرارة للبرودة، والرطوبة لليبوسة، فيعدل المزاج، ويأمن الاعوجاج.
وإذا أراد الله تعالى إفناء قالب وتخريب بنية أخذت كل طبيعة جنسها من المأكول، فتميل الطبائع، ويضطرب المزاج، ويسقم البدن، ذلك تقدير العزيز العليم.
(روي) عن وهب بن منبه قال: وجدت في التوراة صفة آدم عليه السلام: إني خلقت آدم وركبت جسده من أربعة أشياء؛ من رطب، ويابس، وبارد، وسخن، وذلك لأني خلقته من التراب وهو يابس، ورطوبته من الماء، وحرارته من قبل النفس، وبرودته من قبل الروح، وخلقت في الجسد بعد هذا الخلق الأول أربعة أنواع من الخلق هن ملاك الجسم بإذني، وبهن قوامه، فلا يقوم الجسم إلا بهن، ولا تقوم منهن واحدة إلا بأخرى منهن، المرة السوداء، والمرة الصفراء، والدم، والبلغم، ثم أسكنت بعض هذا الخلقي في بعض، فجعلت مسكن اليبوسة في المرة السوداء، ومسكن الرطوبة في المرة الصفراء، ومسكن الحرارة في الدم، ومسكن البرودة في البلغم، فأيما جسد اعتدلَتْ فيه هذه الفطر الأربع التي جعلتها ملاكه وقوامه فكانت كل واحدة منهن ربعًا لا يزيد ولا ينقص كملت صحته واعتدلت بنيته، فإن زادت منهن واحدة عليهن هزمتهن، ومالت بهن، ودخل عليه السقم من ناحيته بقدر غلبتها حتى يضعف عن طاقتهن، ويعجز عن مقدارهن.
فأهم الأمور في الطعام أن يكون حلالًا، وكل ما لا يذمه الشرع حلال رخصة ورحمة من الله لعباده، ولولا رخصة الشرع كبر الأمر وأتعب طلب الحلال.
ومن أدب الصوفية: رؤية المنعم على النعمة، وأن يبتدئ بغسل اليد قبل الطعام، قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الوضوء قبل الطعام ينفي الفقر». وإنما كان موجبًا لنفي الفقر؛ لأن غسل اليد قبل الطعام استقبال النعمة بالأدب، وذلك من شكر النعمة، والشكر يستوجب المزيد، فصار غسل اليد مستجلبًا للنعمة مذهبًا للفقر.
وقد روى أنس بن مالك رضى الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «مَنْ أَحَبَّ أَنْ يكثرَ خَيْرَ بَيْتِهِ فَلْيَتَوَضَّأْ إِذَا حَضَرَ غَدَاؤُهُ، ثم يسمي الله تعالى».
فقوله تعالى: ﴿وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ﴾ [الأنعام: 121]. تفسيره: تسمية الله تعالى عند ذبح الحيوان.
واختلف الشافعي وأبو حنيفة -رحمهما الله- في وجوب ذلك، وفهم الصوفي من ذلك بعد القيام بظاهر التفسير ألَّا يأكل الطعام إلا مقرونًا بالذكر، فقرونه فريضة وقته وأدبه، ويرى أن تناول الطعام والماء ينتج من إقامة النفس ومتابعة هواها، ويرى ذكر الله تعالى دواءه وترياقه.
(روت) عائشة -رضي الله عنها- قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَأْكُلُ الطَّعَامَ فِي سِتَّةِ نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَجَاءَ أَعْرَابِيٌّ فَأَكَلَهُ بِلُقْمَتَيْنِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «أَمَا إِنَّهُ لَوْ كَانَ يسمي اللهِ لَكَفَاكُمْ، فَإِذَا أَكَلَ أَحَدُكُمْ طَعَامًا فَلْيَقُلْ: بِسْمِ اللهِ، فَإِنْ نَسِيَ أَنْ يَقُولَ بِسْمِ اللهِ فَلْيَقُلْ: بِسْمِ اللهِ أَوَّلِهِ وَآخِرِهِ».
ويستحب أن يقول في أول لقمة: بسم الله.
وفي الثانية: بسم الله الرحمن.
وفي الثالثة: يتم. ويشرب الماء بثلاثة أنفاس، يقول في أول نفس: الحمد لله إذا شرب، وفي الثانية: الحمد لله رب العالمين، وفي الثالثة: الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم، وكما أن للمعدة طباعًا تتقدر كما ذكرناه بموافقة طباع الطعام فللقلب أيضًا مزاج وطباع لأرباب التفقد والرعاية واليقظة، يعرف انحراف مزاج القلب من اللقمة المتناولة، تارة تحدث من اللقمة حرارة الطيش بالنهوض إلى الفضول، وتارة تحدث في القلب برودة الكسل بالتقاعد عن وظيفة الوقت، وتارة تحدث رطوبة السهو والغفلة، وتارة يبوسة الهم والحزن بسبب الحظوظ العاجلة، فهذه كلها عوارض يتفطن لها المتيقظ، ويرى تغير القالب بهذه العوارض تغير مزاج القلب عن الاعتدال، والاعتدال كما هو مهم طلبه للقالب، فللقلب أهم وأولى، وتطرق الانحراف إلى القلب أسرع منه إلى القالب، ومن الانحراف ما يسقم به القلب فيموت لموت القالب. واسم الله تعالى دواء نافع مجرب يقي الأسواء، ويذهب الداء، ويجلب الشفاء.
حكي أن الشيخ محمدًا الغزالي لما رجع إلى طوس وُصِفَ له في بعض القرى عبد صالح، فقصده زائرًا، فصادفه وهو في صحراء له يبذر الحنطة في الأرض، فلما رأى الشيخ محمدًا جاء إليه وأقبل عليه، فجاء رجل من أصحابه، وطلب منه البذر؛ لينوب عن الشيخ في ذلك وقت اشتغاله بالغزالي، فامتنع ولم يعطه البذر، فسأله الغزالي عن سبب امتناعه، فقال: لأني أبذر هذا البذر بقلب حاضر ولسان ذاكر، أرجو البركة فيه لكل من يتناول منه شيئًا، فلا أحب أن أسلمه إلى هذا فيبذره بلسان غير ذاكر، وقلب غير حاضر.
(وكان) بعض الفقراء عند الأكل يشرع في تلاوة سورة من القرآن، تحضر الوقت بذلك حتى تنغمر أجزاء الطعام بأنوار الذكر، ولا يعقب الطعام مكروه، ويتغير مزاج القلب.
وقد كان شيخنا أبو النجيب السهروردي يقول: أنا آكل وأنا أصلي، يشير إلى حضور القلب في الطعام، وربما كان يوقف من يمنع عنه الشواغل وقت أكله؛ لئلا يتفرق همه وقت الأكل، ويرى للذكر وحضور القلب في الأكل أثرًا كبيرًا لا يسعه الإهمال له.
ومن الذكر عند الأكل الفكر فيما هيأ الله تعالى من الأسنان المعينة على الأكل، فمنها الكاسرة، ومنها القاطعة، ومنها الطاحنة وما جعل الله تعالى من الماء الحلو في الفم حتى لا يتغير الذوق، كما جعل ماء العين مالحًا لما كان شحمًا حتى لا يفسد، وكيف جعل النداوة تنبع من أرجاء اللسان والفم؛ ليعين ذلك على المضغ والسوغ، وكيف جعل القوة الهاضمة مسلطة على الطعام تفصله وتجزئه، متعلقًا مددها بالكبد، والكبد بمثابة النار، والمعدة بمثابة القدر، وعلى قدر فساد الكبد تقل الهاضمة، ولا يفسد الطعام ولا ينفصل ولا يصل إلى كل عضو نصيبه، وهكذا تأثير الأعضاء كلها من الكبد والطحال والكليتين.
ويطول شرح ذلك، فمن أراد الاعتبار فليطالع تشريح الأعضاء؛ ليرى العجب من قدرة الله تعالى من تعاضد الأعضاء وتعاونها، وتعلق بعضها بالبعض في إصلاح الغذاء، واستجذاب القوة منه للأعضاء، وانقسامه إلى الدم والثفل واللبن؛ لتغذية المولود من بين فرث ودم لبنًا خالصًا سائغًا للشاربين، فتبارك الله أحسن الخالقين؛ فالفكر في ذلك وقت الطعام، وتعرف لطيف الحكم والقدر فيه من الذكر، ومما يذهب داء الطعام المغير لمزاج القلب أن يدعو في أول الطعام، ويسأل الله تعالى أن يجعله عونًا على الطاعة، ويكون من دعائه: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، وما رزقتنا مما نحب اجعله عونًا لنا على ما تحب، وما زويتَ عنا مما نحب اجعله فراغًا لنا فيما تحب.